حرب المواقع بدأت في الشارع. الدولة القديمة حصنت مواقعها بقوانين استباقية ضد دخول الغريب. حدث ذلك قبل الانتخابات الرئاسية بأشهر، استعداداً لرئيس من خارج «النخبة الدوارة». الدولة رغم شيخوختها تتحمل غريزة بقاء التماسيح، لكن الغريب الإخواني قادم بشهوة المقموع. دخول القصر حرك زهوة الانتصار وعاطفته في مجموعات تسعى الى تحقيق «اليوتوبيا» عبر الصناديق. ربما تكون الروايات الاولى تتحدث عن معرفة الأجهزة الأمنية بضحاياها، وتوقعهم لردود الفعل واستغلال ذلك لإثارة الفزع في الشارع. وربما يكون ذلك خطة احتلال سلبي للمواقع، وإثارة المخاوف عبر حوادث الاعتداء على شاب مع حبيبته في السويس لم يستمع لنصيحة «فرقة الاخلاق الرشيدة» فقتلته، او الوحوش الملتحية التى تهاجم النساء وتحذرهنّ من الخروج عن كتالوغ الزي السلفي. روايات يقول السلفيون إنّها من صنع الأمن، وهي في الحقيقة ليست كذلك تماماً... وهنا يبدو السؤال مهماً: لماذا يتصرف الاسلاميون كأنّهم غزاة احتلوا مدينة؟ هم ليسوا غزاة والمدينة ليست أسيرة. لكنّهم يتصرفون بهذا الاحساس. اتحدث عن القطاع الذي يفور على السطح، وقطاعات اخرى مصابة بهستيريا المنتصر.

لم يستبدل التيار الاسلامي نفسية الضحية بنفسية أخرى بعد، وهذا ما يجعلهم يتصرفون بتلك الطريقة التي افزعت قطاعات في المجتمع أو قصد بها إحداث فزع لم يواجهه عقلاء التيار، بما يرسي دعائم دولة حديثة تقوم على سيادة القانون وتبني جمهوريتها الجديدة على المواطنة لا اكثر. الجمهورية القادمة جمهورية السكان او المواطنين او المجتمع، لا جمهورية ابطال ولا مبعوثي العناية الإلهية. هذه حقيقة اذا فهمها التيار الاسلامي بمتشدديه وعقلائه سريعاً، يوفّر على مصر جولة عنيفة ومؤلمة هذه المرة، ولن يستفيد منها سوى العسكر. هكذا فإنّ فورة المتطرفين التي اعقبت فوز مرسي، باعتباره بشارة اكتمال الغزوة، لم تكن صدفة بل حيلة نفسية وسياسية تعوّض وصول الاسلاميين الى الحكم بغير ادواتهم ولا قوتهم وحدهم.
الثورة حركها او فجرها شباب خارج التصنيفات السياسية. هم وقودها وقوتها ووعيها الخارج على التدجين، وهذا ما يريد الإخوان تعويضه، وما تكشفه تصريحات مهدي عاكف، المشهور عنه عدم القدرة على اخفاء ما يدور في داخله، عندما هاجم فكرة «شباب الثورة». هذه الفكرة محورية في اداء الاخوان الذين اضطروا في جولة الاعادة وحرب اسقاط الشفيق الى فتح قنوات الاتصال من جديد مع الثورة وشعاراتها. القنوات اغلقت من قبل حين اعتبر الاخوان أنّ وصولهم الى البرلمان انتصار لقبيلتهم، ونهاية سعيدة للثورة. الصدام وقتها لم يكن شرخاً في الوعي أو شعوراً بالخيبة من الإخوان، لكنّه كان خبرة فاصلة تشير إلى الوعي المغلق للإخوان وتصرفهم بنحو غريزي على أنّهم «قبيلة» مغلقة على اهلها، وليس حزباً كبيراً يمكنه أن يتولى قيادة البلاد في مرحلة ما بعد إزاحة الديكتاتور.
«قبيلة» الإخوان مرتبكة الآن بين وعودها بألا تحكم وحدها بعد وصول مرسي بدعم الثورة، وشعارات «قوّتنا في وحدتنا»، وبين رغبتها في الحفاظ على التنظيم ووحدته بمنح جمهوره شعور بأنّه يحكم وحده. جمهور الاخوان اغلبه سلفي والجماعات السلفية فراملها لا تقف عند حدود ما يعلمه الإخوان، وهم يعرفون جيداً أنّ ما يسمى اعادة دولة الخلافة مجرد شاحن معنوي للحشد. السلف لا يزالون يتعاملون بقوة الشاحن لأنّ وجودهم السياسي لم يختبر قبل الثورة، وليست لهم خبرة في مجال السياسة. كذلك قادتهم او مشايخهم عاشوا فترات في توافق مع جهاز امن الدولة، وخصام مع الاخوان، لأنّهم كانوا يرون أن الدولة «كافرة» او «عاصية»، بينما الاخوان «مبتدعون» ويمكنهم التعامل مع الاولى لكن الثانية خطر على الايمان. والى وقت قريب، لم يكن السلفي يصلّي في مسجد الاخواني والعكس صحيح، إلى أن اقترب «النصر الانتخابي» الذي لم يكن التيار كلّه (اخواناً وسلفيين) جاهزاً له، واعتبره امراء السلف «غزوة صناديق» بينما انكشف خواء هذه التنظيمات وعلى رأسها الاخوان من كوادر سياسية.
المشايخ او الدعاة ليسوا سياسيين، وهذا ما تم اكتشافه عبر كوارث سياسية وشخصية في البرلمان. لكن هذه التنظيمات لم تعترف بالبرلمان بعد، ولا يزالون يعيشون في عالم افتراضي من صنعهم وحدهم يتخيلون فيه مجتمعاً آخر، ودولة اخرى. هذا هو تفسير الشعور بأنّهم غزاة. وهي مشاعر اذا لم يستوعبها قادة هذا التيار فإنّها ستؤدي الى كوارث ليس اقلها تحويل اصحاب اللحى الى «بعبع» المدينة. هذا التحوّل يزيد من غربة التنظيمات ويعيدها الى مرحلة التكفير والهجرة، رغم انتصارها في الانتخابات.
وهذا التحوّل سيزيد من سطوة العالم الافتراضي ومطالبة المجتمع بالاعتذار عن حياته الحقيقية. واخيراً فإن هذا سيقود قطاعات ليست قليلة الى اعادة انتظار العسكري.
لستم غزاة، ولن يقبل المجتمع الذي ثار على الديكتاتور ان يعود الى حالة قمع الشوارع. الشوارع هي المجال العام الذي يحترم الجميع قوانينه، والحريات الشخصية لا تسمح لأحد باقتحام حياة الآخرين او فرض كتالوغ خاص به على اي احد. الثورة حررت الشوارع، وهي ثورة لم تكن من إلهام الاسلاميين الذين امامهم فرصة الاندماج في الحياة السياسية، لا في التعامل على انهم في غزوة. وهنا تبدو القصة المثيرة هي زيارة ياسر البرهامي نائب تنظيم الدعوة السلفية للازهر. انّها اللعبة السلفية الجديدة: توريط الازهر ليكون مرجعية سياسية، وهي خطوة في طريق تحويله الى هيئة فوق الدولة، ثم الاستيلاء عليه. هذه ألعاب تمرير الدولة الدينية... دولة الاقصاء وسلطة المشايخ، والقمع باسم الله.
يتحرك البرهامي كأنّه مندوب شركة دعاية للفزع. يتحدث بثقة المسيطر على جموع من المتدينين تعيش تحت وهم أنّ آخرتها ترتبط بالسير خلف هذا الرجل او من شابهه.
لا اعرف هل يمارس البرهامي هذا الدور بوعي او بدون وعي، لكنّني الاحظ أنّ هناك من يقوم بتلميعه ليحتل موقع «المثير الرسمي للفزع». ألاحظ ايضاً أنّه مستمتع بإثارة الفزع معتمداً على حقيقة أنّه كلما تطرفت كنت جذاباً في لحظة اعلان المظلوميات. يتحرك البرهامي من موقع الهجوم على الدولة الحديثة باعتبارها مصدر الشرور والخطر على الاسلام. ولهذا يرفع في وجهها ما يتصور انّه «السلاح الفتاك»، ويقول: وهل ترفض شريعة الله؟ ولماذا لا تريدون شرع الله؟ او ماذا رأيت من الله حتى تكره شريعته؟ وهي اسئلة من النوع المميت للكلام. لن يصبح الاختلاف مع البرهامي ومن يشبهه اختلافاً مع شخص يصيب ويخطئ، أو ينحاز مرة للحاكم وامن دولته، ثم يقول إنّه ثوري، يفتي مرة ليضيع حق الشهداء بالدية، ويريد مرة ان يهدم الحضارة الفرعونية، سيكون اختلافاً مع الله والشريعة والدين كله. من انت حتى تتحدث باسم الله؟ واي شريعة التي تقصدها بكلمتك؟ هل هي المطبقة في ايران، ام افغانستان، ام السعودية، ام السودان؟ هذه كلها دول دينية او اسلامية كما تصف نفسها، وتضع هيئة دينية فوق الدولة، هي مرجعية السلطة، او هي ممارسة للسلطة، وتعيد استنساخ الدولة الدينية كما كانت موجودة في اوروبا القرون الوسطى.
لا يوجد في الاسلام رجال دين، لكن البرهامي ومن يشبهه يمارسون دور رجل الدين في كنيسة القرون الوسطي. الاسلام لا يقر بالسلطة الدينية، لكنهم يتحايلون ويضعون السلطة الدينية باسماء او اشكال مراوغة، لتصبح هي الشكل الاسلامي لهذه السلطة. في كلّ الدول التي تسمي نفسها اسلامية (أي دينية)، سنجد هذه السلطة الدينية فوق الدولة، تمارس سلطتها باسم الدين. الملك في السعودية ليس ملكاً دستورياً، ولكنّه ملك بالتوافق بين آل سعود وآل الشيخ (محمد بن عبد الوهاب). للملك الادارة السياسية ولورثة الشيخ جماعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي السلطة الدينية، وهي سلطة تختار تنفيذ سلطتها على حسب هواها، وكما يناسب وجودها. البرهامي هو نتاج رحلة طويلة لتيار رفع الشريعة، كما رفعت المصاحف في حروب الفتنة. تيار لم يجد طريقاً من الحرب على دولة الاستبداد التي تبتذل قيم الحداثة، وتجعلها أدوات للقمع الا اللجوء الى «تكفير» هذه الدولة، و«الهجرة» من كلّ ما هو حديث. دولة الاستبداد وصلت إلى نهاياتها، وتريد هذه التيارات وراثتها الآن باستبدال القمع باسم «الحداثة والوطنية» بقمع آخر بإسم «الشريعة والدين». قراءة التاريخ تقول إنّ رفع المصاحف لم يكن تديّناً أو مزيداً من التقرب إلى الله، ولكن بغرض حسم الحرب لصالح من يرفع المصحف. وهذه اكبر خدعة لا تزال تثير الفتنة بين المسلمين منذ ١٤ قرناً. وقراءة الحاضر تظهر جحيم دولة القمع باسم الشريعة. دولة انتهت الى دول فاشلة تحقق مصالح عصابات صغيرة كما كانت الدولة العسكرية. ماذا يفعل البرهامي اذن؟ يتصور أنّه اصبح جماعة ضغط تتحرك باسم جماعات المؤمنين التي تظن أنّ الجنة خلف هذا الشيخ، ويرفع الشريعة ليخرس معارضيه. لكنّه يخوض الآن الحرب ضد المجتمع لا الدولة. والمجتمع استيقظ واكتشف أنّ المهم ليس استبدال سلطة فاسدة بسلطة طيبة، او سلطة ترتدي البدلة العسكرية تحت البدلة المدنية، وتمسك السبحة في نموذج الرئيس الشامل. شيخ يطلق لحيته ويتكلم بعبارات «قال الله وقال الرسول»، ويحوّل السياسة الى ملعب فتاوى ليسيطر ويصبح وحده صاحب المرجعية.
ادرك المجتمع أنّه لا بد من التأسيس لنظام يمنع الاستبداد. لا شيخ ولا جنرال. بل يجب التأسيس للديموقراطية وليس الوصول بها الى الصندوق وإلغاءها في اليوم التالي. المجتمع في حربه الآن لتأسيس دولة حديثة... دولة حرية وكرامة وعدالة. وهذا ما يجعل البرهامي خصماً في معركة ترفع فيها الشريعة لتمنع السياسة. كيف اختلف معك وانت تتكلم باسم الله؟ كيف ترتكب وبضمير مستريح جريمة تمييز ضد النساء والاقباط متصوراً انّ رؤيتك المحدودة هي الاسلام؟
البرهامي يستقوي على الاقليات متصوراً انّنا لا نزال اسرى حرب المظلوميات. كل فئة مظلومة وتتصارع مع الفئات الاخرى على لقب الأكثر ظلماً، هي حرب عشناها ايام مبارك ونتحرر منها في اطار التحرر من قاذروات عصر الاستبداد. البرهامي هو من يجعل المجتمع يصدق خرافات مثل جماعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعصابات الملتحين لقتل العشاق. هذه الخرافات لها مرجعية في فتاوي البرهامي.



هل هي فرصة الإسلاميين؟

الفرق بين الغابة والدولة كبير، لا يعرفه وزير الداخلية ولا من يغازلهم من الحكام الجدد. الوزير يرسل الى محمد مرسي رسالة: انا موظف... أخدم وأسير على كتالوغ الجالس على الكرسي. الوزير هو قائد عملية الاعتداء على اللاجئين السودانيين في المهندسين... قادها بكل ما يمتلك جهازه البوليسي من قدرة على القتل والترويع والتعامل مع البشر على أنّهم كلاب شوارع بلا حقوق.
بعد الثورة قاد الوزير الداخلية في حرب الخراطيش الشهيرة، حيث قتل وأصيب شباب الثورة في ظل تعمية وتضليل استحقا تأييد نواب الاخوان والسلفيين في البرلمان وقتها.
الوزير طيّب اذن، وعلى نياته، ولهذا نسي نفسه وهو يصف عملية قتل طالب السويس. استعار اللواء لغة وزير طالباني وهو يبرر القتل: لو كان القتيل استمع الى نصيحة القتلة لما قتل. الله اكبر... ويا سلام...
الوزير لا يعرف أنّه في دولة وليس في غابة تفرض فيها السلطة اخلاقها الرشيدة، وتسمح باقتحام الحياة الخاصة. من اعطى الحق للقتلة بالنصيحة اذا رفضها الشاب؟ كيف تقتحم فرقة القتل هذه المساحات الشخصية بتلك البساطة التي يبررها الوزير؟ لماذا يبرر الوزير القتل؟ هل يخاف من المحاكمة؟ هل ينفي عن اجهزته تهمة بث الرعب من السلفيين؟ لماذا يدافع عن الارهاب المغطى بالنوايا الحسنة؟
الوزير ابن الدولة الامنية التي قامت اساساً على انتهاك الحريات واقتحام الحياة الخاصة وإهانة البشر. نال الاسلاميون من هذه الحزم القمعية نصيباً كبيراً، ويبدو أنّ الوزير يريد أن يعفي نفسه، عبر مصالحة السلفيين على حساب قواعد العلاقة بين الدولة والفرد. إنّه هذيان دولة منهارة. هذا ما يبدو من كلام وزير لم يدافع عن حق القتيل، لكنّه برر للقاتل. إنّه استمرار لمنهج لوم الضحية المستخدم من السلطة، وما دام الاسلاميون في السلطة، فليستخدم الوزير هذا الأسلوب معهم، كما استخدم نواب الاخوان والسلفيين المنهج نفسه مع العسكر والداخلية حينما اعتدوا على «ست البنات» وسحلوها وقاموا بتعريتها. هذيان لا يصدر عن شخص مسؤول، ولا عن دولة تحترم مواطنيها. إنّها دولة تتخبط، وتحارب اطرافها في الظلام ما تصافحه في العلن.
إنّها لحظة تنوير قوية نواجه فيها كلّ ما اختفى تحت السطح طوال ٢٠٠ سنة هي عمر الدولة الحديثة. الدولة لم تتشكل بعد، مؤسساتها تعمل وفق ماكينة كبيرة منضبطة، لكن عقلها يسقط احياناً في زمن القرون الوسطى، واحياناً اخرى في زمن زهوة الجمهوريات العسكرية.
يخوض المجتمع لأول مرة حروبه المؤجلة مع كلّ الاشباح التي ظلت مقيمة في هذه الدولة وتتحرك بأوامرها. هذه الدولة وضعت كل الملفات في ادراجها. تخرج كل ملف في الوقت الذي تريد، وتشعل معركة حول شكل الدولة او العلاقة مع الحاكم او طبيعة المجتمع. كل ذلك حسب مزاجها. الآن كل المعارك ستخاض بعيداً عن الدولة او بدون وجودها الطاغي. الدولة الآن معركة من المعارك وليست طرفاً، وسنواجه الاشباح واحداً واحداً. شبح الجنرال، وشبح الشيخ. كيف تعيش القوة/الجيش في دولة ديموقراطية بدون ان تتحكم عن بعد؟ كيف لا يتحول الدين الى سلطة في يد المشايخ يستخدمونه ضد من يشاؤون ولخدمة من ينوون التحالف معه؟ كيف نؤسس دولة مواطنين لا رعايا؟
وفق هذه الاسئلة لا بد ان نرى واقعة السويس ونواجه بها انفسنا. ربما هناك ألعاب قديمة من الأمن لإثارة الفزع من الاسلاميين. لكن هذا لا يمنع ان تكون فتاوى الشيوخ المغرمين بالاستعراضات واثارة الفزع تمنح تصاريح لمجموعات تعمل بمنطق «الفرانشيز»، اي يحصلون لأنفسهم على توكيل بممارسة سلطة على الضعفاء من البشر، وهي محاولات حصلت منذ منتصف السبعينيات، وتطوّرت وتخللتها سنوات ارهاب. لا بد من الالتفات الى فكرة الارهاب «الفرانشيز» الذي لا يتبع بالضرورة تنظيمات بعينها، لكنه يحصل على مشروعية من هذه الفتاوى القاتلة. والسؤال الهام الآن هو: هل يشترك الاسلاميون في تأسيس خطاب المواطنة والحرية، أم يقفون على بوابة السلطة متصوّرين انّ هذه فرصتهم؟



حفلة الإبهار



إنّها حفلة، وهذا جديد على الدراما السياسية في مصر. رئيس يتحدى دولته. هكذا ظهر عندما أعلن مرسي عودة البرلمان، لتظهر فوراً صورة السوبرمان، الذي يتحدى الديناصور الرابض في العباسية. الجمهور لم يهتم بصورة مرسي، قدر اهتمامه بما سيفعله الديناصور. بالتأكيد سيحرق الارض، وسيدمر المدينة. هكذا انتظر جمهور واسع الانقلاب العسكري. لم يحدث الانقلاب. وكان العسكر في حالة هدوء مريبة. والسجال فتح في الشوارع صدمات غير معتادة من قرارات تسقط من اعلى. التداعيات تقود المشهد الآن الى حالة ثبات. الرئيس هو سوبرمان، لكن جمهوره يتقلص. لا ديناصور يتحرك بكل ما في أياديه من ادوات، لكن بدون ان تتحرك نقطة عرق واحدة. معركة بين الرئيس والمحكمة الدستورية. وهذا في جوانب خفية يكسر التجانس الذي كان الرئيس يحرك به كل مؤسسات الدولة. ومن ناحية اخرى، توضع مؤسسات ومواقعها كاملة في مهب رياح أحدثها تزاوج الاخوان والعسكر في السلطة. وغالباً، لن يفعل مجلس الشعب شيئاً، او لن يعود إلى عمله العادي في التشريع. البرلمان الآن في عطلته. ومهمته الأولى ستكون حماية اللجنة التأسيسية او تأمين عملها. المهم هنا قرار مرسي، وحفلة الاستقطاب التي تسبب فيها بين العسكر والاخوان. الحفلة وصلت الى ذروتها الباهرة حين طاب للبعض الانقلاب العسكري واستدعاء العسكر من كمونهم المريب. وفي الطرف الاخر، الذروة كانت اعتبار مرسي قائد الثورة، وقراره يتحرك من الشرعية الثورية الى آخر هذه الفرقعات المعجبة بحركة مرسي ضد العسكري. وهي حركة مثيرة فعلاً، لكن إثارتها لا تصل الى هذه النتائج التي تتعجل لتصل الى خواتيم الصراع على السلطة، وتتصور انّها الجولة الاخيرة. التهليل ليس موقفاً والتطبيل ليس تفكيراً، فالقرار في حد ذاته لا يعني سوى جولة في لعبة التمكين من السلطة، لكنه اذا كان مقدمة حزمة قرارات تخرج الثورة من متاهة القوانين، فإنّ هذا موضوع مختلف تماماً. إذ إنّ القرار وحده في صالح اغلبية البرلمان الإخوانية. أما اذا صدر مقدمة لقرارات بالإفراج عن المعتقلين واقالة النائب العام وتشكيل هيئة تكون مهمتها تحقيق العدالة الانتقالية، ومحاكمة القتلة من ٢٨ كانون الثاني/ يناير الى أحداث العباسية، فعندئذٍ سيكون نقلة
أو ضربة معلم، وليس قبل ذلك. تعجبت من تحويل مناقشة القرار الى حفلة تبادل شتائم كما يحدث عادة في مدرجات كرة القدم. وفي الحفلة تلغى الذاكرة، وتعلو محاولات اتهامات وتصغير المختلف او المنافس. هكذا علت الصرخات بأنّ القرار اعتداء على دولة القانون، وانتهاك للقضاء، وكأنّ المجلس العسكري كان حامياً لدولة القانون، التي لم تكن سوى قانون الدولة كما يحبها المستبد. وفي الناحية المقابلة، علت الصرخات حتى كادت تصل الى القول إنّ القرار هو الأخطر منذ تأميم قناة السويس. وكأنّ ذاكرتنا لا تسعفنا بأنّ الإخوان، وبينهم مرسي، اتهموا الثوار بصنع الفوضى وهدم الدولة. القرار لم يهدم دولة القانون، لأنّها كانت آيلة للسقوط، وتحتاج الى اعادة بناء. والمحكمة الدستورية استخدمها مبارك ووريثه العسكري في تمتين اصول نظامه، الا انّها تحتاج إلى تطهير واعادة تشكيل لا تدمير، كما يخطط الإخوان على نحو واضح. القرار ايضاً ليس ثورياً حتى هذه اللحظة، لأنّه يصب في طموحات الاخوان، ويمثل ضربة استباقية في لعبة الفخ بين الجماعة والعسكر. هنا لا معنى للاستقطاب او لحجز مكان في مدرجات. واستخدام هذا الأسلوب مستفز ولا يخدم إلا صناع الديكتاتوريات، إذ إنّ مرسي لن يكون ثورياً فجأة، والعسكر لن يحموا الثورة فجأة. الثورة هنا هي الطرف الغائب الذي يتكلم الجميع باسمه وهو في مكان آخر. لا مجال للمزايدات ولا لتخليص بقايا المعركة الانتخابية باصطياد المواقف، فليس كل من اعترض على القرار خادماً للدولة العسكرية، وليس كل من انبهر بالقرار ثورياً. هذه اختصارات لا ينقصها الابتذال. لسنا متفرجين على مباراة في مصارعة الطغاة، ولا يمكن التفكير في ما يحدث بدون سياق لا يمكن أن نغفل فيه عدّة عناصر لم تأخذ حظها من المشهد الاحتفالي. الأيام القليلة القادمة ستكشف بعضاً من التفاصيل، التي ستكون أكثر إبهاراً...