صورة رئيس الوزراء الأردني الشهير، وصفي التل، في المرويات العربية، المستمدة من المرويات الفتحاوية، صورة شديدة السواد، مشيطنة بالكامل. هي صورة «خائن» و«جلاد» ـ كما في إحدى قصائد أحمد فؤاد نجم، الذي وصف قاتليه بأنّهم « أبطال»ــ بينما صورته عند الأردنيين، معاكسة تماماً؛ صورة الزعيم الوطني الشعبي، الشهيد والرمز.
يمكن، بالطبع، تجاوز هذا التناقض من خلال اتهام الشعب الأردني بالخيانة الجماعية، التي لا ينجو منها سوى بضعة أفراد مستعدين للخروج عن الإجماع الأردني، وتبنّي المرويات المضادّة، لكي يحصلوا على الاعتراف بهم كوطنيين! ولطالما عانى الوطني الأردني هذا الضغط اللاعقلاني، الذي يفرض عليه إنكار ذاته وواقعه وتاريخه المحلي، كشرط لحضوره السياسي القومي. إلا أنّ فضاء النقاش كله تغيّر، منذ 2010 ـ 2011، حين تبلورت حركات وتيارات وطنية واجتماعية أردنية مستقلة عن الهاشميين، ومعادية للنظام ولخياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومعادية، خصوصاً، للتحالف الأميركي ـ الإسرائيلي، لكنّها من موقعها النضالي بالذات، أعادت قراءة التل كأيقونة للأردن المأمول.
في 25 تموز 2011، عقدت تلك التيارات والحركات، التي كان لها سبق السبق في إطلاق وتصعيد الحراك الشعبي من أجل التغيير، لقاءً عاماً حاشداً في باحة دارة وصفي التل بالكمالية، شمالي عمان، معلنة أنّ تجربة التل ـ بنجاحاتها وإخفاقاتها، بالجيد والسيّئ منها ـ تنتمي إلى تراث الشعب الأردني، لا إلى تاريخ الهاشميين وعلاقتهم الملتبسة بالقضية الفلسطينية.
هل يمكن للمثقف العربي التقدمي أن يتوقف لحظة لمراجعة الموقف من تجربة وصفي التل، أقلّه لكي يفهم لماذا يرفع نشطاء وطنيون وتقدميون، في صيف 2012، صور التل في التظاهرات الشعبية المضادة للنيوليبرالية والفساد والوطن البديل ومعاهدة وادي عربة مع العدو الإسرائيلي؟ عندما (*) تولى وصفي مصطفى وهبي التل، رئاسة الوزراء، كان قد كوّن خبرات عميقة في مجالات هي المقاومة المسلحة، الاستراتيجية، التنمية الوطنية والمستدامة، والإدارة العامة.
خبرته في المقاومة جاءت من التحاقه بالمقاومة اليوغسلافية في الحرب العالمية الثانية، ومن القتال ضد العصابات الصهيونية في فلسطين، في حرب 1948. وخبرته في الاستراتيجية، نالها من خلال تجربته كعسكري محترف في الجيش البريطاني (انتسب إليه بقرار رفاقه من القوميين العرب، الذين أرسلوا محازبين ومناصرين في الأربعينيات للجندية، لتكوين كوادر عسكرية مؤهلة تأهيلاً حديثاً، ما يمكّنها، لاحقاً، من القتال في معركة فلسطين) ومن ثم تتلمذه على نظرية التعرّض غير المباشر للاستراتيجي البريطاني الأشهر، ليدل هارت، وأخيراً من خلال تأملاته المنظّمة في تجربة المقاومة في فلسطين في 1948، التي نشرها التل، أولاً في صحيفة «الرأي»، لسان حال القوميين العرب في الأردن في الخمسينيات، ثم نشرت في كتاب «وصفي التل في مجابهة الصهيونية».
أما خبرته في التنمية الوطنية والمستدامة والإدارة، فقد تحصّل عليها من خلال عمله في «المكتب العربي» في الضفة الغربية. وهو مؤسسة اهتمت بتحديث الإنتاج الفلاحي الفلسطيني. كما جاءت من انتمائه إلى مدرسة حمد الفرحان القومية، التي وضعت أسس الاقتصاد الوطني الدولتي خلال الخمسينيات، إبان قيادتها وزارة الاقتصاد الأردنية، آنذاك.
وهكذا، عندما اضطر الملك، حسين تحت ضغوط داخلية وخارجية، مطلع الستينيات، إلى عقد تسوية داخلية مع ممثلي الفئات الشعبية في المحافظات، كان التل عنوان هذه التسوية، وكان مستعداً ببرنامج شامل، تناول المجالات المارّ ذكرها، لكن موضوعنا هنا محصور في بعدين: المقاومة والاستراتيجية، على رغم كون منهجية التل، لا تفصل بينهما وبين البعدين الآخرين، التنموي والإداري. فبالنسبة إليه، كان الحكم القوي النزيه العادل ضرورة لإدارة التنمية ـ بوصفها أداة للبناء الوطني والعدالة الاجتماعية ـ وكان كلاهما ضرورة مقاومة، لكن المقاومة عنده هي فعل استراتيجي بالدرجة الأولى.
منذ اليوم الأول لحكومته الأولى في 1962، قام التل ـ الذي جاء إلى الرئاسة من خارج نادي الحكم التقليدي شبه الإقطاعي ـ بأوسع وأعمق عملية تطهير طاولت الإدارة الأردنية في تاريخها. وشرع في برنامج طموح لإقامة قطاع عام اقتصادي وتطوير البنى التحتية وتأسيس أول جامعة حكومية في البلاد، وتحديث الجيش، مستعيناً بوزراء ومديرين عامين من أبناء الفئات الفلاحية والعشائرية. وكوّن، بذلك، تياراً سياسياً امتد تأثيره حتى اليوم. وأهمّ ما في تجربة التل في الحكم هو وضع الأسس للفصل بين المَلَكية والدولة، وربط الدولة بفكرة المقاومة.

نظرية العدو المركزي

انطلق التل من تقدير استراتيجي أساسي يرى في إسرائيل، العدو المركزي للعرب. وهذه نظرية تختلف كلياً عن النظرية القائلة بأنّ القضية الفلسطينية هي القضية المركزية عند العرب. ففي الأولى، تخضع القضية الفلسطينية والشأن الفلسطيني كله ـ كما الأردني والعربي ـ لاعتبارات الصراع غير القابل للتسوية مع الكيان الصهيوني، أما في الثانية، فينفتح باب الأوهام بإمكان تسوية ذلك الصراع في حل ما ـ المرجو أن يكون «عادلاً» ـ للقضية الفلسطينية.
من هنا، رفض وصفي التل حتى رحيله، ما سماه دائماً «أوهام الحل السلمي»، لكن ما يميّز هذه النظرة عن مواقف الديماغوجيين، هو أنّ رفض الحل السلمي لا يعني بالضرورة شن الحرب أو القتال في ظروف غير ملائمة استراتيجياً. من هنا، رفض التل في 1966 الانجرار إلى الفخ الإسرائيلي إثر عدوان السموع الغاشم الذي كان هدفه الجوهري هو جر الأردن الى حرب تمكن إسرائيل من احتلال الضفة الغربية، كما وقف ضد مشاركة الأردن في حرب 1967، لأنّه كان متيقناً بالحسابات الاستراتيجية، أنّ مآل تلك الحرب هو هزيمة حتمية، سوف تقود العرب إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني وفتح أبواب أوهام الحل السلمي على مصراعيها، ووقف النزعة المعادية للكيان الصهيوني، وفقدان الثقة بالذات وبإمكان الاستعداد للمواجهة الحتمية.

الضفة الغربية عبء استراتيجي على الأردن

قبل نشوء الكيان الصهيوني كان التل مؤمناً بضرورة القتال لإعاقة نشوئه. وخاض الحرب كلها في صفوف جيش الإنقاذ، وظل يدفع، في الفترة اللاحقة، نحو استمرار القتال العربي في فلسطين، حتى إنّه خطط للانتقال مع كتيبته من الجولان إلى الضفة الغربية لإشعال مقاومة جديدة، في أواخر 1948. وهي خطة انكشفت وأدت بصاحبها إلى سجن المزة بدمشق، بقرار من الانقلابي حسني الزعيم، الذي كان يفاوض على سلام مبني على توطين اللاجئين الفلسطينيين في منطقة الجزيرة في سوريا.
إن توقف الأعمال العسكرية واختتام الحرب بالهدنة، وترسيخها، خلقا واقعاً جديداً يتمثل في أنّ الأردن حاز عبئاً استراتيجياً هو الضفة الغربية التي لا قبل للقدرات الأردنية بالدفاع عنها. وكان هذا التقدير قد استقر لديه، إبان حكومة هزّاع المجالي، الذي كان مهموماً بالضفة الغربية كعبء فوق طاقة الأردن. لذلك، كان رأى الدخول في حلف بغداد لحمايتها أو، بعد سقوط المشروع، الاعتراف بكيان فلسطيني في الضفة بما ينقل العبء إلى العرب. وقد دفع المجالي حياته ثمناً لموافقته على قيام كيان فلسطيني مستقل في الضفة الغربية وقطاع غزة.
تحقق وصفي التل من أنّ مصر الناصرية التي كانت تقود النظام العربي، أرادت كياناً فلسطينياً سياسياً في القاهرة، لكنّها لم ترد تحمل عبء الضفة على الأرض، فيما هذا العبء الاستراتيجي مرغوب فيه، بكل مخاطره، من قبل الهاشميين الذين رأوا في القدس أحد أعمدة شرعيتهم الأساسية. رأى التل، على خلفية عدم وجود حل عربي أو دولي لمشكلة الضفة الغربية، أنّ الاستراتيجية الفعّالة للدفاع عنها تكمن في عمل دؤوب مبرمج لتحشيد الطاقات والموارد الأساسية، وتحويل المملكة الأردنية، بضفتيها، إلى القطب الأساسي ومركز الثقل في جبهة المواجهة العربية المسلحة مع إسرائيل. ووضع التل تصوّره هذا في كتاب أبيض سطّره رفقة أكرم زعيتر، واعتبره ميثاقاً لعمل حكوماته 1962و1965 و1970. أما المقاربة العسكرية التي اقترحها على أساس استراتيجية التعرض غير المباشر، فقد تضمنتها «خطة طارق» الشهيرة التي كانت ترمي، في حالة حدوث عدوان إسرائيلي، إلى الانسحاب المنظم من الضفة لصالح التمركز الهجومي ـ الدفاعي في القدس، بما فيها الأراضي التي يمكن كسبها من القدس الغربية، على رأس خط عسكري متصل بالضفة الشرقية للتزويد والإمداد، والمقاومة والصمود حتى يتسنى تدخل دولي يعيد القوات إلى مواقعها السابقة.
في الداخل، كانت خطة التل، إعادة بناء الدولة على أساس ضرب الفساد والفئات شبه الإقطاعية المسيطرة، وتطوير الإدارة، والشروع في تنمية وطنية ـ وهي غير النمو ـ على اساس الدور القيادي للقطاع العام، والتنمية الريفية التي ترسخ الارتباط بالأرض في صفوف الفئات الشعبية، وفي ظل استراتيجية دفاعية تعيد تأهيل المجتمع كله كـ«مجتمع إسبارطي» قادر على مواجهة أعباء المقاومة. وعماد هذا التصوّر كان إطلاق طاقات الفئات الاجتماعية الريفية.
إن تجربة وصفي التل المريرة في حرب 1948، كضابط في جيش الإنقاذ، هي التي دفعته نحو نزعة تنفر من الفئات المثرية والأعيان والأفندية، أولئك الذين تخلوا عن الوطن في محنته، بينما قاتل الفلاحون بشجاعة في القرى الفلسطينية، كما أنّ ظاهرة الهجرة الجماعية حفزته على التفكير في وسائل اقتصادية واجتماعية تربط الفلاحين المنظمين بأرضهم، بصورة وثيقة تدفعهم إلى البقاء فيها تحت أقسى الظروف.

مفارقة: تحسّن الوضع الاستراتيجي الأردني بعد 67

قبل حرب 1967، كانت فئات الحكم الرجعية والبرجوازية والانتهازية، تستغل الفرصة للحصول على مكاسب سياسية في أجواء هستيريا حرب كانت معروفة النتائج. ولا نريد، هنا، الدخول في الدهاليز لاكتشاف مؤامرة ما خلف حماسة تلك الفئات للحرب، لكن نلاحظ ما هو علني وواضح من انزياح تلك الفئات 180 درجة من خطاب الحرب قبل حزيران، إلى خطاب الحل السلمي بعده!
بالعكس تماماً، وقف التل ـ الذي رفض الحرب قبل وقوعها لأسباب استراتيجية ـ مع ضرورة وأولوية المقاومة بعد 1967، في ضوء هدف عاجل هو منع توطد الاحتلال، مقدمة لإنهاكه وطرده. وكان يرى أنّ هذه مهمة أردنية أولاً وأخيراً. ليس فقط لأنّ الضفة الغربية وديعة لدى الأردن، وهو بالتالي ملتزم وطنياً وأخلاقياً باستعادتها، وإنما أيضاً لأنّ التخلي عن هذا الالتزام يعرّض الأردن إلى مشكلة هيكلية تمس وجوده. فالتخلي عن الضفة يحوّل وحدة الدولة المؤلفة من إقليمين، إلى وحدة توطين في الضفة الشرقية. وبدلاً من اتحاد قطرين، سوف يحدث انشقاق داخل القطر الأردني نفسه. وهو ما طرح فوراً قضية مَن هو صاحب القرار في إدارة المقاومة. فهذا القرار يجب أن يكون معبراً عن دولة الوحدة لا عن منظمات انفصالية.
استعادة الضفة الغربية بالمقاومة وتحت سيادة عمان كانا عند التل شرطين أساسيين متلازمين للحفاظ على وحدة الدولة. وبالمقابل، اعتبر أنّ أي حل لقضية الضفة في إطار تسوية مع إسرائيل في إطار موازين القوى القائم بعد الهزيمة، سيؤدي إلى التنازل عن حق العودة وتحويل الأردن إلى وطن بديل، إضافة إلى أنّه سيفرض على البلد الخضوع لمنطق التوسع السياسي والأمني الإسرائيلي. وهو ما حدث فعلاً في اتفاقيتي أوسلو 93 ووادي عربة 94، مع تعديل جديد، هو أنّ مخاطر التسوية تحققت من دون استعادة الضفة لا للأردن ولا لمنظمة التحرير الفلسطينية.
كانت الضفة الغربية هي نقطة الضعف الدفاعية للأردن بين عامي 48 و67، وبسقوطها حدثت مفارقة تراها العين الاستراتيجية بوضوح. وهي تحسن الوضع الدفاعي الاستراتيجي الأردني. فالأردن يتكون من سلسلة جبلية تشهق عن فلسطين، وتهبط على الأغوار ووادي عربة في انزلاق جروف حادة. وهو ما يعطي قوة الجيش الأردني والمقاومة الشعبية، قدرة على تلافي فوارق التسليح مع جيش العدو، الذي لا يستطيع ارتقاء جروف اخدود الأردن بالآليات الثقيلة والدبابات، في مواجهة مقاومة ذات أسلحة أدنى، لكن مصمّمة ومنظمة. في المقابل، تستطيع القوات الأردنية المتحصنة في الجبال تلافي تفوق الطيران المعادي، وقصف أي موقع في فلسطين بالمدفعية. وهكذا، أصبحت الحرب ممكنة، ورفع وصفي شعار «عمان هانوي العرب»، ودعا منذ الهزيمة إلى رفض الاستسلام وأوهام الحل السلمي، ووضع « كل ذرة جهد في خدمة المعركة».

تحالف «النقيضين»

بذل وصفي التل جهوداً جبّارة من أجل تنفيذ استراتيجيته للمقاومة، سواء مع أركان الدولة أو مع أركان المنظمات الفلسطينية، ولا سيما البعثية منها، لكنّه فشل بسبب التحالف المعقد الذي نشأ بين «نقيضين» هما، الفئات المسيطرة على الدولة الأردنية من العناصر شبه الإقطاعية والبرجوازية التجارية والكمبرادوية والبيروقراطية الفاسدة من جهة، وقيادة فتح، التي هيمنت على قرار المنظمات الفلسطينية والحزبية، من جهة أخرى.
وقد تقاطع طرفا التحالف ذاك، في شبكة مصالح طبقية وسلطوية وإقليمية:
1.هدف الطرف الأول إلى ترسيخ نفوذه في الدولة وتمرير الحلول السلمية التي حازت الدعم المبهم من مصر الناصرية رغم لاءات الخرطوم، وهو الطريق الذي أوصل الأردن إلى معاهدة وادي عربة،
2. بينما هدف الطرف الثاني إلى السيطرة على الإيقاع السياسي في البلاد، بما يساعده في النهاية على شق وحدة الشعبين، والانفراد بالقرار في الشأن الفلسطيني، ومن ثم المساومة. وهو الطريق الذي أوصل القيادة الفلسطينية إلى اتفاقيات أوسلو 1993.
أفضل عرض لنظرية وصفي التل في المقاومة الناجعة، جسّدها، بعد رحيله بعقدين، حزب الله في لبنان. إذ بنى جيشاً منظماً كالجيوش الحديثة بهيكليتها وصرامتها التنظيمية وقدراتها الاستخبارية والتزامها بأوامر القيادة السياسية الخ...، لكنه، أي هذا الجيش، يستخدم وسائل الحرب اللامتكافئة مدعوماً بمحيط شعبي منظم ومجيّش يمثّل حاضنة اجتماعية للنضال المسلح. وهذه، بالضبط، كانت خطة وصفي التل، بعد 1967، إذ اقترح نسقاً من الدفاع العسكري والجيش الشعبي المنضبط في خط دفاعي متماسك متحصّن في سلسلة المرتفعات وجروفها في الضفة الشرقية، بينما تقوم فصائل فدائيين مسلحة بالعمل داخل الأراضي المحتلة. وهذه الاستراتيجية هدفها إنهاك المحتلين بحرب عصابات لا يستطيعون تدمير قواعدها الخلفية أو احتلالها، بما يفضي في النهاية إلى انسحابهم من طرف واحد، من دون اعتراف أو صلح أو مفاوضات.
وكان الجيش العربي الذي أعاد تنظيم نفسه، من دون أي سلاح جديد، قد قدّم مثلاً بطولياً في معركة الكرامة 1968 للإمكانات الخصبة لهذه الاستراتيجية. ولم تلتفت كل التحليلات التي ناقشت هذه المعركة إلى هذا البعد، إذ كانت هزيمة الغزاة الإسرائيليين حتمية فيها، بسبب اضطرارهم إلى خوضها في الشريط الغوري الضيق مع استحالة التقدم الآلي صوب المرتفعات، مما جعل العدوان الإسرائيلي بلا معنى استراتيجي، وقد انهزم أمام قوات منظمة استخدمت وسائل المقاومة، وخصوصاً اصطياد الدبابات بالقاذفات المحمولة على الكتف، مدعومة بغطاء من المدفعية المحصنة في المرتفعات.
إنّ الدرس التي استقاه العدو الصهيوني من معركة الكرامة 1968 هو ضرورة التوصل إلى صيغة سلام واقعي مع الأردن، بما يبدّد تفوّق طوبوغرافية الأرض ويضعف إرادة المقاومة، ويهدم التوازن الاستراتيجي مع الجيش الإسرائيلي.
وقد وضعت الولايات المتحدة، بعد رحيل التل، ثقلها وراء مشاريع «إنمائية» مصممة لتجريد الأردن من تفوّق طوبوغرافية الأرض، وذلك في مجالات كان التل يرفضها لأسباب استراتيجية وتنموية معاً. ونشير خصوصاً إلى المشروع الأميركي للاستثمارات المكثفة في الأغوار، وشق الأوتوسترادات العريضة التي تربط المناطق الغورية بالمرتفعات الجبلية، وتسمح بالتالي للآليات الإسرائيلية باقتحام الهضاب الأردنية، وتضعف فرص مقاومتها بالحرب الشعبية.
استثمارات الأغوار والبحر الميت ووادي عربة والعقبة و«أوتوسترادات السلام» نُفذت في خطط متلاحقة، بعد رحيل التل وتفكيك تجربته وتياره، في السبعينيات والثمانينيات، أي قبل معاهدة وادي عربة المشؤومة في 1994. وبهذا المعنى، لم تكن تلك المعاهدة بداية وإنما تتويجاً لعملية السلام على الأرض، التي لا تعدو كونها تفكيك القدرة الدفاعية الأردنية، عن استثمارات غير تنموية ومصممة لأهداف إسرائيلية على مدار عقدين.
إنّ الزراعة المكثفة في الأغوار لا قيمة تنموية لها، لأنّها تستهلك معظم المياه الأردنية من مصادرها الجبلية، وتصبها في منطقة حارة عالية التبخّر، ولإنتاج خضروات ومنتجات تصديرية بأيدي عاملة وافدة ولمصلحة الفئات الكمبرادورية والتجار. ومن هذه الناحية، فإنّ البنى التحتية، المائية وسواها، في الأغوار وأوتوسترادات السلام الخ ـ وكلها لها بدائل أكثر نجاعة من وجهة نظر الاقتصاد الوطني والضرورة الدفاعية معاً ـ إنما تمت في سياق عملية صلح واقعية مديدة مع العدو. وكان الأفضل، إبقاء الأغوار كمنطقة زراعية ـ رعوية تقليدية، تقوم على العدالة الاجتماعية ودعم السكان المحليين بالخدمات اللازمة والملاجئ المحصنة ووسائل الحفاظ على أمنهم واستقرارهم تحت أقسى الظروف. وهو نمط شاهدناه لاحقاً في جنوب لبنان.

1970

كانت معركة الكرامة في 21 آذار 1968 حدثاً مفصلياً في السياسة الأردنية، فبدلاً من دراسة أبعادها الاستراتيجية والتكتيكية، والبناء عليها لتطوير العمل المقاوم بصورة منهجية، حدث العكس. شنت منظمة فتح حملة سياسية إعلامية لتصوير نصر الكرامة كأنه تعبير عن تكتيكها الميليشياوي. صحيح أنّ مقاتلين جسورين من الفصائل الفلسطينية، شاركوا في المعركة التي خاضها بالأساس جنود الجيش الأردني، لكن السياق الدفاعي كله، من حيث بناه ووسائله الدفاعية، كان عسكريتارياً لا ميليشياوياً.
استطاعت فتح أن تحصد، سياسياً وإعلامياً، نتائج معركة بطولية خاضها جنود أردنيون ومقاتلون فلسطينيون، وتمكنت من تأكيد حضورها السياسي الداخلي المدعوم عربياً وبالخصوص خليجياً، مكّنها من استقطاب وتسليح وتمويل ميليشيات ضخمة في عمان والمدن الرئيسية في البلاد، تمكنت بها من السيطرة على سواها من الميليشيات، وتعطيل قوى الدولة وفرض خياراتها السياسية على النظام. وبذلك، نشأ سياق ملتو لانتقال قوى النظام التقليدية إلى أحضان فتح التي كانت قد اخترقت معظم أجهزة الدولة، بما فيها دائرة الاستخبارات العامة. والمفارقة ذات الدلالة هنا أنّ الفئات الحاكمة التقليدية والكمبرادورية التي تحالفت مع فتح بين 1968 ـ 1970، هي نفسها التي قادت مرحلة السلام الواقعي مع العدو الإسرائيلي لعقدي السبعينيات والثمانينيات، وهي نفسها التي دعمت التوصل إلى معاهدة وادي عربة في 1994.
في السبعين، وجد الملك حسين نفسه يتربع على عرش بلا دعائم، فلجأ مرة أخرى إلى تسوية مع الفئات الشعبية في المحافظات، في وقت أصبح فيه التل، زعيماً مستقلاً على المستوى الوطني، ويحظى بشعبية لا تدانى لدى الجيش والعشائر. ولم يكن أمام الملك مفر من ترئيسه، فأصبح، على حد تعبير القيادي الفلسطيني نبيل عمرو «أكثر كثيراً من رئيس وزراء وأقل قليلاً من ملك».
وفي الواقع، كان التل قادراً ـ ببساطة ـ على الاستيلاء على السلطة كلياً، لكن حساباته الإقليمية والدولية المعقدة، جعلته يقبل شراكة الملك. وهي شراكة انتهت باغتياله وتفكيك مشروعه وتياره. كان مشروع التل في السبعين يقوم على ثلاث مراحل: المرحلة الأولى وقف الفوضى وضبط الأمن في المدن والقرى وإعادة بناء الجبهة الاجتماعية والسياسية الداخلية، عن طريق حزب تنتخب قياداته شعبياً هو «الاتحاد الوطني التعاوني»، وتنظيم الطاقات مع جيش يعاد تنظيمه الى وحدات صغيرة متنقلة مدربة على أساليب الحرب اللامتكافئة، ويستند إلى مقاومة شعبية تكون نواتها من المتقاعدين العسكريين. المرحلة الثانية، التفاهم مع قيادات المنظمات الفلسطينية على صيغة للعمل الفدائي في إطار استراتيجية دفاعية وطنية. المرحلة الثالثة، الشروع في عملية مزدوجة من التنمية الشعبية والمواجهة مع العدو.
وقد بذل التل جهوداً استثنائية للتفاهم مع قيادات المنظمات الفلسطينية على بناء استراتيجية دفاعية وطنية من دون جدوى، ورفض قادة قوميين مثل جورج حبش وضافي الجمعاني، إجراء تسويات من دون ياسر عرفات. في المقابل، طعن القصر رئيس وزرائه التل في ظهره من خلال تدبير عملية جرش الانتقامية غير الأخلاقية ضد تجمعات الفدائيين التي جرى إخراجها من عمان العاصمة إلى المكان الذي كان يعتقد التل أنّه المكان الصحيح للمقاومين، أي في المرتفعات الجبلية وبين الأحراج.
عشية رحيله، كان التل قد رتّب للقاء مع قيادي فلسطيني فتحاوي في القاهرة للبحث في صيغة جديدة للمقاومة تستعيد الفدائيين إلى قواعد قتالية في الأردن في إطار استراتيجيته الدفاعية، وحمل معه إلى مؤتمر وزراء الدفاع العرب، خطة لفتح جبهة جديدة في داخل الأرض المحتلة.
لكن، في مواجهة مشروع التل الوطني الاجتماعي للمقاومة، كانت قوى متنافرة قد تحالفت ورأت في إبعاده عن المشهد الأردني والفلسطيني والعربي، ضرورة أساسية؛ فالقصر كان قد ضاق ذرعاً بمنافس خطير، والفئات شبه الإقطاعية والبرجوازية التجارية والكمبرادورية المسيطرة في النظام الأردني كانت تريد الخلاص منه لاستبعاد مشروعه الاجتماعي، وتدعيم فرصها وثرواتها في مشاريع السلام. أما قيادات «فتح»، فكانت تريد إبعاده لأنّها لا تريد العودة إلى الوحدة الأردنية ـ الفلسطينية، لئلا تخسر مقعد المفاوضات مع تل أبيب، فيما كانت واشنطن، ترى خطورة التل الذي استعاد تماسك وقوة الدولة الأردنية، في قدرته على أن يفرض على الدولة المستعادة، والسير في مركب معاد لمشاريعها في المنطقة. ومن جهته، فإنّ نظام السادات ودّ تصفية رجل يريد استعادة المبادرة في الشأن الفلسطيني من الأيدي المصرية إلى عمان. وهكذا، قتلت رصاصات عديدة الرجل ودفنت الحكومات المتعاقبة بعده الرؤية والمشروع. ونختم هنا بملاحظة أنّ النظام لم يقم بإجراء أي تحقيق في مقتل التل منذ 29 تشرين الثاني 1971 حتى الآن!

محاولات ولكن...

أبرز محاولات تجديد خط المقاومة الأردنية، بعد وصفي التل، حدثت في 1973، حين طالب ضباط أردنيون كبار ومسؤولون من خط التل السياسي، بفتح الجبهة الأردنية مع العدو، في سياق تقدير استراتيجي صحيح يريد الاستفادة من الضغط المصري والسوري على قوات العدو في جبهتين للولوج إلى الضفة، وتحرير أية أجزاء من أرضها، قبل إعلان وقف النار. وقد كان الضغط من داخل القوات المسلحة الأردنية وراء هذه الخطة قوياً، إلى درجة اتخاذ قرار باستيعاب هذه الموجة من خلال إرسال القوات الأردنية للمشاركة في الحرب على الجبهة السورية. وقد كانت هذه الجهود العسكرية نفسها المبذولة على الجبهة السورية، كفيلة بإحداث اختراق في الضفة الغربية، وتخفيف الضغط عن السوريين في الوقت نفسه، لكن، لم يكن ممكناً اختراق تفاهمات السلام الواقعي غير المعلنة على الحدود الأردنية مع فلسطين، ولم يكن مسموحاً بتجديد ثقافة المقاومة في البلاد.
هل كان هنالك خطر على الأردن؟ عسكريو الجيش الأردني المحترفون كانوا يعتقدون بأنّ الدفاعات الأردنية على المرتفعات وطوبوغرافية الأرض، سوف تمنعان العدو من التقدم في حالة فشل الجيش الأردني في تحقيق نجاحات في الضفة الغربية، او في حالة انكفائه. ولعل تجربة الجنوب اللبناني في 2006 تبيّن محدودية سلاح الطيران في إحداث تغييرات ميدانية أمام قوات مصممة تتحرك في خطة محكمة واستراتيجية واضحة الأهداف.

بعد 1973

التطورات السياسية العربية المعروفة بعد 1973، وخصوصاً لجهة انسحاب مصر من المواجهة والتجميد الاضطراري للجبهة السورية وتلاشي الدعم العراقي، واندلاع الحرب الأهلية اللبنانية ومعاهدة كامب ديفيد، وانكفاء الوضع العربي كله، لصالح هيمنة البترودولار، غيّرت الموازين في المنطقة. وتوالت بعدها الهزائم والنكبات وتوسعت الفئات البرجوازية الكمبرادورية واتسع نفوذها، بحيث أصبح مشروع تحرير الضفة الغربية بالسلاح خارج البحث، وتجربة المقاومة إما متعثرة أو جزئية، حتى جاءت تجربة حزب الله في لبنان، لتعطي لكتابات وصفي التل حول المقاومة، صدقيتها العملية.

2010 وما بعدها

تحت ضغط تعمق الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية، وبعد عقد كامل من سيطرة النموذج النيوليبرالي الذي ادى إلى إفقار وتهميش الأغلبية الأردنية لصالح طبقة كمبرادورية جديدة، بدأت الفئات الشعبية الأردنية تحتج وتتمرد وتتجه صوب الراديكالي. إلا أنّ ما يجعل اتجاه الحراك الاجتماعي الأردني، وطنياً بامتياز هو الخطر الصهيوني المتصاعد على الكيان الأردني. وهو خطر يبدّد «أوهام السلام»، ويطرح مرة أخرى على الشعب الأردني المهمة التي لا مناص منها، وهي التصدي للعدوان الصهيوني، بينما أكد المستنقع الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية، صحة نظرية التل الخاصة بـ«العدو المركزي»، بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والوحدوية. إن استمرار سيطرة مركزية القضية، وبالتالي استمرار التعاطي مع أوهام الحل السلمي سوف يضع الفلسطينيين في مواجهة الأردنيين وبالعكس، بينما لا مفر أمام الشعبين من الاتحاد في مواجهة قدر المقاومة التي تساوي الوجود. غير أنّ الاتحاد المطلوب هو اتحاد نضالي لا اتحاد في الخضوع لمشروع الوطن البديل، ومعناه الأساسي هو تحويل الأردن إلى حديقة خلفية للاحتلال الإسرائيلي.
المقاومة الأردنية هي اليوم العنوان الرئيسي لمستقبل التحرر والتقدم الأردنيين، لكنّها في 2012 أكثر تعقيداً بما لا يقاس بما كانت عليه حتى 1971. فمسيرة استثمارات السلام في الأغوار ومجمل النهج الاقتصادي الاجتماعي الحاكم وسياسات وثقافة السلام الواقعي مع إسرائيل، تكللت في 1994 بمعاهدة وادي عربة السيئة الصيت، التي أجبرت الأردن على خفض قواته المقاتلة وتفكيك دفاعاته الجبلية. أدى ذلك إلى جعل التفوق الاستراتيجي الإسرائيلي كبيراً جداً، لكن إحداث التوازن ليس مستحيلاً، في سياق استراتيجية دفاعية مستعادة، تركز على الشبكات الصاروخية وإعادة هيكلة القوات على اساليب المقاومة.
لكن الاستراتيجية الدفاعية لا تبنى واقعياً إلا بإحداث تغيير سياسي اجتماعي نوعي، يقوم على إصلاحات سياسية عميقة، وضرب الفئات الكمبرادورية، وتفكيك النموذج النيوليبرالي برمته، وبناء نموذج تنموي وطني وشعبي ينطلق من الميزات التفضيلية الوطنية، ويؤمّن إطلاق قوة العمل الأردنية من الأسر، ويسمح ببناء مقاومة مركزية تقودها دولة قوية وديموقراطية وعادلة تسهر على صون الاستقلال الوطني والتقدم الاجتماعي.
(*) يعود الفضل في جوانب أساسية من هذا العرض إلى الحوارات المطوّلة التي أجراها الكاتب مع الباحث الدكتور طارق مريود التل