أسعار النفط لن تُسقط الحكم السعودي. الحكم السعودي هو من سيسقط نفسه. هذه هي القاعدة الأساسية في تفسير أزمة أسعار النفط اليوم، والكلام الكثير عن مصاعب مالية تواجهها الدولة السعودية. البعض، مدفوعاً بتقارير غربية تتكاثر في الأشهر الأخيرة، يتصوّر أنّ انخفاض أسعار النفط سيدخل الميزانية السعودية في عجز، وهي ستسحب من احتياطاتها المالية المتراكمة لتغطية هذا القصور المالي، وهذه الاحتياطات ستستمرّ بالتقلّص ــــ خاصة في غياب بوادر عن ارتفاع دراماتيكي في الاستهلاك العالمي للنفط، او انخفاض في الانتاج ــــ حتى تنضب هذه الاحتياطات (هي تناقصت بالفعل، خلال السنة الماضية، بما يزيد على المئة مليار دولار) وتجد الدولة الريعية نفسها على حافة الافلاس والاحتجاج الاجتماعي.
كل الشركات والدول التي تعتمد على تصدير المواد الأولية، وخاصة النفط، تعرف الطبيعة المتقلّبة لهذه الصناعة، وأن الأسعار تخضع، باستمرار، لدورات ارتفاعٍ وانخفاض (boom and bust cycles)، وهناك كمّ هائلٌ من الدراسات حول سبل التوقّي من هذه الأزمات، وعزل الاقتصاد الوطني عن تقلبات الأسعار في السوق الدولية. الا أن هذا الكلام، على صحّته النظرية، لا يعني كثيراً على المستوى العملي. حتى ان كنّا نعرف أن كلّ دورة ارتفاعٍ في الأسعار سيقابلها (على الأرجح) انهيارٌ في مرحلةٍ لاحقة، الا أنّه من الصعب جداً أن نتعرّف على هذه النزعات أثناء حدوثها (والا لكنّا جميعاً أثرياء). سوق النفط، مثلاً، لم تشهد عشرات دورات الارتفاع والانخفاض في العقود الماضية حتى نتمكن من «تنميطها» والتنبوء بها. منذ أواخر العشرينيات، لم يشهد سعر النفط الا دورة «ارتفاع وانهيار» واحدة، ارتفع فيها السعر بشكلٍ كبير وحاد عام 1973 ولنحو عقدٍ من الزمن، ثم انخفض لمدة تقارب العقدين؛ وارتفع السعر مجدداً منذ عام 2004 لنحو عقدٍ، وقد نكون اليوم في بداية دورة «الهبوط» الثانية خلال هذا القرن.
من جهةٍ أخرى، المسألة هي ليست أن الدول والشركات لا تتعلّم من الأزمات ودورات الأسعار، بل انّ هذه الأزمات ــــ في أسواق المعادن والنفط والبورصات ــــ تحصل وتتكرّر، تحديداً، لأن الناس لا تتعلّم؛ وهذا له أسباب بنيوية تتعلق بطبيعة الربح في الاقتصاد الرأسمالي. حين تمر أسعار النفط في دورة ارتفاع، يميل السوق الى الافتراض بأنها ستظل كذلك الى الأبد، وتخرج النظريات عن «نهاية عهد النفط الرخيص» (وبالمقابل، في دورات الانخفاض، وتحديداً في أواخرها، يسود اعتقادٌ بأن السوق لن تنتعش مجدداً وأننا «دخلنا عصر النفط الرخيص» الخ). لو كانت الأمور أوضح وقابلة للتنبؤ، لما قامت المصارف بمدّ قروضٍ لمشاريع نفطٍ تفوق كلفة الانتاج فيها الثمانين والتسعين دولاراً للبرميل، ولما قامت السعودية بتوسيع الانفاق ورفع الرواتب وشراء السلاح بلا حساب، بل لاستخدمت مرحلة الطفرة والعوائد الكبيرة لحلّ مشاكلها البنيوية المزمنة، واعادة النظر بسياسات الاستيراد، والدعم الحكومي للطاقة والخدمات، والنظام الضريبي، وسوق التوظيف، وكلّ هذه القضايا الصعبة التي لا يمكن التعامل معها في مراحل الانكماش والأزمة.
هنا بيت القصيد، «دورة الهبوط» القائمة، اذا ما اعتبرنا أنها كذلك، لن تدفع بالسعودية الى الافلاس. المسألة لا يمكن تبسيطها عبر احتساب الأرصدة الحكومية السعودية وهي تتناقص الى الصفر؛ فالـ 600 مليار دولار، أو أكثر قليلاً، ليست حساب توفير فرديّ، بل هي تتضمن احتياط المصرف المركزي السعودي، ولا يمكن أن تنخفض دون حدٍّ معيّن (200 مليار مثلاً) لضمان أن تتمكن السعودية من دفع كلفة استيرادها والدفاع عن عملتها. ولكنّ القدرة المالية السعودية لا تتوقّف على الاحتياطات الحكومية، بل ان في امكان الحكومة اللجوء الى سوق مالية داخلية لديها أرصدة أكبر بكثير، ومصارفها على استعدادٍ لاقراض الحكومة، وسوقٍ خارجية لن تتوانى عن شراء سندات الحكومة السعودية (وهي تعتبر مضمونة وقليلة الخطر، فمن يصدرها حكومةُ تتلقى مئات مليارات الدولارات سنوياً من عائدات النفط). الحكومة السعودية قادرة على الاستدانة والتأقلم لفترة طويلة (كما حدث خلال التسعينيات)، اذا ما افترضنا أننا في «دورة انخفاض» سيقابلها، بعد سنوات تقل أو تكثر، ارتفاعٌ في أسعار الطاقة والطلب عليها.
أساس المشكلة هو نظامٌ اقتصاديّ وضعت مداميكه الأولى في عهد الملك سعود، وتشكّل بصورةٍ أوضح تحت اشراف الملك فيصل، وهو لا يتعلّق بـ «الرّيع» و»الفساد» بقدر ما يتعلّق بالعلاقة (أو المقايضة) التي انشأها النظام السعودي مع الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي، وهي تسير بالبلد ــــ حكماً ــــ نحو أزمة لا حلول سهلة لها. «الريع» هو ليس بالضرورة أمراً سيئاً، بل من المفترض أن يكون عنصراً ايجابياً في التنمية؛ وهناك مدرسة تقول إن الاعتماد على الريع، اذا ما كان ضمن نظامٍ يتوقى من الأزمات وقابلٍ للاستمرار، لا عيب فيه (لا ضرورة لأن تجبر نفسك، باسم «التنمية»، على صناعة السيارات ــــ مثلاً ــــ ان لم تكن تملك اياً من ميزاتها التفاضلية، أو أن تقرر بناء قطاع صناعي ضخم وبلدك قليل السكان).
السعودية، حتى في ظلّ انكسار أسعار النفط، تحصل على عائدات تفوق العشرة آلاف دولار لكلّ مواطن، وهو، بالمعنى المطلق، مدخولٌ هائل، يكفي لتمويل دولة بحجم السعودية، وتنمية، وبرامج اجتماعية. هو كأن تحصل دولة بحجم إيران على 800 مليار دولار سنوياً ــــ هي تحصّل حالياً أقل من أربعين ملياراً ــــ ولبنان على ثلاثين أو أربعين مليار دولار كلّ عام على شكل تحويلات مباشرة بالعملة الصعبة. الأزمة، اذاً، هي في مكانٍ آخر، وجوهرها سياسي.