ترتكز السيرة الذاتية لما يسمى «الثورة السورية» على كثافة التضليل ووحشية الطموح. السياق، مثله مثل النتائج، خطير ومدمر. ومواجهة الوقائع تكشف المضللِين والطامحين في عقر لصوصيتهم، خصوصاً من البورجوازيتين، المتدّينة والعلمانية، اللتين تعملان على تطبيق مقولة بودلير: «اللصوص وحدهم مقتنعون بأنّه لا بدّ من نجاحهم». ذلك أنّ من يراقب سير الأحداث الدموية وشريط المواقف السياسية لن يتأخر عن اكتشاف الخديعة أو اللعبة التي هيمنت على مجريات الأزمة السورية منذ تشكلاتها الأولى، إذ جرى فيها خلق نظام للحوافز لمن يريد أن يستثمر في تنمية الفتنة وتضخيمها، واستقطاب كبار العابثين وصغار المضاربين بدم الشعب السوري بتمويل خليجي مكشوف. وقد اقتضت أعمال تهيئة الأجواء الاستثمارية الجاذبة للأُجَرَاء والمياومين البسطاء، ومن له حقٌ ومن يشاغل الباطل ويداوم عليه، استخدامَ كل وسيلة تستند إلى الإمكان لا إلى المشروعية، أي على تطويع الوسائل بمعزل عن راجحية الأهداف وحقانية الغايات. وبهذا الوحي استُخدم، لتهييج الأزمة وإعطائها بعداً دينياً وثورياً، اسم النبي محمد (ص) ودينه، والمسيح (ع) وتعاليمه، ومجموع الصحابة وما خلُص ووصل من أفكار وتجارب المناضلين الثوريين وسِيَر المكيافيليين وأضغاث أحلام بعض المشايخ في آخر إصداراتهم من على منابر الفضائيات المذهبية.منذ الحدث البوعزيزي، و«الربيع العربي»، بحسب وصف أصحاب النيّات الطيبة والانتهازيين على حدٍّ سواء، محمول على محمل الجدل لا اليقين. عند محمد حسنين هيكل «سايكس ــ بيكو جديد» على المنطقة التي يبدو أنّ عملية ضبطها صعبة جداً، فيما جاء المشهد السوري ليؤكد أنّ ما يحصل لا يتصل بشروط ربيع اعتيادي، ولا ينتسب إلى منطق الثورة ومبرراتها بكامل بنودها وأبعادها. ولذلك لم يتطابق المحمول مع المنطلق، وما يجري رسمه مع مقاصد الإصلاح والتغيير الإيجابي. وبالفعل، أدخلت الأزمة السورية، على وجه الخصوص، المشتغلين بقضايا النقد السياسي والديني والتاريخي في سلسلة من الإشكاليات المتلاحقة. آثارُ البلبلة قائمة تحت وطأة الأزمة المنهجية والاصطلاحية وتسيّب الحدود في المفاهيم والقيم، وحتى اللحظة يبدو أنّ العرب يكوّنون فضاءهم من خلال التفاتهم إلى الماضي لا التطلع إلى المستقبل، ويتعرفون إلى السلطة عن طرق العنف لا العقل. وكأن لا شيء حصل في تاريخهم ولا تجارب إنسانية نشأت من حولهم بمقدروها أن تلهمهم فكرة العبور إلى الدولة (المؤسسة) الراعية والحامية والعادلة والسيدة من دون اللجوء إلى أساليب القتل والعنف، ونهر الموت الذي لا يبدو أن شُحّه قريب!
إنّ بعض ما نشاهده على شاشات التلفزة من جرائم مروعة أصبح مصدراً لدونية العرب والمسلمين، وما يسمى الثورات العربية نقلت إلينا ركام الخطابات التاريخية السادية والمشاعر العدوانية في جوّ من الانفلات والضياع المتواصل. البعض يدين كل من يخالفه الرأي ويغايره في المستوى الاجتماعي ليبرر اضطهاده للغير وعنفه بحقهم. وبات التحالف مع قوى الاستعمار والشر هو الطريق الأسهل للتعويض عن الغبن السياسي. تتهاوى المثُل ويتبدّد الإيمان بكل القيم أمام تحقيق الرغبات الشخصية والجماعية، ويصبح السلوك الجانح العلة لانتزاع الاعتراف وإثبات الوجود. بل حتى إنّ البعض يتطلع إلى قيم مبهمة لتصريف مخزون طاقته لأنّه عاش في بيئة همّشته إنسانياً وهشمته اجتماعياً فلم يجد خلاصه إلا أن يخرج على الناس شاهراً سيفه!
إننا لو عدنا بالتاريخ الأوروبي إلى الوراء، أي إلى عصر النهضة الذي تأسّس على معطيات الفكر ومنجزات العلم، حيث أطلق البعض على تلك المرحلة اسم «الثورة العلمية»، لوجدنا أنّ ثورة العلم صبغت كل شيء في حياة الإنسان الغربي بصبغتها. بالفعل طرأ تطور نوعي وكمي على المعرفة الإنسانية، ما أدى إلى نشوء واقع سياسي وأخلاقي ومعرفي واقتصادي جديد سيطر على القارة الأوروبية وامتد إلى خارجها. فظهر المشروع الحضاري الغربي كفاعلية تاريخية اجتماعية قيمية، بمعزل عن موافقتنا أو اعتراضنا على كل أو بعض بنيانه ومكوناته الفلسفية ومبرراته الثقافية. ولكن كان لهذا المشروع الأثر الكبير على تطور العلوم وانتشار المعرفة وتبلور الكثير من المفاهيم الحقوقية والإنسانية وصولاً إلى تكريسها في اتفاقات دولية. اليوم الحضارة الغربية أمام تردٍ واضح بعدما أكملت دورتها. تبدو في مجرى النهاية على محور الزمن. كل ما تستطيعه في المجالين العقلي والأخلاقي سواء كانت نتائجه سلبية أو إيجابية قد عاينته البشرية التي تعتقد، في ظل الظروف العالمية الراهنة، أنها وصلت إلى ذروة الإفلاس والإحباط التام، وأنها تنظر إلى مشروع بديل آخر، يعيد إلى ربوع العالم الأمن والسلام ويحقق للإنسان كرامة العيش والوجود والحضور.
ويفترض لكي نتبين طبيعة الصراع الدائر اليوم بين مختلف الدول والمحاور في مناطق متعددة من العالم والمنطقة، أن ننظر إلى أزمة الحضارة الغربية وما تواجهه من مشكلات خطيرة تريد أن ترمي بها على الغير. الأزمة في الغرب تصل تردداتها إلى الشرق، والتحديات هناك معطيات هنا، والتباينات هناك حروب أهلية وقطرية هنا. إلا أنّ ما تشهده المنطقة وخصوصاً ما يجري في سوريا والذي يتأسّس على معطيات العنف ومنجزات الجهل والتعصب، هو الآخر إفلاس من الجانب الآخر للبشرية وعلى الضفة الأخرى للحضارة الغربية. مَن ورث الحضارة العربية والإسلامية من الأجيال الحالية بمن فيهم الملوك والرؤساء والقيادات السياسية والنخب الفكرية وعلماء الدين لم يستطيعوا أن يبنوا لغة استشراف للمستقبل ويسهموا في صياغة وعي جديد في حركة الجماعتين العربية والإسلامية، بقي خط الفواجع مستمراً في منحى متصاعد، وقوانين العسف وقيم الاستبداد هي التي تؤشر إلى فردوس التردي الحضاري القائم. فإذا كانت ثورة العلم صبغت كل شيء بصبغتها في الناحية الغربية، فإنّ ثورة الجهل تصبغ تقريباً كل شيء في الناحية الشرقية.
إفلاسان إذاً، يشهدهما العالم. إفلاس الغرب من إنتاج القيم الرشيدة، وإفلاس الشرق من تطبيق القيم الرشيدة. الغرب وصل مع العلم إلى باب مسدود، والشرق أوصله الجهل إلى نهاية مشؤومة. وفي صيرورة التحديات التي تتنامى من هنا ومن هناك، تأتي هذه التراجيديا الكبرى المسمّاة الربيع العربي في سياق انشطار الغرب على نفسه وفشله في إحداث التوازن المعرفي والمعيشي والحقوقي لدى بقية شعوب العالم، وتراجع البعد الأخلاقي في البيئات العربية والإسلامية. وقد تكون ظاهرة العمليات الانتحارية والمجازر الدموية التي لا تزال معطياتها حارة، من أكبر التحدّيات التي تواجه المسلمين وأهل المشرق العربي على وجه الخصوص. فهذه القوة الغبية لم تهز أركان العمل الجهادي الشريف فقط بل هزت وجدان الدين الإسلامي وصورته النقيّة.
وفي هذا التعقّب لمآلات الأوضاع المتأججة في المنطقة، يأتي السؤال الآتي: لماذا الأزمة السورية هي الأشد فداحة وخطورة على الأمن والسلام الإقليمي والعالمي، والأقسى تنازعاً واحتداماً بين الدول العظمى؟ إنّ مما لا شك فيه أنّ حقائق الجغرافيا والتاريخ، ولسنين طويلة، كانت تتبلور عند شرق البحر الأبيض المتوسط وجنوبه، أي في هذه المنطقة الممتدة من بلاد النيل إلى بلاد الشام وصولاً إلى بلاد ما بين النهرين، والتي تتسع لكثير من الدلالات والمقدسات، والحافلة بالإمكانات الدينية والطبيعية والاستراتيجية. وقراءة التاريخ تظهر أنّ هذه المنطقة كانت محط اهتمام كل الإمبراطوريات التي بادت. وكما هبت عليها في الماضي عواصف عاتية من كل حدب وصوب، فإنها اليوم تتهيّأ لعواصف مماثلة. والمعطيات التي أمامنا تُنبئ بأنّ عناصر التفجّر تتجمع بسرعة، وأنّ المنطقة تستدرج القوى الأساسية على الساحة الدولية إلى هزة كبرى سيكون لارتداداتها تأثير على تغيير معالم هذا الزمن وملامح هذا العالم. وهذا يوضح بالفعل أنّ المنطقة تمثّل قاعدة الاستقرار والتوازن في العالم، ومن شأن أي تدخل خارجي أن يزلزل قواعد الاستقرار العالمي على نطاق واسع. وبهذا المعنى، حذّر وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر من خطورة التدخل العسكري الخارجي على سوريا «لأنّه يخلّ بالنظام العالمي».
إنّ الفهم الواعي والشامل لحركية التاريخ وصيرورته، ومجريات الصراع في المنطقة وعليها، هو الذي ينقذ شعوب هذه المنطقة من المحرقة القادمة التي نرى اشتعال فتيلها ونترقب تأجّجها، أولاً من خلال انهيار النظم الاستبدادية الشائخة، وثانياً عبر التنامي المطّرد للأيديولوجيات والديناميات المذهبية التي تتقاطع مصالحياً مع الفواعل الغربية التي تتحرك في إطار فرز التجزئة والقطرية على نحو جديد. وقد عبّر محمد حسنين هيكل عن هذه الفكرة خلال توصيفه للمشهد العربي الراهن فقال: «التقسيم فى المرة الأولى كان تقسيماً جغرافياً وتوزيع أركان، لكن التقسيم هذه المرة تقسيم موارد ومواقع». لكن الإشكالية التي تواجه الأمة عقب ظاهرة الصعود الإسلامي إلى واجهات القرار والحكم في العالم العربي، هي عدم اعتراف الإسلاميين بأنّ الذي يحصل، فيه حتى شائبة التقسيم. وعدم اعترافهم أنّ ما يسمى «الثورات العربية» ليست نقية بالكامل، وكونها أيضاً غير أجنبية عن الافتعال والتكلّف. كذلك عدم اقتناعهم بأنّ ما يجري هو تغيير استراتيجي وحضاري جامح لا يطاول النظم فحسب بل ينسحب إلى القيم والأخلاق والهوية وشبكة العلاقات الدينية والاجتماعية داخل البيئات والمجتمعات العربية، وأنّ المطلوب منهم أن ينضموا إلى المشهد السياسي ويكونوا أدوات وبيادق في المشروع الذي أطلقت عليه الإدارة الأميركية منذ سنوات «الشرق الأوسط الجديد». ويشهد على ذلك أنّ التدخل الأجنبي حقيقي وبارز ويستهدف ضمان مصالحه لا تحرير إرادة الشعوب العربية، وأنّ دورة العنف في بعض البلدان كسوريا وليبيا واليمن، والتي يظهر فيها حجم هذا التدخل وضخامته، تستقر في أصل هذه الحقيقة الغاربة.
الرحلة بدأت للإخلال بأمن المنطقة ووحدتها، وبدل أن يغيّر الإسلاميون الأقدار والمصائر حاكوا إيقاع الواقع وانجذبوا إلى إغراء اللعبة التي لم تبقَ لعبة بل جحيماً يتحرك من موضع إلى موضع، إذ ثمة حاجة ماسّة إلى أن يدرك الإسلاميون هذه اللحظة المفصلية التي يتقرر فيها مصير الإنسانية لا المنطقة وحدها. لحظة تتزايد فيها وطأة التدخلات الخارجية، ويُعمل فيها تحت أقدام الظلام على تسليم مفاتيح إدارة الحكم في البلدان العربية لقوى وحركات إسلامية، لأنّ مقتضى الأحوال والسياسات الغربية يستدعي مثل هذا الإجراء. وفي هذا السياق تأتي تصريحات بعض المسؤولين الغربيين التي تصدر أحياناً يومياً لتؤكد هذا التوجه، الأمر الذي يضعنا أمام تشابك معقد في المصالح يسمح للاستراتيجيات الغربية بأن تتدفق من النوافذ الإسلامية المشرعة. وعلى ما يبدو أنّ اليأس المطلق خلال السنين الماضية هو الذي أوهم الإسلاميين بأنّ التفاهم مع القوى الغربية هو الاحتمال الوحيد، وهو الذي يُظهرهم أمام الملأ أنّهم يتقدمون ويتوسعون. ولكن هذه «البروفة» التي تُنفذ بأياد غربية، وبعد التأكد من دوافعها السياسية، وضعت الإسلاميين على أهبة مرحلة جديدة مشحونة بالتحديّات، ولكنها سمحت للطامحين بالاستثمار السريع باسم الإسلام أن يملأوا المساحات الفارغة ولو كان ذلك بالتخلي عن شرعيّة السماء واكتسابها من الأمم المتحدة والماسكين بقبضتها. ولقد ظنّ البعض منهم أنّ الأخذ بالمنهج الديموقراطي على الطريقة الغربية يجعلهم أكثر مقبولية في العالم، إلا أنّ المشكلة ليست في تغيير الزي بل في تغيير الاتجاه. وكل ذلك يشير إلى حقيقة أنّ الانبعاث الإسلامي الجماهيري لم يكن ذاتياً، بل بفعل عوامل خارجية، من دون أن ننفي أنّ الأرضية الإسلامية كانت مهيّأة ومتحفزة ومنظّمة لتسلم مقدرات الحكم. يُضاف إلى أنّنا أمام واقع صراعي بين الإسلاميين أنفسهم، إذ لا نجد نمطاً إسلامياً واحداً متجانساً، بل نحن أمام أنماط عدة لا تصبّ جميعها في مصبّ واحد. لذلك، إنّ أحد وجوه المأساة وأحد وجوه الصراع المتنامي بين المسلمين، على اختلاف مشاربهم، هو هذا التضارب في المواقف والتنازع في المفاهيم والقيم الذي يراكم اعتقاداً أنّ ما يسمى «الثورات» بعيد عن الهدفية والوعي والمسؤولية والأيديولوجيا، وأنّها تتحرك منتشية في الفوضى وتتخبط لحمولتها الزائدة من الأوهام. أما الإسلام فله رب يحميه.
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية