بمجرد ظهور النتائج الأولية لانتخابات «المؤتمر الوطني» في ليبيا، بدأت الماكينة النيوليبرالية بالاشتغال مجدداً. هي لم تتوقف أصلاً منذ دخولها المتأخر على خطّ الاحتجاجات العربية بمعية رأس المال الدولي، إلا أنّ وصول الاسلامويين إلى السلطة في أكثر من بلد قد أصابها بعطالة مؤقّتة. عطالة ما لبث الحدث الليبي أن أخرجها منها. طبعاً سيكتب الكثير في الأيام القادمة عن «الاستثناء الليبي» وعن إرادة الشعب الذي رفض الإذعان لمنطق الحرب الأهلية ولقدرة تيار بعينه على تنظيمها (أي الحرب) وتصريفها في قنوات سياسوية ليست بعيدة تماماً عن فكرة الهويات الجزئية. الأرجح أنّ هذا التحليل سيلقى استحساناً بالغاً لدى كثيرين من خارج التيار النيوليبرالي أيضاً، لأنه يوفّر عليهم الخوض في نقاشات لا يرون أنّها تناسب المرحلة الانتقالية الحالية. وهؤلاء موجودون داخل اليسار وخارجه، وتموضعهم الملتبس ذاك هو ما يسهّل استبطانهم لمنطق هزلي يمسرح الصراع ويجرّده من قيمته الفعلية. وعندما يتجرّد الصراع من قيمته تلك (بعده الطبقي) يغدو مسرحاً لاعتبارات ثقافوية لا تعنى بشيء قدر اعتنائها بنحت الهويات الجزئية والاشتغال على تصديرها بوصفها بؤرة المشهد حالياً. وما الفرحة العارمة اليوم «بتغلّب» «الليبراليين» على «الاسلامويين» في «الانتخابات الليبية» سوى دليل جديد على ذلك، وعلى معاودتنا قراءة الصراع كلّ مرة من وجهة نظر تغلّب الهامش على المتن، وتحيل اليمين واليسار والوسط على مرجعية واحدة هي «المرجعية الليبرالية»! تحار مثلاً في توصيف يساريين عرب لا يتحرّجون من إظهار سعادتهم «بفوز» محمود جبريل وكتلته في «انتخابات ليبيا». لقد حصل شيء من هذا القبيل أيضاً في مصر عندما جمع ائتلاف واحد بين حزب يساري راديكالي كالتحالف الشعبي الاشتراكي، وحزب يميني يموّله رأسمالي مصري معروف كحزب المصريين الأحرار! حتماً ما يجمع محمود جبريل بنجيب ساويرس هو أكثر بكثير مما يجمع أحدهما بالتحالف الشعبي، أو الآخر بيساري مصري يهلّل لهزيمة الاسلامويين في ليبيا! المنطق الصوري الذي لا يكلّ سلامة كيلة عن تكراره هو في هذه النقطة تحديداً، لا في أي مكان آخر. كيف بالإمكان أن نكفّ عن مجاراة المنطق الذي ينفي عن الصراع بعده الطبقي بما هو صراع بين يمين ويسار على بلورة الهوية الطبقية لمشروعيهما بعد «الاستيلاء على السلطة»؟ ثمّة مشكلة فعلاً في أن يعاود اليسار التحالف كلّ مرة مع اليمين العلماني بحجّة مواجهة الاسلامويين (وهؤلاء يمينيون بدورهم!) أو بحجة أسبقية القطيعة مع «الدولة الدينية» على بلورة الهوية الطبقية للصراع. في مقدور هؤلاء مثلاً أن يخوضوا الصراع على الجبهتين: جبهة «إسقاط مشروع الدولة الدينية»، وجبهة بلورة هوية طبقية واضحة للصراع. إذ ذاك لا يعودون مجبرين على تقديم التنازلات تلو الأخرى لرأس المال لمجرّد أنّه يمتلك صحفاً وفضائيات تتيح لهم منابر لمقارعة يمين ديني يعجزون فعلياً عن مقارعته على أرض الواقع. ومن جملة التنازلات التي سيكفّون عن تقديمها لو امتلكوا الجرأة فعلاً لإقرار هزيل ومخجل بوجود تناقض فعلي بين البعدين «المدني» (يبدو أنّ مصطلح العلمنة لم يعد رائجاً هذه الأيام) والطبقي «للمشروع» اليساري. يكفي إلقاء نظرة بسيطة على شكل العلاقة بين رأس المال الذي يستثمر في الحدث والنخبة التي تبلور ذاك الاستثمار «معرفياً» حتى ندرك حجم المأزق الذي تعيشه تلك النخبة اليوم.في العادة تكون النخب بمثابة الرأس للكتلة الجماهيرية الحاملة لمشروع التغيير. يبدو أنّ الأمر لم يعد كذلك تماماً. هنالك الآن من يقف على رأس تلك النخب ويقودها إلى «مراجعات» أيديولوجية ليست تماماً من طينة مشروع التغيير ولا من طينة حوامله الاجتماعية. عندما يكتب فلّان أو علّان في صحيفة تشتغل بمنطق المياومة السياسية (والتعبير هنا لقاسم عزّ الدين) وتتحرك وفق ما تمليه عليها مصلحة الناشر النيوليبرالي، لا يعود ممكناً انتظار أي شيء من هذه الكتابة، حتى لو بدا للمرء ظاهرياً أنّها تحدث فرقاً ما. مثلاً لم ألحظ في مجمل القراءات التي أواظب عليها منذ فترة للصحف المصرية أنّ هنالك من تناول الصراع في مصر من وجهة نظر مغايرة للخطاب النيوليبرالي المهيمن. تكاد تكون بعض مقالات رباب المهدي (كاتبة ماركسية) وعبد الله السنّاوي (صحافي ناصري عنيد) «استثناء» في هذا المجال. طبعاً ليس ثمّة مصادفة في الأمر، فالأولوية اليوم ليست للقراءات التي تحاول إعادة إنتاج الاستقطاب السياسي على أسس مغايرة للاشتغالات الكولونيالية. «بصعوبة بالغة» وجدت مقالة أخيرة لرباب المهدي في «الشروق» المصرية (وهي جريدة نيوليبرالية بامتياز) تتحدث فيها عن هزلية مصطلح التكنوقراط (عنوان المقالة: وهم التكنوقراط). تقول مثلاً في معرض ذمّها للسردية الاقتصادية التكنوقراطية التي تغلّب النمو على توزيع الثروة: «... فكرة التكنوقراط في المواقع التنفيذية مرتبطة بنسق في الاقتصاد يعطي الأولوية لمعدلات النمو وليس للتوزيع العادل للثروة ويهتم بالمؤشرات الكلية للاقتصاد دون النظر إلى تأثيرها على حياة البشر. في حين أنّ الاقتصاد كما السياسة هما انحياز..». فكرة الانحياز التي تؤكد عليها المهدي هنا هي ما يفتقر إليه اليوم الصراع في مصر. ففي ظلّ توظيف الجدل الدستوري العقيم في المناكفات بين العسكر والإخوان، يجري طمس التموضعات الطبقية لكل منهما، وهي تموضعات تقف على مسافة واضحة من مصالح الطبقات الشعبية التي بدأت تتململ جدياً من صراعات الطرفين ومن انحيازاتهما الاقتصادوية السافرة. قبل أيام فقط، رفعت شعارات واضحة في إضراب عمال المحلة الكبرى ضد الرئيس «المنتخب» محمد مرسي وضد جماعته. والجديد في هذه الشعارات هو خروجها عن النسق الاحتجاجي الاستهلاكي الذي وضع الاقتصاد في خدمة السياسة ولم يلتفت إليه إلا من باب المياومة الشعاراتية التي تقول: عيش... عدالة اجتماعية. بخلاف مياومي التحرير، ذهب عمّال المحلة إلى صلب الموضوع وصوّبوا مباشرة على الإخوان المسلمين من موقع المتضرّر من سياساتهم المنحازة «لاقتصاد التكنوقراط» الذي تحدثت عنه رباب المهدي في نصّها أعلاه. هم ليسوا منحازين اعتباطياً ضد الفقراء، بل إن انحيازهم هو نتاج سياسة تحايلت بداية على الطبقات الشعبية المتضرّرة من سياسات مبارك وزمرته، وأسرفت تالياً في تمجيد فكرة القطيعة مع تلك السياسات من موقع من يطرح «بديلاً منها». لاحقاً تبين «لمن انطلى عليه» هراء الإخوان والعسكر معاً أنّ «البديل» ما هو إلا استمرار للسياسات ذاتها ولكن مع إخراج أكثر دهاء لفكرة النّهب المنظم. ثمّة ما يشير إلى تعاظم في وعي المصريين لموقعهم الفعلي من الصراع داخل البلد. هم ليسوا اليوم في موقع المبادرة الفعلية للتحرك بعدما سحبت منهم الذريعة «شرعياً» (عبر الانتخابات الصورية)، لكن من قال إنّ تحركهم للدفاع عن مكتسباتهم وحقوقهم بحاجة إلى من يسبغ عليه «غطاء شرعياً»؟ لم يحتج عمّال المحلّة إلى غطاء مماثل عندما تحركوا وبدؤوا إضرابهم ورفعوا شعاراتهم المناوئة لانحيازات الطبقة السياسية العميلة بذراعيها العسكري والديني. ولتحرّك هؤلاء اليوم أهمية تفوق بدلالاتها كلّ ما صنعته «الكتلة الثورية» المياومة حتى الآن، فهم أولاً وقبل أي شيء نقابيون ينبني حراكهم على حيثيات ملموسة تتعلق بمصالحهم ومكتسباتهم لا على أي أساس آخر. وعلاقتهم بالطبقة الحاكمة تتحدّد وفقاً لامتثالها لهذه المصالح والحقوق والمكتسبات، والتي هي بالمناسبة تخصّ الغالبية الشعبية المفقرة والمسحوقة. وبمجرّد شعورهم بأنّ السلطة التي انتدبوها لفعل ذلك عبر «صندوق الاقتراع» (في رأيي انّه لا يزال صورياً إلى حد بعيد) قد أخلّت بانتدابهم لها سيسحبون منها الشرعية فوراً، وستغدو من حينها في مرمى تصويبهم الطبقي. وهذا ما حصل حرفياً في المحلّة الكبرى. كلّ ما فعله عمّالها الشجعان (وعاملاتها أيضا) أنهم أعادوا موضعة الصراع ضد السلطة. لم يفعلوا ذلك بناء على املاءات رأس المال الدولي ولا على تموضع ذرائعي إلى جانب فريق سلطوي ضد آخر. لا يبدو أصلاً أنّ الترتيبات الحالية بين العسكر والأخوان والقوى السياسية الرثّة تعنيهم في شيء. ولأنّهم كذلك نجحوا جزئياً في ما فشلت فيه النخب طيلة عام ونصف العام من الحراك. نخب اعتادت التنظير فحسب للانحيازات الاجتماعية الفعلية. رباب المهدي من هؤلاء الذين (واللواتي) نظّروا طويلاً لانحيازات مماثلة، وعندما حان موعد الفعل انقلبوا على ما نظّروا له، وأصبحوا على رأس فريق يعمل على تلفيق أفكار نمطية تدعو إلى «التوافق» وهدم الاستقطاب الاجتماعي. في نصّها المنشور في «الشروق» تقول الآتي: «... من تحتاج إليهم مصر الآن هم بالتأكيد متخصّصون، لكن متخصّصون ذوو انحياز سياسي يعبر عن مطالب الثورة وقادر على ترجمتها في شكل عملي إلى سياسات...». من جديد تؤكد صاحبة نظرية «هدم الاستقطاب» على الانحياز السياسي لمطالب «الثورة». هي اليوم تدافع بشراسة من موقعها ذاك عن وجود محمد مرسي على رأس السلطة لأنّها تعتبره «خيار الشعب الذي أسقط النظام». عمّال المحلّة أيضاً اعتبروه كذلك قبل أن يتبيّن لهم العكس. هل تجرؤ (هي ومن معها) من موقعها كيسارية راديكالية على ملاقاة هؤلاء في مسعاهم إلى إعادة موضعة الصراع طبقياً؟ إذا فعلت فستبدو كمن يعين شريحة وازنة من عمّال مصر على تجذير احتجاجهم أكثر، وعلى إيجاد هيكل نظري يتيح لمن يريد مواصلة النضال ضد السلطة الطبقية أن يفعل. حينها فقط نكون قد بنينا أرضية صلبة تعيننا على مواصلة النقاش بشأن أمور نافلة مثل التوافق والإجماع والجدل الدستوري والدولة المدنية وتحالفات اليسار والليبراليين و...الخ. والمشكلة الحقيقية في مصر وليبيا واليمن وسوريا وتونس والمغرب والأردن و...الخ أنّ الأمور النافلة تلك لا يراد لها استعمارياً أن تكون إلا متناً. على أمل أن يقلب عمّال المحلة ومن على شاكلتهم في المنطقة المعادلة ويعيدوا إليها متنها... الطبقي.
* كاتب سوري