في الذكرى السادسة لحرب تموز، أعلن زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله جملة من المعطيات الجديدة المرتبطة بالاستراتيجية السورية التقليدية المعروفة بـ«الدفاع خارج الأسوار». وتقوم هذه الاستراتيجية على تجاوز آثار خروج مصر من حلبة الصراع مع العدو الإسرائيلي بعد 1973، وبالتالي المصاعب الجسيمة للحرب النظامية على الجبهة السورية نفسها، من خلال إدامة وتصعيد المعركة مع الإسرائيليين والأميركيين على الجبهات غير النظامية في المنطقة. وعلى هذه الخلفية، جاء الدعم السوري الحيوي والمثابر للمقاومات العربية في فلسطين ولبنان والعراق. ولطالما صوّر الخصوم السياسيون لنهج المقاومة، تلك الاستراتيجية بأنّها تعبر عن أنانية تحمي نفسها ومصالحها بممارسة الصراع على أرض الآخرين وبرجالهم. لكن أولئك الخصوم يتغاضون عن الكلفة الباهظة للحرب خارج الأسوار، والمخاطر التي تنشأ عنها، وامكانية انتقالها، في المنعطفات الحادة، من خارج الأسوار إلى داخلها. وهو ما يتطلب الحفاظ على جاهزية عسكرية مستعدة للمواجهة من دون تقاعس.
التهمة الثانية الموجهة إلى تلك الاستراتيجية هي القائلة إنّ دمشق تستخدم المقاومات ورقة ضغط للتوصل إلى تسوية مع إسرائيل بشأن الجولان، ومع الغرب بشأن مصالحها. وقد أظهرت الأحداث على مدى العقود الأربعة الماضية، وبعد كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، أنّ الصراع ــ وليس التسوية مع إسرائيل ــ هو محور السياسة السورية.
دفعت سوريا بالفعل أثماناً باهظة على مذبح استراتيجية الحرب خارج الأسوار، أبسطها المواجهات العسكرية مع الإسرائيليين والأميركيين في لبنان في النصف الأول من الثمانينيات، وأقساها مساعي الحلف الأميركي ــ الإسرائيلي ــ الرجعي لتقويض الاستراتيجية السورية نفسها من خلال الحصار والعزل ونقل الحرب إلى داخل الأسوار، كما حدث في التمرد الإخواني الإرهابي في1980، وكما يحدث منذ ربيع 2011 وحتى الآن من حرب إرهابية وإعلامية شرسة على سوريا المحاصرة.
الجديد الذي جاء نصر الله به، هو أنّ دمشق تمارس استراتيجيتها تلك في عهد بشار الأسد، بجدية متفانية، أولاً من حيث كونها المزوّد الرئيسي بالسلاح ــ بكل أشكاله ــ للمقاومة اللبنانية والفلسطينية، وثانياً من حيث كونها تطوّر صناعاتها العسكرية ــ وخصوصاً الصاروخية ــ في السياق نفسه، وثالثاً من حيث استعدادها للذهاب إلى الحد الأقصى في تحمّل المسؤولية السياسية والعسكرية والمادية والمخاطر الناجمة عن تلك الاستراتيجية، كما ظهر في حرب تموز في لبنان 2006 وحرب غزة 2009. ففي الحربين، كان الجيش السوري، الرافعة الرئيسية للمواجهة، وشريكاً في الحرب. وقد تطلب ذلك، رابعاً، إعادة تكوين القدرات الدفاعية للجيش السوري بما حوّله إلى قوة عسكرية نوعية.
ولم يذكر نصر الله، لسوء الحظ، معطيات خاصة عن الدور السوري في المقاومة العراقية. ولعل هذا الدور هو الدور الأخطر الذي لعبته دمشق؛ فالعدو، هنا، هو الولايات المتحدة الأميركية نفسها، ومحور المواجهة ليس في الميدان التقليدي لإدامة الصراع مع إسرائيل، بل في هزيمة المشروع الإمبريالي الكبير للمحافظين الجدد، الهادف إلى إقامة الشرق الأوسط الجديد الأميركي العثماني ــ الخليجي ــ الأصولي.
ينبغي أن نتوقف هنا، إذاً، لنرى دور سوريا الدولي في أفول مرحلة القطب الواحد، وولادة مرحلة التعددية القطبية. وبالمقابل، تفيد سوريا الآن من الدعم الروسي ــ الصيني لمقاومتها المديدة للعدوان الإمبريالي الرجعي المستمر والمتصاعد منذ ستة عشر شهراً، بهدف تحطيم وحدة ترابها الوطني ووحدة مجتمعها وتفكيك جيشها وتدمير قدراتها الاقتصادية وحيويتها الاجتماعية والثقافية.
في وصف سوريا، لم يعد جائزاً، بعد خطاب نصر الله، القول إنّها دولة ممانعة. إنّها، بالتحديد، دولة المقاومة العربية. فقد اتضح اليوم أنّ تلك المقاومة هي حزمة سياسية وعسكرية وأمنية واحدة متضافرة في نهج استراتيجي واحد عماده الدولة السورية. ولذلك، فإنّ خروج حماس من دمشق لا يعني انفكاك حركة مقاومة عن حلف إقليمي، بل يعني انفكاكها عن خط المقاومة نفسه؛ فخارج العلاقة التحالفية مع سوريا، لا توجد مقاومة، بل مفاوضات وصفقات وتموضع داخل التجديد الإخواني لكامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة.
وسوريا هي دولة المقاومة العربية بامتياز، لأنّها، على خلاف المقاومات الجزئية، لم تتخذ، في خوضها الصراع مع تل أبيب وواشنطن، معياراً جزئياً ــ طائفياً أو مذهبياً ــ بل ظل معيارها واحداً هو الصراع نفسه، وتوظيف المقاومات الجزئية ضده. قاتلت سوريا إلى جانب حزب الله الشيعي وحماس الإخوانية والفصائل العراقية السنية، مبرهنةً على تكوينها العروبي والتزامها الاستراتيجي بالمقاومات بغض النظر عن ارتباطاتها وميولها الجزئية. إنّ شجاعة ورجولة نصر الله في إعلانه الدور المركزي لسوريا ورئيسها وجيشها وصناعتها العسكرية وضباطها ــ وفي مقدمتهم الشهداء داوود راجحة وحسن تركماني وآصف شوكت ــ في انتصار تموز 2006، تلهمنا الشجاعة والرجولة، لكي نخرج، بدورنا، من الدائرة الرمادية، ونعيد اكتشاف اصطفافنا السياسي وفق الأولوية المعيارية للصراع مع الإمبريالية والصهيونية. وفي سياق ذلك الاصطفاف الصريح والمحدد، سوف نرى، في الدولة الوطنية السورية، وفي ضوء الممكن الواقعي القائم بالطبع، وقبل الربيع العربي وبعده، المركز الرئيسي الأخير للمقاومة العربية وللروح العربية. وما تستهدفه الحرب المجنونة على سوريا اليوم هو تدمير هذا المركز وإلحاق سوريا بالمعسكر الأميركي الإخواني السلفي الرجعي.
لا يعمينا ذلك عن التناقض القاتل الذي وقع فيه النظام السوري خلال العقد الماضي؛ فبينما كانت رئاسة الأسد الابن تطوّر قدرات الجيش السوري، وتوطّد دورها في المقاومة، انزلقت إلى ما يشكّل الضد الاقتصادي الاجتماعي لذلك الدور من خلال تشجيع الغزو النيوليبرالي الكمبرادوري للاقتصاد والمجتمع السوريين. وهو ما تدفع سوريا ثمنه الآن، أولاً، بخسارة قسم من القاعدة الاجتماعية التقليدية للدولة والمقاومة، والمتمثلة بالفلاحين وجماهير الريف، وثانياً، بإفقار وتهميش مئات الألوف من الشباب الذين تحولوا خزاناً بشرياً للإرهاب الرجعي، وثالثاً، بنشر نموذج النجاح الفردي البرجوازي على نطاق واسع، مما أدى إلى اهتزاز منظومة القيم الوطنية لدى أوساط اجتماعية عديدة، وفي مقدمتها بيروقراطية الحزب والدولة.
من الثغر الكبرى لذلك التناقض، استطاع العدوّ النفاذ ليخوض المعركة ضد الدولة السورية داخل الأسوار. وهي معركة كسر عظم؛ فلن يتوقف التحالف الغربي العثماني الخليجي الرجعي، إلى أن يحقق الأهداف التالية: (1) شق المجتمع السوري على أسس طائفية ومذهبية تنهي وحدة الدولة، وتالياً امكاناتها ودورها الإقليمي، (2) تفكيك المؤسسة العسكرية وتصفيتها، (3) تفكيك القطاع العام والمؤسسات والقدرات الانتاجية الوطنية لصالح توطين النموذج النيوليبرالي الكمبرادوري نهائياً، (4) إلحاق سوريا بنادي المتعاهدين مع إسرائيل.
بالمقابل، ليس هناك من بديل أمام الدولة السورية سوى خوض المعركة حتى النهاية، بما يحقق الأهداف التالية: (1) سحق التمرد المسلح وتطهير البلد من العناصر الإرهابية، بصورة نهائية، وبأي ثمن وفي أقصر وقت ممكن، (2) اتخاذ كل ما يلزم من سياسات وإجراءات لتطهير جهاز الدولة من عناصر الفساد والترهّل، وتوفير السلع والخدمات وتنشيط الانتاجية الاقتصادية وإطلاق حملة وطنية لإسعاف الفئات الشعبية من الضنك المضاعف الذي ترزح تحته بسبب إفقارها وبسبب الظروف الأمنية الحالية، (3) تظهير أطروحة سياسية متماسكة وجذرية وهجومية، داخلياً وسورياً، ترتكز، بلا لبس، على مبادئ التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، (4) التخلص، كلياً ونهائياً، من كل آليات ومظاهر النهج النيوليبرالي وضرب مواقع الكمبرادور واستعادة التحالف الاجتماعي الوطني وفق الخط الاشتراكي.



الأيديولوجيا العامل الحاسم في التكوين السوري

لعل الأساس المتين للنصر في المعركة الدائرة الآن في قلب الشام، وفي معارك المستقبل، يظل يتمحور حول الأيديولوجيا؛ فلا يمكن لبلد، كسوريا، متعدد العصبيات والجهات والمجتمعات المحلية من جهة، ويربض على موقع جيو سياسي استراتيجي، أن يتوحد إلا برابط أيديولوجي.
ولا يمكن أن يكون هذا الرابط الأيديولوجي في سوريا دينياً، فبالنظر إلى أنّ العصبيات التي لا بد من لحمها لبقاء الدولة الموحدة، هي هنا طائفية ومذهبية، تغدو أي أيديولوجية من هذا الصنف وصفة للتفكيك لا للتوحيد. ولا يمكن أن يركن السوريون للحم دولتهم بالأيديولوجية الوطنية الليبرالية؛ فالجمهورية العربية السورية لا تتطابق، في جغرافيتها، مع جغرافية الوطن السوري الجريح. وهي متعددة المراكز الجهوية المتقاطعة مع تنوّع المجتمعات المحلية، وارتباطاتها المجاورة، مما يجعل الأيديولوجية الوطنية الليبرالية، هنا، هي، أيضاً، تفكيكية. ولا يمكن، في أحسن الأحوال، تصوّر ديموقراطية ليبرالية في سوريا تزيد في إنتاجيتها على الديموقراطية الطوائفية في لبنان. يعني ذلك استحالة الدولة واستحالة الجيش الوطني الفاعل واستحالة الاستقلال. كذلك، فإنّ التركيب الاجتماعي السياسي السوري المعقد في فئاته الطبقية وتقاطعاتها العصبية والجهوية والإقليمية، لا تسمح بصراع طبقي صاف في ظل الليبرالية الاقتصادية التي تعمل هنا كآلية إفقار وتهميش وتفتيت بين العصبيات لا فوقها.
هذه اللوحة هي التي انتجت بالأساس الحركات البعثية والقومية والشيوعية في سوريا، بوصفها إجابات عن سؤال الدولة والوحدة والدور. ولأنّ البعثيين قدموا صيغة ايديولوجية تمثل ضفيرة من العلمانية الوطنية والعروبة والاشتراكية، فقد تمكنوا من حكم سوريا، وهمّشوا الشيوعيين والقوميين، في حين حكمت اللوحة الاجتماعية السياسية السورية نفسها على الإخوان المسلمين السوريين بالفشل التاريخي، وحوّلتهم إلى جماعة متعصبة ودموية ومرتبطة بالاستعمار والرجعية الخليجية على طول الخط. وهي لن تستطيع، تحت أي ظرف، أن تقدم إطاراً أيديولوجياً مطابقاً لاحتياجات الدولة السوريا، ولن يعدو دورها إلا أن يكون جزءاً من ماكينة التقسيم أو في أحسن الأحوال جزءاً من التمثيل السني في شبه دولة تقوم على المحاصصة الطائفية والمذهبية. إنّ الطريق المفضي إلى قيادة دولة وطنية في سوريا مغلق مسبقاً أمام أي منظمة أصولية بحكم تكوينها. وهذا هو السبب الجوهري في أنّ الإخوان السوريين، رغم كونهم القوة الرئيسية المدعومة في المعارضة السورية، ورغم ما يتمتعون به من دعم خليجي وصلات دولية، عاجزون عن صياغة خطاب وطني موجه إلى سوريا موحدة، مثلما هم عاجزون عن تشكيل الثقل اللازم لتوحيد المعارضة السورية التي لا توجد بين صفوفها، بحكم التكوين السوري نفسه، قوة مركزية تشكّل بديلاً ممكناً للنظام السوري الذي، على أخطائه وخطاياه، لا يزال قادراً على تقديم إطار وطني موحد للسوريين.
لقد تمكن الرئيس الراحل حافظ الأسد من توليف الصيغة الأيديولوجية البعثية بظلال شديدة المرونة والواقعية من الاشتراكية السوفياتية والقومية السورية، ووحّد السوريين وراء دور إقليمي طموح انعقد على متلازمة البراغماتية المقيدة بالاستقلال والصراع الحتمي مع إسرائيل. وقد اختلّت هذه الصيغة المعقدة في عهد الوريث لصالح صيغة متناقضة من اللبرلة الاقتصادية في الداخل والتشدد في الخارج. وهي صيغة انفجرت عندما اجتمعت عليها ايديولوجية «الربيع العربي» ــ وهي خليط ديماغوجي من الليبرالية السياسية والأصولية الإسلامية والعدمية القومية ــ جنباً إلى جنب مع الخطط الانتقامية المعدّة مسبقاً ضد سوريا بسبب دورها في المقاومة، وهوس الخليج بالتخلص من آخر مركز للقومية العربية، ومتطلبات التوسع الإقليمي للبرجوازية التركية التي أعادت اكتشاف ضرورة العثمنة كإطار أيديولوجي سنّي للمجال الحيوي التركي.
الرابطة الأيديولوجية اللاحمة ليست خياراً في سوريا، وإنما قدر البلد والدولة. المعارضة، بأجنحتها الأصولية والليبرالية، عاجزة وستظل عاجزة عن تكوين خطاب وطني، بينما النظام الحاكم لا يزال متردداً، لكنّه يستطيع مع حلفائه الشيوعيين والقوميين السوريين أن يضفر الرابطة الأيديولوجية المطابقة لاحتياجات الدولة، عروبية ولكن مشرقية، علمانية ولكن وطنية وتراثية، واشتراكية ولكن ديموقراطية.



إخوان الأردن: نظرة من الداخل



أعلنت مختلف الهيئات التابعة للإخوان المسلمين الأردنيين مقاطعتها للانتخابات النيابية المبكرة المتوقعة في نهاية العام الجاري. والذريعة العلنية للمقاطعة هي الاعتراض الإخواني على النظام الانتخابي الذي أقره البرلمان الحالي، ويشتمل على 108 مقاعد للدوائر المحلية على أساس الصوت الواحد للناخب، و15مقعداً للكوتا النسائية، و27 مقعداً للدائرة الوطنية على أساس القوائم والنسبية.
ويطالب «الإخوان» بنظام يقوم على حق الناخب في الاقتراع لكل المقاعد في دائرته المحلية، وزيادة مقاعد الدائرة الوطنية إلى 50 بالمائة من إجمالي المقاعد البرلمانية. ومن شأن نظام كهذا أن يضمن لهم الأغلبية في مجلس النواب، وتشكيل الحكومة البرلمانية الأولى في البلاد منذ 1957.
ويدرك «الإخوان» أنّ من المستبعد القبول باقتراحهم هذا كاملاً، بالنظر إلى أنّ اشتراط المناصفة بين الدوائر المحلية والدائرة الوطنية، من شأنه أن يقلّص المقاعد البرلمانية المخصصة لمحليات المحافظات، ويزيد، دراماتيكياً، نسبة تمثيل الأردنيين من أصل فلسطيني. ومن المتوقع، في ظروف عقد صفقة مع الحكم، أن يتراجعوا عن هذا المطلب، لكنهم لن يتراجعوا، تحت أي ظرف، عن حق الناخب في الاقتراع لأكثر من مرشح في الدوائر المحلية. وهو الأسلوب الوحيد القادر على تمكينهم من مضاعفة نتائج كتلتهم التصويتية المنظّمة والمموّلة جيداً. ففي حين أنّ القوى والشخصيات المنافسة تستند إلى كتل تصويتية متحركة و«شخصية»، ومن الصعب بالتالي تجييرها، فإنّ الكتلة التصويتية الإخوانية ثابتة وحزبية، مما يسهل معه مضاعفة نتائجها. لكن، كل ذلك النقاش يظل على السطح، فمقاطعة الانتخابات هي ضرورة لازمة بالنسبة إلى الإخوان المتشققين اليوم إلى عدّة تيارات متناحرة اتخذت كامل سماتها الفكرية والسياسية والتنظيمية، سوى أنّها تحافظ على وحدة شكلية في ما بينها. ولكنها، مع ذلك، ما تزال متماسكة، ويتطلب الحفاظ عليها الإجماع السهل على مقاطعة الانتخابات النيابية التي لا تحظى، على كل حال، بالكثير من الاهتمام على المستوى الشعبي.
أربعة تيارات رئيسية ــ سنتعرّف إلى تفاصيلها لاحقاً ــ تنازعت القرار بشأن الموقف من الانتخابات؛ التيار الأصولي يميل عقائدياً إلى المقاطعة، يقابله التيار الملكي الذي يميل بالعكس إلى المشاركة، ولكنّه لا يملك القدرة أو القواعد أو الأموال لفرض وجهة نظره. أما الصراع الفعلي، فهو بين التيار الحمساوي الراغب في المشاركة كجزء من صفقة تضمن وتشرّع عودة حماس إلى البلاد (التقى قادة هذا التيار مع مدير الاستخبارات العامة بهذا الخصوص) والتيار الوطني الإصلاحي المعني بتخريب تلك الصفقة التي يرفضها لثلاثة اعتبارات. أولاً لأنّها تخلق بيئة مناسبة للتوطين السياسي، وثانياً لأنّها تضع عملية الإصلاح السياسي تحت رحمة وسقف العلاقة بين النظام وحماس، وثالثاً لأنّها تمنح التيار الحمساوي القدرة على التغلّب التنظيمي داخل «الإخوان».
المفارقة هنا تكمن في التقاطع بين مواقف الأصوليين المتشددين والإصلاحيين، بمقابل التقاطع بين الحمساويين والمَلَكيين. وبالنظر إلى التوازنات الحاصلة ومخاطر الانشقاق، تم التوصل إلى إجماع شكلي على مقاطعة الانتخابات، لكن التصريحات الصادرة عن قيادات في التيار الحمساوي ليست حاسمة حتى الآن، أو لنقل أنها تترك الباب موارباً.
على كل حال، لا يزال المشهد كله غامضاً والمواقف باطنية. وهي لن تتكشّف إلا إذا حدث تطور دراماتيكي في سوريا نحو سقوط النظام أو انتشار الفوضى والاقتتال الأهلي أو سيطرة جماعات اسلامية على مناطق يمكن إعلانها إمارات جهادية. في هذه الحالة، سوف يسيطر التيار الأصولي على الحركة في الأردن، ويفرض عليها سياسة القطيعة مع النظام المَلَكي، والدعوة إلى والعمل على إسقاطه ولو بالسلاح.
يتبع التيار الأصولي مرجعية شرعية متشددة، تفرض نوعاً من العداء العقائدي للنظام الملكي «العلماني والمتغرّب». ويستمد الأصوليون عقائدهم السياسية من نظرية سيّد قطب في الحاكمية، ويتبنون شعار المغالبة لا المشاركة، ويرفضون مطلب «المَلكية الدستورية» كونه يمنح الشرعية الدينية لنظام الحكم. ولا يؤمنون، بالطبع، بالهوية الوطنية الأردنية كونها عصبية قُطرية تتناقض مع الهوية الإسلامية الأممية. وموقفهم هو نفسه، بطبيعة الحال، من الهوية القومية العربية.
يعكس التيار الأصولي التقاطعات الحاصلة بين الأصولية والسلفية الجهادية كتيار دولي، وبين المزاج الانعزالي للأوساط الأكثر محافظة من فلسطينيي الأردن، وبين الميول المعتادة بينهم للقفز عن أزمة الهوية باتجاه هوية إسلامية أممية، وبين شعور أوساط أخرى بالحق في حكم الأردن، حق تشرّعه حاكمية الله في مواجهة المجتمع «الجاهلي».
بفضل الموجة الجهادية في أفغانستان، سيطر التيار الأصولي على «الجماعة» كلياً في ثمانينيات القرن العشرين. ومن أبرز وجوهه القيادية، همام سعيد ومحمد أبو فارس وعلي العتوم وأحمد الزرقان وعبد المحسن العزّام. وبسبب ميوله الجهادية، ارتبط مع حركة حماس، بعلاقات سياسية وتنظيمية، ثم ارتبط حتى التماهي أحياناً مع التيار الحمساوي الإخواني، وشكّلا معاً ما يُعرَف إعلامياً بفريق «الصقور». لو كان الأمر في يد التيار الملَكي، ما كانت هنالك أي مشكلة تعوق التوافق التام بين المَلَكيين والقصر. يعبر هذا التيار عن إرث العلاقة الوطيدة والمديدة بين النظام الأردني والإخوان المسلمين منذ أربعينيات القرن العشرين وحتى مطلع ثمانينياته. ينطلق الملكيون ــ وأبرزهم عبداللطيف عربيات وعبدالمجيد ذنيبات وعبد الحميد القضاة وعزام الهنيدي ــ من تقدير قديم كان سائداً لدى حركة الإخوان المسلمين ككل، يرى ضرورة في تحييد الأردن من الصراع. وكان هذا التقدير يعكس، بين خمسينيات وسبعينيات القرن العشرين، حاجة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين إلى مركز آمن وحليف في ظروف صعود الأنظمة القومية. يرى الملكيون بأنّ النظام الأردني شرعي دينياً بسبب انتساب العائلة المالكة إلى الأرومة الهاشمية. وهم، كالأصوليين، يرفضون مطلب المَلَكية الدستورية، ولكن لأنّها تمس بصلاحيات ملوك شرعيين، يرون أنّهم وفروا بيئة دعوية وسياسية آمنة ومكتسبات سياسية وتنظيمية علنية ومشاركة في الحكم والإدارة، لم يحصل عليها «الإخوان» في بلد عربي آخر.
يؤمن المَلكيون بالمشاركة والتدرّج في تحقيق الأهداف، ويميلون إلى حل أزمة الهوية من خلال اعتماد الهوية الهاشمية الجامعة. وقد سيطر الملَكيون على الجماعة، لفترة وجيزة، في مطلع تسعينيات القرن العشرين، في ظل ظروف التحالف الناشئ، بعد حرب الخليج الأولى، بين الملك و«الإخوان» الذين تولّوا بين 1990 و1993، عدة مناصب قيادية من بينها رئاسة البرلمان.
في 1999 رحل الراعي الأردني لحركة حماس، الملك حسين، وبالنظر إلى تضافر عوامل محلية وإقليمية ودولية، تدهورت العلاقة بين عمان وحماس، وصولاً إلى إخراج قادة الحركة من البلاد، وإقفال مكاتبها ومنع حضورها السياسي والتنظيمي. هنا، نشأت حاجة ملحة للحفاظ على ذلك الحضور من خلال تنظيم أردني مشروع. وهكذا، نظمت حماس صفوف أعضائها ومؤيديها في تيار إخواني، وقدمت له الدعم اللازم لتأمين سيطرته على الجماعة.
تبلور التيار الحمساوي في شبكة تنظيمية وسياسية وإعلامية ومالية، سرعان ما أصبحت الأقوى بين تيارات «الإخوان» الأردنيين. ويتبع هذا التيار سياسة تقوم على الربط بين الموقف من النظام وفقاً لموقفه من حماس. فحين تتأزم العلاقة بين عمان وحماس، ينحو التيار الحمساوي نحو التصعيد، بما في ذلك طرح شعارات حادة، تتراجع لدى ظهور موقف رسمي ودّي نحو حماس. ليس لدى التيار الحمساوي برنامج سياسي أو تنموي خاص بالأردن، أو حلفاء دائمون بين القوى السياسية الأردنية، لكنه يتفاعل مع البرامج والقوى، وفق الحاجات السياسية لحركة حماس في علاقتها مع النظام الأردني.
في 2008، قامت الاستخبارات الأردنية بفتح قنوات اتصال مع حركة حماس. وعلى الفور، تبدّل موقف التيار الحمساوي، منتقلاً من المعارضة الخشنة للنظام الأردني إلى التفاهم الودي معه، بما في ذلك السعي إلى كبح جماح المعارضة الإخوانية والدفع نحو تنفيذ توصية حركة حماس لإخوان الأردن بالمشاركة في انتخابات 2010.
يرفض التيار الحمساوي الهوية الوطنية الأردنية، ويرى فيها نوعاً من الاستبعاد للآخر (الفلسطيني الأصل) مما يعوق الوحدة الوطنية بين مكونات الشعب الاردني. وهو يدعو، انطلاقاً من هذه الخلفية، إلى قانون انتخابات يراعي التمثيل الديموغرافي تحت شعار المساواة بين جميع الأردنيين. ومن المفارقة أنّ التيار الحمساوي يرفض مطلب الملكية الدستورية كونه يؤدي إلى التثبيت الدستوري والقانوني لأردنية ذوي الأصول الفلسطينية.
يرى التيار الحمساوي في ظهور معارضة شرق أردنية صلبة وخشنة في المحافظات فرصة، لكن لعقد صفقة دسمة مع النظام المضطر، تحت الضغط الشعبي في الأطراف، إلى فتح قنوات حوار استراتيجية مع معارضة المركز (الإخوان بصفتهم الهيئة السياسية الممثلة للأردنيين من أصول فلسطينية). ويرى الحمساويون أنّ الظروف المحلية والإقليمية والدولية، ناضجة لتحويل إخوان الأردن من كونهم تحدياً أمنياً إلى كونهم شركاء سياسيين. ويمكن فهم انفتاح الملك عبد الله الثاني على قيادة حماس، إذاً، كعلامة على هذا الطريق، أولاً، من حيث كونه يؤسس للشراكة مع «الإخوان»، وثانياً من حيث كونه يقر بالمرجعية الحمساوية لإخوان الأردن.
رموز وكوادر التيار الإخواني الحمساوي، ينتسبون، في معظمهم، إلى حركة حماس، وأبرزهم سعود أبو محفوظ وجميل أبو بكر وعاطف الجولاني وفرج شلهوب وجواد الحمد (فريق يومية السبيل) وعلي أبو السكر وكاظم عايش وزياد الميتاني وصبري سميرة.
يسيطر التيار الحمساوي ــ متحالفاً مع التيار الأصولي ــ اليوم على الجماعة والحزب، لكنّه يواجه أزمة في تسمية زعيم / واجهة لموقع المراقب العام للجماعة، الذي ينبغي أن تتحقق فيه ثلاثة شروط مجتمعة (1) أن يكون شخصية شرق أردنية، (2) وموالياً لحماس وخطها السياسي، (3) ومعتدلاً ومقبولاً من النظام الأردني. وعلى رغم أن الشرطين، الأول والثاني، ينطبقان على القيادي المعروف، زكي بني ارشيد، إلا أنّه بسبب حدة مواقفه السياسية، لم يعد يناسب مرحلة التفاهم الحالية مع النظام، فجرى استبعاده. بذلك، تحوّل بني إرشيد إلى قطب شبه مستقل عن التيار الحمساوي (يتبعه مراد العضايلة وأحمد عواد الزيود وعبد المجيد الخوالدة). وهو يحاول التأسيس لتيار خاص به يقوم على توظيف خليط من أفكار التيار الأصولي والتيار الحمساوي، في براغماتية سياسية تزاوج بين التشدد إزاء النظام والدعوة ــ على الضد من إرادة التيار الحمساوي ــ إلى مقاطعة الانتخابات النيابية، ولكن، في الوقت نفسه، الإعلان عن مواقف مطمئنة للأميركيين والإسرائيليين، وخصوصاً لجهة التأكيد على عدم المساس بمعاهدة وادي عربة مع إسرائيل.
لكن زكي بني ارشيد يظل مخلصاً للعلاقة مع حركة حماس، ويدعو إلى التنسيق التنظيمي والسياسي معها. وهو يرفض، لأسبابها الموضحة أعلاه، مطلب الملكية الدستورية، والهوية الوطنية الأردنية. يعتقد بني ارشيد أنّ الفرصة مواتية، إقليمياً ودولياً، وخصوصاً بعد صعود الإخوان المسلمين في مصر وتونس والمغرب، لانتقال العدوى إلى الأردن، إما من خلال الشراكة السياسية كما في المغرب أو من خلال إسقاط النظام كما في تونس ومصر.
منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، بدأت حساسية جديدة بالتشكل داخل حركة الإخوان المسلمين في الأردن، تمثل ما سمي، حينها، «تيار الوسط» بين الملكيين من جهة والأصوليين من جهة أخرى، وأصبح يسمى لاحقاً «التيار الوطني الإصلاحي». وهو تيار يريد أن يكون جزءاً من الدولة الأردنية، لكنّه يريد إصلاحها. وقد عبّر عن طموح لتحويل «الإخوان» إلى حزب وطني معني بالتحديث السياسي والتنمية في البلاد في إطار الشرعية القائمة. ولاحقاً، تطوّرت طروحات هذا التيار واتسعت صفوفه، ثم حمله الحراك الشعبي في 2011 إلى مقدمة صفوف الحركة الإخوانية، قبل أن ينقلب عليه التحالف الأصولي الحمساوي، ويخرج رموزه من كل المواقع القيادية في الجماعة والحزب، في ربيع 2012.
يتمسك التيار الوطني الإصلاحي بالهوية الشرق أردنية للدولة، ويؤكد على أولوية الشأن الأردني بالنسبة إلى الحركة الإخوانية على ما عداه من شؤون، بما في ذلك الأجندة الحمساوية. ويؤمن قادة هذا التيار ــ من دون أن يعلنوا ذلك جهاراً ــ بضرورة دسترة وقوننة فك الارتباط مع الضفة الغربية، كضرورة لإعادة تعريف الكيان الوطني والدولة. وهم يلتقون بذلك مع التيارات الوطنية العلمانية. وعلى رغم تحسسهم للأبعاد التنموية للإصلاح السياسي، فإنّ برنامجهم السياسي يدور حول نقطة برنامجية مركزية هي «المَلَكية الدستورية»، ومضمونها الرئيسي إجراء تعديلات دستورية تنقل صلاحيات الملك إلى حكومة يشكلها برلمان منتخب وفق نظام انتخابي يسمح بوجود أغلبيات نيابية.
أدى التيار دوراً كبيراً في الحراك الشعبي 2011 ــ 2012، وسعى إلى إقامة صلات مع لجان الحراك الشعبي في المحافظات. من أبرز رموزه سالم الفلاحات ورحيل غرايبة، ونبيل الكوفحي وخالد حسنين وأحمد الكفاوين وعماد أبو دية ونمر عساف وممدوح المحيسن.
يجد التيار الوطني الاصلاحي اليوم نفسه خارج معادلة صنع القرار في مؤسسة الجماعة والحزب، وبينما يعيش، بسبب برنامجه الإصلاحي الجذري، قطيعة مع النظام، يحظى التيار الأصولي الحمساوي بدعم اقليمي متعدد الأوجه من قطر ومصر وحماس، وهو ما يفتح له، للمفارقة، الأبواب لدى المؤسسة الحاكمة.
هل ينشقّ الوطنيون الإصلاحيون عن «الإخوان» لتأسيس حزب خاص؟ إنّهم لا يجرؤون على ذلك حتى الآن. لكن أصبح واضحاً أنّه لا مكان لهم في الحركة الإخوانية في ظل التفاهم المستجد بين النظام الأردني وحماس، بمشاركة القياديين السابقين في جماعة الإخوان المسلمين، محمد البطاينة وصالح جرادات.