تتزامن الذكرى الستون لثورة 23 يوليو/ تموز في مصر مع موجة من الثورات التي تجتاح بلدان عربية عدّة، بينها مصر، معلنة الانتقال إلى مرحلة جديدة في العالم العربي. وبعيداً عن المقارنة بين ثورة يوليو والثورات الحالية، التي لا يمكن أن تكون موضوعية بحكم عدم اكتمال هذه الثورات وعدم ظهور نتائجها حتى الآن، فإنّ الحديث قد يكون مفيداً عمّا يمكن الاستفادة منه من إنجازات وما يمكن تجنبه من إخفاقات في الإرث التاريخي لثورة يوليو.كثير من الأحكام على ثورة يوليو تنحصر في إطار ثنائية الأبيض والأسود، وتظهر المشكلة في كثير من الأطروحات التي تتناول تلك الثورة أو غيرها من التجارب والمشاريع إما في تغطية إنجازاتها على أخطائها في نظر البعض، أو في طمس أخطائها لإنجازاتها في نظر البعض الآخر. لكن مرور ستين عاماً على انطلاق هذه الثورة، وما يقارب الأربعين عاماً على نهايتها (بدأت نهاية ثورة يوليو مع «الحركة التصحيحية» التي قام بها السادات في 1971) يجعل مناقشتها تتخذ أبعاداً أكثر موضوعية، فمرور الوقت يجعل الحكم أقل تأثراً بانفعال اللحظة.
أطلقت ثورة يوليو موجة تغيير واسعة في العالم العربي، تماماً كما أطلقت ثورة تونس ثم مصر شرارة التغيير الحالي، فتوالت الانقلابات العسكرية على الأنظمة الحليفة للاستعمار. وبغض النظر عن مآلات تلك الانقلابات، فإنّها كانت تمثل في ذلك الوقت أملاً في التخلص من إرث الاستعمار وحلفائه. كانت ثورة يوليو حاضنة موجة التغيير في تلك الفترة وحاميتها، تمثَّل ذلك في مساندتها لحركات التحرر من الاستعمار، كما في الجزائر، وفي وقوفها بجانب الثورات على الأنظمة الحاكمة ضد الاستعمار والقوى الرجعية الحليفة له، إلى درجة التدخل العسكري كما في اليمن. ووصل تأثير الثورة إلى حد إحداث تغييرات في الدول الرجعية المعادية لها بسبب الضغط الإعلامي والسياسي الذي مارسه الدور المصري الحاضن لموجة التغيير والداعي إليه.
إنّ الحاجة في وقتنا الحالي ماسة لدور مصري مشابه مع الثورات العربية، فموجة التغيير الحالية تركز بشكل رئيسي على التخلص من الاستبداد، والمطلوب أن تكون ثورة «25 يناير» حاضنة عربية للثورات ونموذجاً للتحوّل الديموقراطي يُقدّم للعرب جميعاً؛ إذ لا يمكن أن يكون النموذج الثوري متوائماً مع حالات محافظة متخلفة، وليس بالضرورة أن يصطنع اشتباكاً معها، لكنه يدعم حركات التحرر من الاستبداد عندما تكون حاضرة وموجودة، كما هو الحال الآن مع الثورات القائمة.
قدمت ثورة يوليو منجزات كبيرة على صعيد السياسة الخارجية، إذ إنها اختارت أن تكون قوة فاعلة في محيطها وفي العالم. وعبر تحديد الأولويات في الدوائر العربية والإفريقية والإسلامية والدولية تمكنت مصر من نسج علاقات واسعة وقوية واتخاذ موقع قيادي على المستوى الإقليمي. والأهم أنّ السياسة الخارجية المصرية آنذاك انطلقت من فكرة التعبير عن مصالح الأمة العربية، لذلك كان لا بد لها وفقاً لهذا الخيار أن تقود الجبهة المعادية للاستعمار ولإسرائيل ككيان استعماري في العالم العربي. وكان من غير الممكن أن تقوم بهذا الدور الحيوي إلا من خلال الحفاظ على استقلال قرارها برفض الارتهان للقطبين الرئيسيين وتشكيل قوة ثالثة مع عدة دول صاعدة هي حركة عدم الانحياز، والتحالف مع الاتحاد السوفياتي، من دون تسليم القرار السياسي له.
الدور المصري تحول إلى النقيض بنحو واضح منذ كامب ديفيد، ومعه أدوار عربية أخرى في خدمة الولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة. وفيما كان لنظام يوليو مشروع واضح في المنطقة وعلى المستوى الدولي يراكم عناصر القوة ويحقق نفوذاً وتفوقاً (يختلف عن ممانعة سلبية بلا مشروع دأب عليها النظام السوري)، صار الأمر إلى غياب المشروع العربي تماماً، وبات التحدي أمام القوى السياسية التي تصعد إلى السلطة اليوم أن تقدم مشروعاً جدياً يضع مصالح الأمة وقضية فلسطين في اعتباره بعيداً عن إعادة إنتاج سياسات الارتماء في أحضان الغرب بحجة الواقعية السياسية.
نجحت ثورة يوليو في تكريس حالة ثقافية ووجدانية عربية جعلت من الوحدة العربية طموحاً جماهيرياً (رغم أنها أخفقت في تحقيقه عبر الوحدة مع سوريا) ومن الهوية العربية معبراً عن المكونات الاجتماعية والقوى السياسية في العالم العربي. ويبدو أننا نفتقد هذه الهوية العربية مع غياب المشروع العربي وسطوة المشاريع المذهبية التي تقودها دول كبيرة في الإقليم والتي كرست حالة احتقان طائفي وصل إلى حد الاحتراب الأهلي في منطقة الهلال الخصيب. ووصل الأمر برئيس عربي منتخب بعد ثورة أن يتحدث عن المشروع «الإسلامي السني»، وهو ما ينذر بتعزيز حالة التفكك في العالم العربي؛ إذ إن غياب مشروع عربي جامع يُنتج ازدهار مشاريع الطوائف.
من الإنجازات المهمة لثورة يوليو المشروع التنموي الذي أوجد صناعة حقيقية في مصر، كذلك فإنّه قضى على الإقطاع وأنصف العمال والفلاحين وتقدم كثيراً على طريق تحقيق العدالة الاجتماعية. ولم يكن من الممكن أن تتمتع مصر باستقلالها السياسي لولا استقلالها الاقتصادي الذي نتج من رفض المعونات والوصفات الدولية المشروطة بالهيمنة. وكانت النظرة الواسعة لإيجاد تعاون اقتصادي مع دول عدة في العالم مساعِدة في إنجاح النموذج المصري. ويبدو الوضع اليوم مشابهاً، فالقوى السياسية الصاعدة إلى الحكم أمام خيارات الاستمرار في المعونة الأميركية وتطبيق وصفات البنك الدولي وبالتالي الاستمرار في سياسات الاستهلاك، أو العمل على إيجاد مشروع اقتصادي حقيقي يوجد خطوط إنتاج وصناعة وطنية ويعتمد على تنويع العلاقات الاقتصادية مع دول العالم بما يعني تعزيز العلاقات مع مجموعة «بريكس» التي تضم الدول الأسرع نمواً في العالم والتي تكسر تدريجاً التفوق الأميركي في المجال الاقتصادي.
قدمت ثورة يوليو محاولة جادة لإقامة مشروع نهضة عربي، وقادت حركة تحرر عربي من الاستعمار، لكنها أخفقت في جوانب عدة من هذا المشروع. ولعل أهم إخفاق لها هو عدم القدرة على إقامة حياة ديموقراطية سليمة، وقد كان هذا أحد المبادئ الستة التي أعلنتها الثورة. فقد تمحورت ثورة يوليو حول مشروع الزعامة الفردية التي تمثلت في شخص الرئيس عبد الناصر، ولم تستثمر الثورة شرعيته الشعبية لإتمام التحول باتجاه حكم المؤسسات. وهكذا انتهت كل منجزات الثورة عندما غاب زعيمها، وجاء السادات ليمحو بجرة قلم كل ما صنعته الثورة.
أورثت ثورة يوليو للثورات الوليدة مشكلة اسمها سطوة العسكر، فقد مكنتهم من التحكم بمفاصل الاقتصاد وإيجاد نفوذ لهم في الحياة السياسية يصعب التخلص منه الآن بسهولة. كذلك قدم نظام يوليو الحسّ الأمني على الحريات، فملأ السجون بالمعتقلين تعسفاً، وخلط ما هو مؤامرة بما هو حرية رأي وتعبير، فقدم نموذجاً لشرعنة القمع حفاظاً على الأمن القومي، باسم الشعارات القومية. وما ينبغي اليوم للثورات العربية أن تجتنبه بوضوح هو تحويل الأيديولوجيا أو الشعارات الوطنية والقومية (أو الدينية) إلى أدوات لضرب حرية التعبير، والتشديد على بناء المجتمع المدني وتقويته، الذي يحافظ على مصالح الناس في مواجهة أجهزة الدولة.
الثورات العربية الحالية قامت بنحو رئيسي للقضاء على القمع والاستبداد، وبالتالي هي تناقض طبيعة نظام يوليو غير الديموقراطي، لكن هذا لا يعني عدم الاستفادة من الإرث التاريخي لتلك الثورة، كمشروع عربي كبير. ولعل أهم درس يستفاد هو الاقتناع بأن الديموقراطية ليست إلا بداية طريق النهضة والتقدم، وأن الحاجة كبيرة إلى رؤية استراتيجية شاملة في بناء الدولة القوية تقوم على استقلالٍ اقتصادي وسياسي.
إن المطلوب اليوم هو تحقيق سيادة الأمة بأبعادها الشاملة، ولا تتحقق السيادة للأمة إلا بأن يكون الشعب مصدر السلطات، وبأن يملك قراره الاقتصادي والسياسي ويتصرف فيه؛ إذ إنّ حرية الجماعة تتكامل مع حرية الفرد، ومواجهة الهيمنة الخارجية تكمل مواجهة الاستبداد الداخلي، وتحقيق إرادة الأمة كاملة غير منقوصة هو النجاح الحقيقي للربيع العربي.
* كاتب سعودي