هي ثورة على «الثورة». الجدل لا يزال مستمراً حول توصيف ما حدث ليلة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وهل كان ثورة ام مجرد انقلاب عسكري؟ هل هو حركة كما وصفها الضباط الاحرار انفسهم، ام ثورة بمعناها العلمي من تغيير في وسائل الانتاج وملكيتها، حسب التعريفات الماركسية الكلاسيكية؟ لست مشغولاً هنا بالتوصيف بقدر الاهتمام بالعلاقة بين ما حدث قبل ٦٠ عاماً، وما حدث في ٢٥ يناير (كانون الثاني) ٢٠١١. يناير هي اعلان غير مكتمل حتى الآن لنهاية يوليو. نهاية ابوة الدولة، وجمهورية الاب الحنون والقاسي والراعي النبيل احياناً، واللص المقنع غالباً. في تلك الليلة قبل ٦٠ عاماً انتهى الاستعمار ورحل الملك، وتأسس حكم الجنرالات. ذلك الموديل من الحكم الذي انتهى من العالم كله لكنّه استمر هنا الى ان قامت ثورة يناير. هل يمكن ان تنزع الاقنعة اذن، وتنتقل الدولة الى حكم مدني حقيقي؟ الخطوة الاولى هنا ترتبط بالقدرة على التخلص من لعبة كرة الطاولة، والتصالح مع «٢٣ يوليو» باعتبارها خطوة هامة في بناء دولة مابعد الاستعمار .لم يكن «الضباط الاحرار» ملائكة، لكنّهم ليسوا شياطين ايضاً، واليوم عندما نفكر في المستقبل لا يمكن استحضارهم، الا إذا كنا نريد النوم مع الاشباح. الازمة الكبرى انّ عبد الناصر حكم بالشرعية الثورية، ولم يفكر في تأسيس دولة بالمعنى الحقيقي. دولة مؤسسات وشرعية دستورية. لم يكن راغباً او لم تتح له ظروف المرحلة؟ ليست هذه قضيتي الآن. ما افكر فيه انّ عبد الناصر زعيم استثنائي، لكنه لم يضع اساسيات دولة يمكنها ان تعيش بدون الزعيم او الاب. هكذا عاشت مصر اليتم الحقيقي، وهذه بداية كارثة استمرت بعد عبد الناصر. السادات اراد ان يستمتع بدور الاب، وكذلك مبارك. كل على طريقته اراد ان يكون اكبر من رئيس... اراد ان يكون الدولة. عاشت مصر اكثر من ٥٩ سنة بآباء ولكن بدون دولة. مؤسسات الدولة في جيب الرئيس، والمجتمع ينتظر عدله ورحمته وألعابه السحرية. ينتظر لأنّ ليس لديه الا الانتظار بعد أن اجبرته «الثورة» على الانسحاب، اما لأنّها تعرف اكثر او لأنّها لا تريد ان يشاركها احد المعرفة. هكذا اصدرت الثورة بعد اسبوعين فقط حكماً باعدام العاملين خميس والبقري في كفر الدوار، لأنّهما قادا اضراباً يطالب بحقوق العمال. اعدام لأنهما رأس الذئب الطائر. «الثورة» تعرف ولا أحد يعرف مثلها. الرسالة وصلت ولم يكن الخروج عن طاعة الثورة الا لعنة مدفوعة الثمن. وهذا ما تدفعه ثورة يناير منذ نجاحها في ابعاد مبارك عن القصر. الثوار يدفعون ثمناً غالياً بالقتل والاعتقال وتشويه السمعة بدون حساب. الدولة التي ليست دولة تحاربهم وتحمي جنرالاتها من الحساب، وهذا سر الاصرار على تكريم عمر سليمان، فجنازته هي رسالة تشبه رسالة اعدام خميس والبقري. والغريب انّه ورغم وصول رئيس اخواني الى قصر الرئاسة، لم تتغيّر رسائل الدولة، فالأخبار القادمة من إضراب عمال المحلة الكبرى تتحدث عن اغتيال أحمد حسني، أحد قادة الإضراب، ومحمد مرسي المرتبك في وعود الـ١٠٠ يوم لا يفكر في الحفاظ على غنيمة قبيلته الاخوانية ولا يتحرك ابعد من ذلك ليساهم من موقعه في تأسيس جمهورية بدون آباء. جمهورية لا يحاكم فيها مدني امام محاكم عسكرية لانّه خارج عن طاعة الجنرال. مرسي يلعب في المنتصف فيصدر قراراً بالعفو عن ربع العدد المطلوب. عفو و ليس الغاء احكام، بينما تسير جنازة عمر سليمان العسكرية تعلن عن وجود طبقة فوق المحاسبة والمحاكمة.لا يزال وارثو يوليو في حربهم الاخيرة من اجل استمرار دولتهم المقنعة، بينما الثوار غرباء يطالبهم الرئيس وجماعته بالاصطفاف خلفهم وليس اكثر. الثورة غريبة، لكنها لا تزال حاضرة في شوارع لن يقبل سكانها بالعودة الى البيت والنوم مبكراً في انتظار عطف الاب الجالس في القصر وحنانه. انتهت جمهورية الاب، ولم تبدأ جمهورية اخرى. يسعى الاخوان المسلمون لبناء «ابوة جديدة»، وهي خيالات تحركها غريزة قديمة في التقاط هرمونات السلطة، واللعب بجوارها، او في هوامشها، او الطمع في اقتراب اكثر، كما حدث بعد ايام من انتصار الضباط الاحرار في يوليو ١٩٥٢. حينها كانت لدى عبد الناصر رغبة في مشاركة السلطة، لكن حصل الخلاف على حصة الشراكة، والطرد من جنة السلطة، الى الحظر والمنع والنبذ السياسي والاجتماعي.
مع مبارك الشراكة كانت مختلفة، هو البعيد عن صورة «البطل الايديولوجي المحرر» او «النجم القائد الى الحياة الرغدة». مبارك التكنوقراطي الحريص اخترع اسلوباً يستفيد به من المحظور والممنوع والسري بدون ان يمنحه الاعتراف الكامل. الشراكة لم تكن معلنة. الرئيس هذه المرة موظف لم يكن يحب نظرية الصدمات الكهربائية، ولا استعراضات سلفه (السادات)، الرئيس المؤمن الذي استعان بالاخوان لطرد اليسار وابعادهم بقوة المؤمنين، وكانت «الجماعة» في مقدمتهم. مبارك الموظف مؤمن بالصفقات، واسلوب الجزرة والعصا، وانتهى بكل هذا الى اقتسام السلطة: القصر له والشارع للاخوان. قسمة افتراضية استطاع بها ان يسيطر على المعارضة كلها، من خلال تدجين الاحزاب «الشرعية» في مقار تحت حراسة حاملي مفاتيح يحصلون على اوامرهم وخطة حركتهم من جهاز امن الدولة.
الجماعة وجدت ارضاً مسموحاً بها، احتلتها بما انّها «المحظورة». الاسم الذي استأثرت به، رغم انّها ليست وحدها التي ينطبق عليها «حظر العمل السياسي»، لكن الاسم اضاف الى الجماعة سحر الاضطهاد. ورغم انّ الجماعة لم تتحرك سياسياً، واعتمدت بنحو اساسي على قوة بناء التنظيم، ورفع شعارات تمنع السياسة مثل «الاسلام هو الحل» ظلت طوال حكم مبارك «اقوى تنظيم سياسي معارض في مصر»، بل انها كوّنت صورة «المعارضة الوحيدة القادرة على منافسة الحزب الوطني في الحكم». التحكم في الاقتصاد السري، مع استمرار سريته وحظره، هو اختراع نظام مبارك الذي عاش به اقتصادياً ٣٠ سنة تقريباً، لكنه في الايام الاخيرة لم يعد قادراً بالطبع على ملاحقة رغبات المجتمع في الخروج من الازمة الراهنة. لم يعد الاقتصاد السري قادراً على تكوين اطر حديثة للنمو الاقتصادي، كما لم يعد السماح لجماعة الاخوان بالعمل تحت سمع وبصر اجهزة الامن يصلح ليكون مؤشر اتساع الهامش الديموقراطي. هذه الاساليب في استمرار نظام السيطرة بالاطر المتهالكة، خلقت ازمة كبرى، وشروخ عبرت منها ثورة «٢٥ يناير». الازمة الآن انّ الجماعة لا تمتلك مقومات ابوة جديدة، كما ظهرت من تجربة العام ونصف العام، وكما سينتج غياب الكاريزما الابوية عند مرسي. الجماعة عاشت طويلاً في هامش الأب، وليس بعيداً عنه، ولذلك دافعت يوم ٢٣يناير (كانون الثاني) 2011 عن استمرار الجمهورية الابوية، لكنها ومع نجاح الثورة في كسر الاقفاص، لم تمنع اعضاء فرادى من الوجود وسط سبيكة الثورة. وفي ميدان التحرير عرفت الجماعة لاول مرة العمل المشترك. ادركت ان مهارتها في التنظيم ليست مطلقة، والعيش في الارض المحظورة ليس سياسة، إنما وجود يضمن البقاء، لكن لا يحرر مصر من الاستبداد.
في الميدان اكتشفت المعارضة المدنية انّ خروج الاخوان من الكهف لا يعني نهاية السياسة والغاء المدنية. لقاء غابت عنه الشعارات الدينية، وذابت فيه حواجز كثيرة، عندما ترك الاخوان هوايتهم في اللعب داخل اسوار الحديقة الخلفية للرئيس الاب، وتنازلت المعارضة المدنية عن المخاوف الجاهزة. شكل الاخوان جهاز امن الثورة، وحمت الثورة جسم الجماعة من غدر السلطةالمعتاد. وبهذه المعادلة انتصرت «٢٥ يناير»، وضخت دماء جديدة كادت ان تسقط ابوية مكتب الارشاد باعتبارها امتداداً لسلطة البطاركة من الرئاسة الى الجماعة. الجماعة رجعت الى عادتها القديمة بعد اقل من شهرين على ازاحة بطريرك الرئاسة. في البداية لعبت لعبها القديمة على هامش الاب الجديد، أي الجيش. ارادت تحقيق وجودها منفردة، ضد جسم الثورة، واقتناصاً لفرصتها، اخرجت من متاحفها شعارات منع السياسة، وانعشت طريقتها القديمة في اقصاء التيارات السياسية الاخرى بطرق لا بد ان تحفظ في متاحف السياسة باسم الجماعة.
الآن تبدو الجماعة في طور جديد عليها. لم تعد هي المحظورة وفقدت علاقتها القوية مع الاب في الثكن، وارتبكت بين اعلان ابوة جديدة او ترميم ما انكسر بينها وبين الاب الرابض في مخبئه. التردد ظهر في الاحتفال بستين عاماً على يوليو: الصقور في الجماعة وشطارها ارادوا الغاء الاحتفال، بينما قامت حملة هجوم على محاولة محو صفحة يوليو. مرسي خرج مترنحاً، لا يخفي تردده على احد: يمدح يوليو، ويتحفظ، ويختار موعد مباراة الاهلي والزمالك لكي لا يسمع احد مديحه او كنوع من سقوط الزمن عن الرئيس المرتبك. المهم هنا انّ الابوة البديلة تعطل او تمنح الامل لجمهوريات الوصاية، بينما الثورة واحلامها في مكان آخر ... تبحث عن امل جديد.



سحر التكنوقراط

سحر التكنوقراط. هذا ما يبشر به مرسي في أولى خطواته المؤجلة بتعيين رئيس حكومة. ليس مهماً كلّ ما لديه: لحية وتاريخ اعجب مبارك نفسه، وكمون في موقعه مع تقلبات ما بعد الثورة. رئيس الحكومة اختير بمهارة الاخوان المعروفة في البحث عن شخصية تجميع قص ولزق ليكون «مناسباً» لمشروع «النهضة»، الذي يعني بعيداً عن التفاصيل الإنشائية تلخيصاً لتوازن القوى في الجماعة بين الشطار والقطبيين، وتشدداً في «العلامات الإسلامية»، وانحيازاً لرأسمالية التجار.
التوازن من صنع خيرت الشاطر وعقليته الجبارة في الدفاع عن تمسك القبيلة بما يمنحها إيّاه من قوة انتصار وقدرة على تربيط علاقة الزبون/الجسم الكبير، فيوفر المجال الحيوي الجذاب لأجيال جديدة، وفي الوقت نفسه يمنح مبرراً لكل خروج للاخوان عن اتفاقاتهم مع القوى الأخرى.
التكنوقراط هم الحل هنا، فهم سيخضعون لقوة مركزية في السياسة، وينفذون بدون صعوبات خطة تمكين القبيلة/الجماعة. وهشام قنديل رئيس الحكومة المختار موظف حاز وسام الجمهورية /طبقة ثانية من مبارك، كما كان مشرفاً على ملف النيل منذ 2005، وهي فترة الازمة في ما يتعلق بالملف، لكنها فترة الصعود في سلم الموظف القادم بخلطة ستجد ملعبها في الفترة القادمة (إسلاميون قادمون من أميركا).
مرسي الحائر بين الشاطر والعسكر يحاول أن يقوم بما يمكن أن يزيد من طوله ليراه الناس خارج استقطاباته، وبعيداً عن مغناطيسه القديم. وهذا ما يفسر التأرجح بين اللين والتشدد، وكلاهما شكلي ويؤكد على صورة من ليس في مكانه. ويبدو مرسي أحياناً كمن لم يعرف بعد ماذا يعني انّه تحوّل الى شخصية عامة، رئيس، أي المنصب الذي إما ان تحميه بالقداسة البوليسية والاستخبارات، أو أنّه سيكون محور نقد عنيف يصل الى ما لا يتحمله انسان عادي. وعلى عكس ما يروجه الطيبون من أنصار فكرة هيبة الرئيس، هذا المنصب في الدول الديموقراطية لا احترام له الا بالأفعال، وذلك منذ أن نزعت الديموقراطية الوضع الاستثنائي عن الحاكم، ولم يعد سليل عائلة او بطل حروب الا في دول حملت تخلفها الى نظم ما بعد الاستعمار.
الرئيس اصبح عادياً والحاكم بلا استثناء، وهذا ما يجعل النقد حتى بدرجته اللاذعة سلاح المجتمع ضد سلطة الحاكم. حدث هذا في مصر العشرينيات، حين حكمت المحكمة ببراءة متهم بإهانة سعد زغلول لأنّه كتب مقالاً يعتبر فيه أنّ طريقته في المفاوضات اقرب الى الخيانة. ويحدث هذا كل يوم في دول مثل فرنسا وأميركا وغيرهما من الدول التي لا تمنح الرئيس قداسة، لكنها تمنح موقعه احتراماً تواجهه حرية في النقد بلا حدود، لكن مرسي في سنة اولى ويهدد بإنهاء غضب الحليم، وهو ما يمثل انفلاتاً يستعير فيه ادوات رؤساء عصور الاستبداد، حينما كان الرئيس يشكو معارضته، كما فعل السادات عندما قرأ مقتطفات من نقده في خطاب رسمي قبل أن يقرر حبس ١٥٠٠من معارضيه، وإغلاق كل الصحف الخارجة عن طاعته. الاعتقال جريمة بشعة ليس مهماً أن تغطيها بالشكوى وكلمات مهذبة من نوع «الديموقراطية لها أنياب».
هكذا فإنّ الرئيس حليم ليس بمزاجه الشخصي، بل بما يمنحه القانون من حق النقد واستخدام شتائم النفايات الإعلامية ذريعة لتهديدات مرسي. فهذا ليس الا عجزاً مبكراً، لن يؤجله سحر التكنوقراط.



حرب على البقالة



رمضان ماكينة ضخمة تنتج شيئاً يشبه أزيز الكائنات الفضائية التي لا نراها. أزيز مثير، لكنه يحجز في الذاكرة مساحات لانتظار المرعب والمخيف. أزيز وليس أكثر. غلاظة تعرض نفسها، وجهل فخور بنفسه. ماكينة تدور ليستمر أصحابها في حسابات الثروة الوهمية. ثروة على الورق، وأموال بلا أصول. والأزيز يعلو صوته والنجوم تتلألأ بعد أن أطفأت كل طاقتها المشعة داخلها، وسوق يفرض سطوته وكتالوغه. أهلاً بك في ماكينة الاستهلاك الكبرى. أهلاً بك في «السوق». بارونات الماكينة الرمضانية يعرفون جمهورهم. يشبهون أصحاب صالات القمار ويصطادون زبائنهم بغريزة لا تنتهي مع المراحل الانتقالية. يلهث البارونات خلف هذه الثروة من أزيز رمضان.
لا يتعلق هذا الأزيز بمنتجات التلفزيون من دراما وبرامج وسخافات فقط، ولكن من أفكار وتصوّرات واستعراضات بالتديّن أيضاً، فلا تفهم مثلاً لماذا يعلو صوت الميكروفون في المساجد. هل سيختلف هذا في حساب العبادات بين الشخص وربه؟ كذلك لا تفهم مثلاً هل يخطف الشخص متعة زائدة عندما يعلو زر الصوت إلى الحدّ الأقصى خلال سماع أغنية أو ما شابه ذلك؟ أزيز تبدو معه ماكينة الاستهلاك في أقصى طاقتها. ماكينة تبتلع كل شيء وتخرج أزيزها الجذاب. أزيز يلعب على تسليع كل شيء لكي يفقد ذاته. أخلاق تلغي الأخلاق، وأفكار تمنع التفكير. ورغم تفشي هذه البضاعة، إلا أنّ رمضان موسمها الكبير، وهذا ما يمنح الضجة المقامة حول غياب عمر سليمان قوة إضافية. تُرى من تحمرّ عيناه على موت «البطل»، وهو يعجز عن إقناع طفل صغير بعلامات بطولته، ويكتفي بالإشارة الملغزة المعجزة «ستعرفون بطولته في ما بعد»؟ وإذا ضغطت بعض الشيء سيسرب لك صاحب العين الحمراء ما يوحي أنّه كان يحمينا من الخفافيش التي خرجت من المخابئ بعد الثورة وتحكم الآن. الأخلاق هنا تستخدم لحماية من تحمل مسؤوليته، أي حمايته لديكتاتور وعصابته ارتكب جريمة تجريف البلد من كوادره، وحصار كل خيال خارج التوظيف، وقتل روح الإبداع لمصلحة انحطاط (وهو وصف لحالة ثقافية وليس مجرد شتيمة). الانحطاط هو المناخ الذي يجعل حكم العصابة طبيعياً، وجرائمهم حكمة، وضيق أفقهم ذكاءً، ومدير استخباراتهم بطلاً، ومجرد افتتاح سلسة محالّ بقالة هو من بشائر عصر النهضة «الإخواني». الانحطاط بمعناه الذي يقطع الصلة بين الواقع وكل من الماضي والمستقبل، ويجعلها لحظة معلقة تحت ضغط الغرائز والشهوات وقوة الأمر الواقع. هناك من يرى في مدير استخبارات بطلاً، وعلى الطرف الآخر من ينتظر الإنقاذ على يد خيرت الشاطر. عمر سليمان رحل في أميركا بمرض نادر أو «بمؤامرة إقليمية على رجال استخبارات هذه المنطقة من العالم...»، بينما كان خيرت الشاطر يتجول متباهياً بافتتاح سلسلة سوبرماركت جديدة. كلاهما عبوس، ومتجهم كمن يحمل همّاً تراجيدياً أو مهمة كونية، أو تنحشر داخله مشاعر محبوسة تحت ثقل المسؤولية. عمر سليمان مات، بينما لا يزال هناك من كان ينتظره، وخيرت الشاطر يتجول في متاجره، بينما تنتظره جماعة كاملة. كلاهما أكبر من حجمه وإمكاناته. عمر سليمان لم يعرف بكل خبراته أن يؤدي دور بوتين في روسيا، المقاتل الماكر الذي حافظ على بناء دولته الأمنية بعد سقوط الشيوعية التي بنتها. بوتين مدير استخبارات قدم موديلاً للانتقال، استوعب وضع روسيا، وهندس إقامته الطويلة بمراعاة طبيعة شعب خارج من قهر أباطرة الشيوعية. لكن عمر سليمان فاقد لهذه الملكات أو المواهب أو القدرات خارج حدود مهماته. هو يشبه رئيسه وعصره.
خرج بوجه كئيب بينما كانت الثورة ضاحكة وخفيفة ومبهجة، فخسر صورته التي صنعها في سنوات طويلة، وبدت محدوديته واضحة بعد خروجه من الغرف المغلقة. وهذا ما سيحدث مع خيرت الشاطر الذي عاش طويلاً في تقوية تنظيم تحت الأرض بكل حيل التجار الذين يستعيدون ثرواتهم بقوة شخصياتهم، من دون أن يكون ذلك دليلاً على عبقريتهم الاقتصادية. الأخلاق هنا لا يمكن أن تكون ساتراً من جديد ليعود عمر سليمان أو جثته إلى الغرف المغلقة، تتحدث عن عظمة لم نرَ منها شيئاً. ولا يمكن الأفكار المتعلقة بمشروع نهضة الإخوان أن تمنعنا من التفكير في عقل الإخوان الذي يظن كل يوم أنّه لا شيء لديه أكثر من استبدال رئيس كان يخطب في المولد النبوي برئيس يخطب في أول رمضان، وسوبرماركت تملكه النخبة المحيطة بمبارك، بآخر يملكه شطار الجماعة. عمر سليمان هو أحد أسباب عجز الشعوب ونتاج هذه العقلية العاجزة. كذلك إنّ خيرت الشاطر هو قناص شعوب تستهلك ولا تنتج، وأفكاره لا تتعلق إلا بتغيير وجهة الاستهلاك. نحن أمام معركة رمزية بين نجم واقعية مبارك في مواجهة واقعية ما بعد مبارك.
هذه هي القصة، بينما الثورة في مكان آخر تتجول في الشوارع وبين قوى جديدة لتبني شبكتها المعتمدة على خيال جديد، وأحلام جديدة. سليمان والشاطر هما تلخيص معركة تجري بقوانين مبارك وعقليته وواقعيته البغيضة، الباردة، المملة. الثورة هي خيال خارج واقعية المتاجر الكبرى للسياسة: النظام والإخوان منافسان قديمان، كما كان متجر «التوحيد والنور» هو منافس «سيتي ستار»، والآن أصبح بديل «مترو». إنّها حرب على البقالة.