لعل أهم ما أطلقته الانتفاضة السورية هو إعادة سوريا إلى أبنائها وطناً نهائياً لم يأخذ يوماً صيغته تلك في أذهانهم، إذ لم يكن يوماً إلا محطة سفر أو نقطة انطلاق باتجاه «الوحدة العربية» التي جعلها البعث أول أهدافه. ربما لم يحفر فعل التجزئة التي أحدثتها القوى الغربية في العالم العربي في وعي العرب الآخرين، كما حفر في وعي السوريين ولاوعيهم في آن. فالسوري لم ينظر يوماً إلى سوريا كوطن مكتمل. ساعده على تبني تلك النظرة وتعميقها، إلى جانب فعل التجزئة، كون سوريا كانت مهداً لفكرة القومية العربية بصيغها المتعددة، إذ كان منظرو القومية العربية كلّهم سوريين (ميشال عفلق ــ صلاح البيطار ــ ذكي الأرسوزي..)، ليستمر السوري في العيش في سوريا كمكان مؤقت بانتظار (غودو/ الحلم القومي) الذي لن يجيء. تكرس هذا الأمر عميقاً في وعي السوريين ولا وعيهم في فترة حكم البعث الذي ألغى كل شيء لصالح «قلب العروبة النابض» مع تفريغ الشعار من محتواه تدريجياً لصالح سلطة ستبتلع سوريا كلها وتحولها لمجرد شعار رث.هكذا لم يفكر السوري يوماً بسوريا كوطن نهائي ومحتمل، أو بالأحرى كان الوعي السوري الشعبي ينوس بين بين: في أوقات الاسترخاء يفكر السوري بفضائه المفتوح عربياً، وفي وقت الأزمات ينغلق على سوريته ليواجه العالم، كما حدث في عدة محطات كان آخرها بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في 2005.
لم يكسر هذا الفضاء إلا بعد ربيع دمشق وعلى نحو ضيق، إذ لم يكد يفتح هامش النقد والكلام المباح، حتى أغلقته السلطة، ولكن بعد تناثر رذاذه في المجتمع دون أن يتسع أفقه ليشكل ظاهرة يمكن الانطلاق منها لتوسيع التفكير بسوريا كوطن لجميع أبنائها.
الآن، منذ انطلاق الانتفاضة السورية وحتى اللحظة، بدأ السوريون عموماً يفكرون بسوريتهم وشكلها وطبيعتها ونظام حكمها. ولكن ضمن هذا التفكير الذي يقوم به السوريون نكتشف أيضاً كم كانت سوريا غائبة عن ذهن أبنائها، إذ من شأن هذا التفكير اليومي بها أن يعكس مدى غيابها السابق، خاصة حين يتبدى الجهل بتاريخها ومفاصلها السياسية واضحاً. جهل لا يتوقف عند الشعب فقط، بل يصل حد نخب ثقافية وصحافيين وشعراء كانت سوريا كموضوع مفكر به غائبة عنهم، ولم تكن تأخذ أي حيز من تفكيرهم السابق، مستريحين بذلك إلى «أسطورة» سوريا كما تروج لها السلطة. ولأنّها أسطورة مدعومة بعسف السلطة والخوف منها لم تكن بحاجة إلى إعمال الفكر والنقد.
بفعل هذا الغياب السابق لسوريا عن ذهن أبنائها، يفاجأ اليوم سوريون كثر بأفكار سوريين آخرين عن سوريا، يفاجأ العربي بطروحات كردية كانت تبدو له غير موجودة في سوريا، وبدعوات طائفية هنا وهناك، طالما قمعتها السلطة التي احتكرت الطائفية لنفسها، وبإسلاميين يخرجون من القاع السوري، وبملحدين يجهرون بإلحادهم... هذا كله، ويضاف إليه أشياء كثيرة، ينظر إليها السوري غير مصدق للوهلة الأولى، ليهز رأسه ويتفاعل معها، محاولاً الفهم والتفكير والعودة إلى جذور المسألة، أي التفكير بسوريا كوطن، والبحث عن إطار وطني يجمع كل ما سبق.
المفاجأة بسوريا، لا تقتصر على السوريين وحدهم، بل يبدو العرب وقد فوجئوا أكثر من السوريين أنفسهم. يدل على ذلك حجم التذبذب والضياع في التعاطي مع الثورة السورية أكثر مما حصل في ثورات سابقة، وهو ما يعكس بدوره قصوراً عربياً في فهم وقراءة المجتمعات والدول من جهة، وفي قدرة السلطة السورية على تعميم «كذبتها» عربياً حد إقناع الناس بها. وهذا ليس غريباً، لأنّ السلطة السورية فرضت حكمها المستبد طيلة عقود، استناداً إلى نظرية ترى في الخارج مشروعية للداخل الذي لم يكن في حسابها أكثر من رعاع يحكم بقبضة أمنية، أو بـ«البوط العسكري» وفق التعبير السوري الشائع.
ربما، من شأن هذا التفكير بسوريا، أن يكون مقدمة لولادة الجمهورية الثانية، التي تعترف بسوريا وطناً نهائياً لسكانه. تفكير من شأنه أن يفكك أسطورة «قلب العروبة النابض» لصالح واقعية هذا القلب دون أن يعني الأمر انعزال سوريا على نمط الشعارات العربية «سوريا أولاً» التي يراد بها استقالة سوريا من محيطها مقدمة لإنهاء دورها.
لعل أهم ما أفرزته الانتفاضة السورية هو تحويل سوريا من موضوع مؤسطر بفعل دعاية السلطة، أي فوق النقد، إلى موضوع مفكر به، قابل للنقد والاختلاف والمراجعة.
* شاعر وكاتب سوري