يمكن اختصار دروس التجربة العراقية التي سبقت وأعقبت حرب الغزو وإسقاط النظام الشمولي، وخصوصاً على صعيد رسم المواقف واتخاذها، بأنّها قدمت صورة صافية عن سيادة العقلية «المانوية» التي لا تعترف إلا بوجود الأبيض والأسود، والمعبَّر عنها سياسياً بشعار «معنا أو ضدنا». لقد اعتمد النظام العراقي الشمولي وأنصاره هذه العقلية والشعار في تعاملهم مع الآخر، مثلما اعتمدها المحتلون الأجانب وحلفاؤهم في المعارضة العراقية آنذاك مع الآخر، وكان لبوش الصغير نسخته الخاصة والمحببة من هذا الشعار. لقد ترتب على ذلك عملياً، إلغاء المواقف المركبة والعميقة مهما كانت مكوناتها واتجاهات حركتها. وبالنتيجة، أُلغي الحق في التفكير العقلاني لمصلحة تسييد المنطق الشكلاني «الخيطي»، الذي يستسهل إطلاق الأحكام والمواقف الاستئصالية، محاولاً استغفال وخداع الجمهور العام وتضليله، ممارساً ضده نوعاً من القمع الناعم والمبرمج. لقد شكلت هذه العقلية الشمولية على الدوام المصدر الأصلي والتربة الخصبة للظاهرة الفاشية في العصر الحديث، ولا فرق هنا بين فاشية تقود الحكم وأخرى تصارعها عليه بأدواتها ذاتها: السلاح والمال والخداع الشمولي المانوي. كانت المعادلة التي حكمت المشهد العراقي آنذاك هي الآتية: إما أنْ تكون مع النظام الشمولي أو مع الاحتلال الأميركي، فإما صدام أو بوش ولا ثالث لهما! تفرعت هذه المعادلة، في ما بعد، إلى تعبيرات وتجليات نظرية وعملية أخرى: فأنت إما أنْ تكون مع خيار تغيير النظام بواسطة الحرب والاحتلال فتعتبر، بالتالي، مع الوطن والشعب... إلخ، أو أنْ ترفض الحرب والاحتلال فتكون بالتالي مع نظام صدام، وبالتالي فأنت ضد الشعب والوطن... إلخ. أما أنْ تكون ضد نظام صدام وضد حرب الاحتلال في الوقت نفسه؛ فهذا ما يُعَدّ تناقضاً عصياً لا سبيل إلى فهمه من قبل العقلية الشمولية المانوية. يمكن هنا، تسجيل الحفظ الذي كرره البعض من زملائنا في الساحة السورية، ومفاده أنَّ من غير الممكن المشابهة أو المطابقة بين المعارضة العراقية التي حملها الاحتلال الأجنبي إلى الحكم، وبين قوى الانتفاضة الشعبية السورية التي تقارع النظام وتريد إطاحته. ولا يمكننا في الواقع، رفض هذا التحفظ ومضمونه تماماً، ولكنه لن يستقيم مع واقع الصراع السوري الحالي، ويكون ذا قيمة وفائدة، إلا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أمرين: الأول، هو أنّ عويل بعض أطراف معارضة السورية، في الخارج خصوصاً، ودعواتهم إلى التدخل العسكري الأجنبي، لم يكن أقل صخباً وبؤساً من عويل المعارضة العراقية في الخارج آنذاك في هذا الاتجاه، إنْ لم يكن قد فاقها ابتذالاً. والثاني، هو أننا نتحدث الآن، وقبل وقوع كارثة التدخل العسكري الأجنبي في سوريا، وليس بعده كما هي الحال في العراق، ولو كنا نتحدث في ظرف مختلف «معاكس»، لما بقي لهذا التحفظ أية قيمة. لقد حاولت أطراف عراقية معارضة للحرب وللنظام معا آنذاك، مقاومة هذه المعادلة التبسيطية المضادة للعقل، عبر التبشير بموقف «ثالث» مُرَكَّب خلاصته: نرفض النظام الشمولي ونطالب برحيله، ونرفض تغييره بواسطة حرب الاحتلال بل بوسائل أخرى! لم يكن مُقَدَّراً لهذا الموقف أن ينتصر أو يسود في النهاية، وخصوصاً أنّه كان مجرد موقف سياسي لقوى صغيرة مشتتة، وعزلاء تماماً، لا تتمتع بالوزن السياسي المكافئ للقوى الأخرى «الحربجية»، أي التي أخذت بخيار الحرب، ودخلت في التحالف العسكري الغربي. لقد كانت مساهمة النظام البعثي العراقي لا تقل سلبية عن مساهمة المحتلين الأجانب وحلفائهم المحليين، في بلوغ ذروة الأزمة وتدمير العراق، حين رفض إمكانية التفكير، مجرد التفكير، ببديل آخر يفكك احتكاره للحكم طوال أربعة عقود، وجشعه الدموي للحفاظ عليه، حتى لو اضطر «إلى تسليم العراق أرضاً بلا شعب للعدو»، حسب العبارة الشهيرة التي نسبت إلى صدام حسين، ولا يبدو أنَّ رفيقه السوري مختلفاً عنه هنا كثيراً! يكاد هذا الدرس، يتكرر اليوم في المشهد السوري، وبما لا يقل فظاظة، الأمر الذي دفعت وتدفع ثمنه جماهير الحراك الثوري السوري في الداخل، التي سطَّرت أروع ملاحم الفداء والتضحية من أجل الحرية والكرامة. هنا أيضاً يمكن تلخيص الحالة السائدة على صعيد المواقف في المشهد السوري بالتالي: إنْ أنت وقفت مع الثورة الشعبية السورية وطالبت برحيل النظام الشمولي، عدّك النظام وأنصاره مؤيداً لحرب التدخل الغربية ضد سوريا وعميلاً وامتداداً للغزاة الغربيين. وإنْ أنت رفضت التدخلات الخارجية والارتباط العلني لبعض القوى السورية المعارضة، بدول لا علاقة لها من بعيد أو قريب بالديموقراطية والكرامة الإنسانية، دول قروسطية متخلفة تعدّ الثروات الوطنية مصرف جيب، وملكاً شخصياً للحاكم وأفراد عائلته وحاشيته كالسعودية وقطر؛ فقد أصبحتَ مدافعاً عن النظام في دمشق ومجرد «شبيح»، حتى لو كنت تجهل معنى هذه الكلمة. هناك تجليات فرعية عديدة لهذه الخلاصة، لكنّها لا تخرج عن الخطوط العريضة التي بيناها. لكنّ الباعث على التفاؤل والأمل، هو أنّ المدافعين عن المواقف المركبة والعميقة، الرافضين لابتزاز المانويين في السلطة والمعارضة السوريتين، أكبر تأثيراً ومساهمةً في الحراك الثوري على الأرض من أطراف أخرى تجاهر بالتدخل العسكري الأجنبي، بل إنّهم نجحوا حتى الآن في تحجيم دعاة التدخل العسكري الأجنبي من دون أنْ يتخلوا قيد أنملة عن رفضهم للنظام الشمولي ونضالهم السلمي ضده حتى إطاحته. هذا ما يمكن تلمسه في مداخلات العديد من أقطاب الحراك الثوري ومواقفهم، كميشيل كيلو وحسين العودات وعارف دليلة وفايز سارة وهيثم مناع وغيرهم. إنَّ من يتابع تصريحات ميشيل كيلو وزملائه ومداخلاتهم السياسية، يشعر بأنّ الأمور لم تفلت بعد من أيدي قيادات الحراك الثوري، وأنَّ النظام وخصومه من دعاة التدخل العسكري الأجنبي يحسبون لهم حسابهم. ولكنْ، لنكنْ واضحين وصرحاء، فحتى هنا، يمكن أنْ نجد بعض تمثلات المواقف المثيرة للجدل. من ذلك مثلاً، صمت بعض هؤلاء الأصدقاء عن التجاوزات والتصرفات الطائفية والتكفيرية، مع أنَّ بعضها لا يقل دموية عن تصرفات القوات الحكومية، والتي تقوم بها جماعات مسلحة «معارضة» ناشطة على الأرض، أو اعترافها بهذه التجاوزات مع محاولة التهوين منها والتقليل من شأنها. الأمر نفسه يحدث حين تصدر تصريحات وتصرفات ارتزاقية وتحريضية مضرة وغير مقبولة مِن بعض مَن يوصفون بمعارضة الخارج بعضها بلغ درجة أضرت بالحراك الثوري فعلاً وورطت النشطاء السلميين في مغامرات مسلحة معزولة ولا أفق لها أحياناً، وغير مبررة بعامل الدفاع عن النفس بشكل جلي. على المقلب الآخر، لكن في اتجاه مغاير شكلاً، نجد شيئاً شبيهاً بهذا، فبعض ممن يعلنون رفضهم للدكتاتورية الحاكمة في دمشق كنوع من «تحية الصباح الواجبة»، لا يلبثون أن يصبوا جام غضبهم على المعارضة السورية ككل، وعلى الحراك الشعبي الثوري السوري بكافة تجلياته، مساوين هكذا، بين انتفاضة سلمية عظيمة، وجماعات مسلحة بدأت معزولة وحوّلها قمع النظام الدموي إلى كيانات مسلحة نامية باستمرار وحالات دفاع مشروع ومبرر عن النفس بالسلاح في مواجهة عنف وقسوة القمع الحكومي. هذا البعض، يسكت جزئياً أو تماماً عن بشاعة الحل الأمني الذي يطبقه النظام، وعن التجاوزات الدموية التي يرتكبها، ولكنه يشهر عالياً تجاوزات المجموعات السلفية المعزولة. إنّ هؤلاء يحمّلون المعارضة مسؤولية وصول الأزمة إلى ما وصلت إليه، لأنّهم خاضعون للغرب الرافض للحوار السوري الداخلي، وهذا أمر يصح مع بعض الأطراف وليس كلها. ولكنْ ماذا بخصوص مسؤولية النظام الشمولي السوري ذاته عن وصول الأزمة إلى ما وصلت إليه، وتعطيله لأية إمكانية للحوار بإجراءاته الانفرادية والاستئصالية؟ ماذا بخصوص تفرده في طرح البرامج والمشاريع والخطط التي يحب أن يسميها «إصلاحية»، ورفضه الاعتراف بالآخر؟ لقد شكَّل النظام لجاناً، وغيَّر دستوراً بنفسه، ثم أجرى عليه استفتاءً بيروقراطياً بإدارته، ومن ثم أجرى انتخابات تشريعية تحت إشرافه وسيطرته، فيما كان الدماء تسفك في الشوارع المنتفضة، فهل هذا هو الحوار والمصالحة والإصلاح، أم أنّه قتل صريح لكل حوار ومصالحة وإصلاح؟ هل كان النظام يريد أن يتحاور ويتصالح مع نفسه وبشروطه، أم مع شعبه الثائر ضده؟ إنّ مقولة «الغرب يمنع الحوار السوري الداخلي» صحيحة؛ فالغرب لا مصلحة له في ذلك، بل يريد أنْ يحصل على الجمل السوري بما حمل، ورغم أنف السلطة ومعارضيها السلميين والمسلحين، ولكن هل يفلت نظام الأسد ذاته من تحمّل مسؤولية ما حدث ويحدث؟ هل أبدى هذا النظام السوري أي استعداد للتضحية والتنازل فلمّح، مجرد تلميح إلى أنّه سيقبل بخيار الشعب المعبّر عنه بانتخابات شفافة ومفتوحة ونزيهة وأنّه مستعد للانتقال إلى خندق المعارضة إنْ هُزِم انتخابياً؟ هل بادر النظام إلى حلول وتغييرات عميقة في بنية الدولة والمؤسسات تهدئ الشارع وتعطي أملاً بإمكانية الحل السلمي المتحضر، باستثناء حذفه للمادة الثامنة من الدستور وهي مادة «ماتت وشبعت موتاً» حتى قبل اندلاع الانتفاضة الشعبية؟ كلا، لقد كان برنامج النظام الفعلي وعلى الأرض، معبَّراً عنه بتفاصيل الحل الأمني، نموذجاً للجشع السياسي والاستئثار بالسلطة وانعدام الشعور بالمسؤولية التاريخية وانعدام الاستعداد للتضحية. إنّ دروس التاريخ وتجارب الشعوب الأخرى جديرة بالتذكر والاعتبار في هذا الصدد، فالحاكمون، حين يدخلون في مواجهة كبيرة مع شعوبهم، يجب عليهم اتخاذ قرارات صعبة ومصيرية أحياناً، ينقذون بها تلك الشعوب حتى وإنْ خسروا الحكم. مِن هؤلاء يمكن أنْ نتذكر إريك هونكر رئيس جمهورية ألمانيا الديموقراطية الذي قال بعد سقوط جدار برلين وانهيار النظام الاشتراكي «الشمولي»، الكلمات الجديرة بالاعتبار والتدبر التالية: «حين اتسع الحراك الشعبي ضد حكمنا، وفشلت جميع محاولتنا لاستيعابه واحتوائه، كان أمامنا خياران لا ثالث لهما: فإما أنْ نرتكب حمامَ دمٍ رهيباً في قلب أوروبا لنبقى في الحكم، أو أنْ ننسحب منه بكرامة وانتظام ونخضع لصندوق الانتخابات يحكم بيننا وبين خصومنا في وضع ليس لمصلحتنا البتة، وقد فضلنا اعتماد الخيار الثاني، فخسرنا الحكم وربحنا أنفسنا والتاريخ».
*كاتب عراقي