برغم حداثة عهد مفهوم «المجتمع المدني» لدى السوريين على نحو عام، وبرغم أنّ المصطلح لم يحفر نفسه في أذهان السوريين منذ أمد بعيد، تستعيد التفاصيل التي تكتنف الحراك الثوري السوري اليوم هذا المفهوم على نحو ملح. ينطلق هذا الأمر أساساً من صلة خفية تجمع نقاط التشابه بين الثورة السورية اليوم ضد بشار الأسد (كجزء هام من «الربيع العربي») والحراك الاجتماعي الذي قام في أوائل القرن الحالي بعد تسلم الأسد الابن سلطة الحكم، والذي اكتسب ــ زيادةً في سخرية الأقدار ــ تسمية «ربيع دمشق».
يتعمق هذا الأمر بفعل تفاصيل إضافية، فكتلة «إعلان دمشق» التي كانت الجزء الفاعل في حراك المجتمع المدني آنذاك هي اليوم جزء أساسي في المجلس الوطني السوري المعارض، كما أنّ كثيراً من الشخصيات السياسية والإعلامية انطلقت من هذه المظلة لتكون اليوم متحدثة باسم الحراك السوري. إنما على النقيض من كل ذلك كان تطور الحراك الثوري السوري ــ بشكل فاعل ومنفعل معاً ــ مهمشاً لهذا النوع من الحراك اليوم، ولو كان قد قام بتفعيله وتكريس شروطه والحفاظ على مكتسباته لكان بإمكانه تحقيق أضعاف التأثير الذي حققه حراك المجتمع المدني في الفترة 2001 ــ 2004.
أولاً: في تناقضات الثورة مع المجتمع المدني
يرتبط مفهوم المجتمع المدني NGO’s أساساً بالعزلة التامة عن الاصطفاف السياسي، ويرتبط بالقدرة على الإنتاج والعطاء من منظور إنساني بحت. وينطبق هذا التعريف على جميع مؤسسات المجتمع المدني في العالم من الناحية النظرية، بدءاً بأصغر مؤسسة لمحو الأمية في أصغر قرية سورية، وانتهاءً بمنظمات عالمية ضخمة كمنظمة اليونيسيف ووكالة الأونروا ومنظمة اليونيسكو. ولا يمكن لمؤسسات المجتمع المدني أن تصطف سياسياً، إذ تتحوّل بذلك إما إلى حزب سياسي في حال النشاط السلمي، أو ميليشيا مسلحة في حال النشاط المسلح.
كانت الظروف البدئية التي رافقت الثورة السورية حاضنةً مثالية لقيام نشاط فاعل للمجتمع المدني، وتحت مسميات «الحرية، العدالة الاجتماعية، الكرامة الإنسانية» قامت حركات الاحتجاج ضد سياسة الحكم في سوريا. من هنا كان الظرف مواتياً لشعارات تحمل الصيغة العامة إنسانية الطابع الملائمة لطبيعة الحراك المدني: «الله سوريا حرية وبس»، «الشعب السوري ما بينذل»...إلخ، لكن الشعارات سرعان ما تحولت إلى سياسية بحتة، وبذلك اصطفت أغلب التجمعات لتتخذ موقفاً من النظام السوري، وتتحوّل بذلك إلى تجمعات سياسية بدلاً من تجمعات مدنية.
لم يفتح المجال للعمل ضمن هذا الإطار الجامع مدني الطابع لفترة طويلة، إذ انتقل العمل من المطالبة بقضايا عادلة ومفاهيم عامة إلى تسييس للقضية على نحو عام. ومن هنا تضاءل دور مؤسسات المجتمع المدني رسميةً كانت أم غير رسمية لتحل محلها حركات التظاهر والعصيان المدني التي برزت تحت اسم «التنسيقيات»، والتي انحصر دورها في تنظيم تظاهرات سياسية المحتوى. وكانت ذروة هذا التضاؤل في الفترة السابقة للاجتياح العسكري للمدن والمناطق السورية، رغم وجود حركات مدنية قليلة العدد كمبادرة «أطباء تحت القسم»، التي نادت بفصل العمل الطبي عن التحزبات السياسية، ونادت بحق الطبيب في ممارسة عمله وحق المريض في عناية طبية لائقة، مهما كان التوجه السياسي لدى كل منهما.
مع الاجتياح العسكري للمدن، بدأ العمل المدني بالتوسع في مجالات الإغاثة والإسعاف والتطبيب، وترافق ذلك مع بوادر مأسسة ما اصطلح على تسميته الجيش السوري الحر (سواء المدنيين أو العسكريين). إلا أنّ هذه المؤسسات بقيت متحيّزة سياسياً، وينطبق ذلك على الخدمات الصحية على نحو أخص، إذ يؤدي التوجه السياسي للمصابين دوراً مهماً في العناية الصحية بهم، كما ثمة شك في وجود عوامل أخرى مؤثرة كذلك.
أيضاً انعدم نشاط المجتمع المدني الثقافي والإعلامي، فتحولت المنابر الإعلامية إلى تجمعات سياسية تخدم هذا الطرف أو ذاك، وتركز على طرف دون آخر. فالاحتفاء بالشهيد حكر على الطرف الذي ينتمي إليه، بينما التنكيل به حكر على الطرف المقابل. ولم يساعد ذلك على نشوء بنى ثقافية وإعلامية ذات طابع أخلاقي مدني يتناسب مع الثورة التي تعدّ نفسها «ثورة لكل السوريين».

ثانياً: في أهمية الحراك المدني

تنطلق أهمية الحراك المدني من كونه الحاضنة الجامعة لكل الاختلافات السياسية الجزئي منها والكلي. وعادةً ما تكون منظمات من مثل «الصليب الأحمر» و«الهلال الأحمر» عاملاً مشتركاً يسهم في ردم الهوة الإنسانية بين الأطراف المتناحرة. ويمكن لحراك المجتمع المدني أن يظهر من خلال مؤسسات إعلامية تتضمن جميع الأطياف والآراء ضمن منظومة فكرية تعبيرية حرة، أو عبر مؤسسات إغاثية غير متحيزة تختص بالشأن الإنساني لإغاثة جميع المتضررين من جميع الأطراف، أو عبر مؤسسات تسويقية وقانونية واستشارية تعمل على دعم المشاريع والمبادرات المدنية الصغيرة ذات الطابع المدني مهما كان توجهها. وعادةً ما ترجح كفة هذا النوع من العمل في ظل الانقسامات السياسية، ويتعزز رجحانها مع زيادة حدة الانقسامات السياسية وتشعبها (كما يحدث في خلافات المعارضة اليوم)، إذ تحافظ هذه المؤسسات على قضية كبرى عامة، تتمثل في حقوق المرأة أو حرية التعبير أو الحياد الإعلامي أو حقوق الطفل أو الحق بالرعاية الصحية... وهي قضايا تجمع مؤيدين من جميع الأطراف يتفوقون على مؤيدي كل توجه سياسي على حدة.

ثالثاً: في إمكان العمل المدني في سوريا

لا يرتبط العداء الكامن بين النظام والمجتمع المدني بالأحداث التي رافقت الثورة السورية وحسب، بل إن ذلك يمتد عشرات السنين طيلة فترة حكم حزب البعث، الذي احتكر أي نشاط سياسي أو مدني، ومنع ترخيص أي عمل في سياق النوادي والجمعيات والروابط والمنتديات سواء ارتبطت بتوجه سياسي أم لا، كما قيّد النقابات المهنية في إطاره ليجعل منها رديفاً له، ومن ثمّ فروعاً ضمنيّةً للحزب ومقارّ خفيّة لأجهزة الأمن، بدءاً من منظمة طلائع البعث واتحاد شبيبة الثورة والاتحاد الوطني لطلبة سوريا، وانتهاءً بالنقابات المهنية على اختلافها.
من هنا كان العمل المدني يتطلّب السرّية في الداخل السوري، ولا تقتصر السرّية على مجرد الاختفاء تحت شخصية وهمية. لقد كان التخوف الأساسي من الاختراقات الأمنية للتجمعات المدنية والتنسيقيات الثورية (الأمر الذي لا يكاد يخلو تجمّع منه)، مما أدّى إلى انعدام الثقة بين أفراد التجمع الواحد، وتقييد إمكان العمل الجماعي ليتحول الأمر إلى مجموع غير صحيح لمبادرات فردية خجولة مترددة متعثرة.
في المقابل، يمتلك الخارج السوري إمكانات أكبر في التحرك والعمل إعلامياً ومالياً وسياسياً، لكن ينعدم الاهتمام بالتركيز على نشاط المجتمع المدني والاكتفاء بالتحرك السياسي في إطار التصريحات وإعلان المواقف التي لم تستطع التأثير في محيطها، مما يجعل الخارج السوري عقيماً في تقديم أي دعم فعلي إلى الحراك السوري على أرض الواقع.

رابعاً: في دور المجلس الوطني

إنّ الدور الأساسي المنوط بالمجلس الوطني السوري هو دعم الحراك المدني المتفرق والمجزأ في الداخل عبر إنشاء حاضنات ضخمة تستوعب جميع المشاريع المتوافقة في مشروع ضخم موحد. من الأمثلة على ذلك استيعاب جميع المواقع والمنابر الإعلامية ضمن مكان واحد يمثّل وكالة أنباء ذات مرجعية واحترافية عالية، أو استيعاب جميع العاملين في الحقل الفكري والنقدي والثقافي لتشكيل تجمع واحد ذي ثقل وأهمية على المستوى السوري، أو استيعاب جميع المشاريع الإغاثية والمالية في مشروع واحد شفاف ذي موثوقية عالية وانتشار عالمي. يساعد ذلك على نقل تفاصيل إدارة العمل من الداخل السوري إلى الخارج، حيث يمكن ضمان حرية ومساحة أكبر للعمل، إضافةً إلى إمكان التواصل السهل والمباشر مع العاملين في الداخل السوري. إنّ أهمية هذا الدور للمجلس الوطني تنبع من كونه أساساً يتخذ على عاتقه مهمة توحيد الجهود السورية، بدلاً من تفرقتها وبعثرتها وضياعها. ويمكن اليوم القول بكل أسف إنّ المجلس لم يقم بهذا الدور المنوط به، وإنّه غير مهتم إطلاقاً بالقيام بهذا الدور، ويمكن الاستدلال بتصريح الرئيس السابق للمجلس الوطني برهان غليون في أنّ دور المجلس يقتصر على كون: «المجلس الوطني هو وزارة خارجية الثورة».
يمكن القول بسهولة إنّ استجابة مدينتي حلب ودمشق للحراك الثوري تتوقف على مدى توسع نشاط المجتمع المدني فيهما، فالحراك المسلح بعيد عن طبيعة الحياة المدنية فيهما، التي تمنع شرائح كبيرة من السوريين من المشاركة في الثورة بفعالية. ويجب الأخذ بعين الاعتبار أنّ حراكاً مدنياً يجمع الأطباء في حلب أو المهندسين في دمشق يمكن أن يكون أكثر تأثيراً في هاتين المدينتين من عمليات الجيش الحر في ريف حماه. ولا ترتبط القدرة على التأثير وحدها بتوسع هذا الحراك، بل إنّ هامش الأمان يزداد بتوسع الحراك كذلك، إذ سيقف النظام عاجزاً ولا شك عن اعتقال عشرات الآلاف من المحامين أو المهندسين أو الأطباء دفعةً واحدة، أو على الأقل سيعجز عن إيجاد الغطاء الإعلامي اللازم للقيام بخطوة كهذه. مما سيزيد من شعبية الحراك المدني في جميع الحالات ويزيد من زخمه وتأثيره.
إنّ الحراك المدني ــ على أهميته ــ لم يحظ بالدعم الكافي لتفعيله، وتقع المسؤولية الأولى والأكبر في ذلك على المجلس الوطني، الذي كان يفترض به أن يكون الطرف الأساسي الداعم لتوحيد الجهود المدنية السورية في الداخل والخارج، لكن لا تزال الفرصة ممكنة للانتقال إلى حراك مدني أوسع ذي طابع مؤسساتي ضخم ذي إدارة مركزية تتمثل في المجلس الوطني نفسه، في خطوة نحو دولة المؤسسات المدنية، ونحو تفعيل ثورة «لكل السوريين».
* ناشط سوري