يقال أحياناً في تعريف الجنون إنّه تكرار الفعل نفسه مرات عديدة على أمل أن يؤدي في المرة القادمة إلى نتيجة مغايرة عن سابقاتها. هذه الحكمة الشعبية هي بمثابة إعادة صياغة للاكتشاف المهم لفرويد في ما يتعلق بأثر الصدمة على سلوك الإنسان، حيث شخّصه بأنّه يؤدي في الكثير من الأحيان إلى عُصاب «إجبار» أو «إكراه التكرار»، إذ يضطر الإنسان، دون وعي منه، إلى تكرار السلوك الذي كانت نتيجته ذلك الحدث الصادم مرة تلو الأخرى.
وينطبق هذا التشخيص تماماً على استراتيجية السلطة الفلسطينية، إذ تعتقد أنّ سعيها إلى إعلان دولة فلسطينية في المحافل الدولية، وبالتالي تكريس تقسيم فلسطين التاريخية، سيؤدي بطريقة ما إلى إقامة فعلية لدولة فلسطينية مستقلة، رغم فشل هذه الاستراتيجية تاريخياً بإقامة هذه الدولة، مما تسبب لها بصدمة. والخطة الأخيرة لمحمود عباس، المدعومة من جامعة الدول العربية، والمتمثلة بالتقدم بطلب رسمي في الشهر المقبل إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لقبول دولة فلسطين في صفوفها (كعضو مراقب لا يحق له التصويت)، هي أحدث محاولة في هذا المشروع العقيم والمجنون.
من الأهمية بمكان في هذا الصدد أن نلاحظ أنّ هذا الإكراه على التكرار لفعل صادم، إلى حد درجة السخف، لم يؤد تاريخياً إلى تحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني، بل إلى سلب استعماري أكبر. كانت البداية في ١٩٨٨ عندما جددت منظمة التحرير الفلسطينية التزامها بـ«البراغماتية»، التي سبق أن دشنت التزامها بها في منتصف السبعينيات، وأعلنت قيام واستقلال دولة فلسطينية في الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية) وقطاع غزة، وهو القرار الذي أضعف الحركة الوطنية الفلسطينية إلى حد كبير، وعزز من سطوة القوى الدولية التي سعت إلى السيطرة عليها، على الأقل منذ أربعينيات القرن العشرين، عن طريق معادلة كولونيالية، تصرّ عبر لازمة مكرورة على أن «الحل» لما يسمى زوراً وبهتاناً وبخلاف الحقائق القائمة «الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي،» بدلاً من مشروع استعمار فلسطين ومقاومته، إنما يكمن في تقسيم البلاد.
وفيما جرى اقتراح تقسيم فلسطين لأول مرة بين المستوطنين ــ المستعمرين اليهود والسكان الفلسطينيين الأصليين من قبل لجنة بيل البريطانية في ١٩٣٧، عندما كان الفلسطينيون ثائرين في واحدة من أضخم الثورات (١٩٣٦ ــ ١٩٣٩) التي واجهتها الامبراطورية البريطانية في القرن العشرين، فإنّه سيتم إحياء هذا الاقتراح من جديد في قرار التقسيم، الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ١٩٤٧، والذي رفضه الفلسطينيون استراتيجياً، على أساس أنّه يمثل تنازلاً كبيراً إزاء السرقة الصهيونية الاستعمارية لأراضيهم، فيما قبله الصهاينة قبولاً تكتيكياً، كخطوة متقدمة في اتجاه التجريد النهائي للفلسطينيين من بلدهم وسرقته بالكامل.
ومنذ ذلك الحين، تقوم الدعاية الصهيونية الاستعمارية على مبدأ أنّ الفلسطينيين لا يزالون محرومين حقوقهم حتى اليوم لا نتيجة الاستعمار الصهيوني، بل نتيجة مقاومتهم له، الذي يجري تشفيره على أنّه «رفضهم» مشروع التقسيم، وفيما فهمت الحركة الوطنية الفلسطينية الطبيعة الحقيقية للحجج الصهيونية جيداً، وأجابت عنها في وقت مبكر دون لبس، موضحة أنّ الأمم المتحدة لا تملك الحق في تقسيم ما لا تملك سلطة تقسيمه، ولا سيما دون مشاورة، فضلاً عن موافقة، الشعب الفلسطيني، فقد استخدم ياسر عرفات في ١٩٧٤ في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لغة التوراة نفسها التي وظفتها الحركة الصهيونية جيداً في دعايتها: «فقسمت ما لا يجوز لها أن تقسم: أرض الوطن الواحد، وحين رفضنا ذلك القرار فلأننا مثل أم الطفل الحقيقية التي رفضت أن يقسم سليمان طفلها حين نازعتها عليه امرأة أخرى». ومع ذلك، وبعد فترة وجيزة ولا سيما في عقد الثمانينيات، اقتنع العديد من الفلسطينيين والنيوليبراليين العرب «البراغماتيين» بالحجج الصهيونية التي فُرضت عليهم من قبل السلطة الأميركية وأموالها، وبدأت تنظر إلى الرفض الفلسطيني لقرار التقسيم على أنّه الحدث «الصادم» في حياة الفلسطينيين، وليس الغزو الصهيوني لبلدهم ولا النكبة التي ابتلى بها الصهاينة فلسطين والفلسطينيين. وكما وصف آبا إيبان، على نحو عنصري استعماري نموذجي، رفضَ الفلسطينيين بأنّه مثال على أنّ الفلسطينيين «لا يفوتون فرصة أبدا لتفويت الفرص»، فقد قرر قادة فلسطينيون، بعضهم من المصابين بصدمة نفسية نتيجة الحكم الغربي عليهم بناءً على خطيئتهم الأصلية المتمثلة في الرفض الفلسطيني لقرار التقسيم، والبعض الآخر من أتباع الاستراتيجيات «البراغماتية» الذين كانوا يأملون أن تؤتي هذه الاستراتيجيات أكلها على نحو أفضل مما تفعل مناهضة الاستعمار عبر الصمود والمقاومة، قرروا إعلان قيام دولة فلسطينية مستقلة في ١٩٨٨.
لكن الصدمة الجديدة للفلسطينيين لم تكن نتيجة رفضهم قرار التقسيم في ١٩٤٧، بل كانت في الواقع نتيجة قبولهم صيغة مختزلة منه في ١٩٨٨. فقد كان الرفض الفلسطيني لقرار التقسيم قراراً عقلانياً ومبدئياً مناوئاً للاستعمار، وهو متفق مع المبادئ المشتركة لدى جميع الشعوب المستعمَرة، وليس عُصاباً فلسطينياً؛ وبالتالي لم يكن رفضهم لقرار التقسيم حدثاً صادماً في حياتهم، بل إنّ ما تعرض له الفلسطينيون من صدمات إنما كان دائماً نتيجة الغزو الاستعماري الصهيوني لأراضيهم وطردهم منها. أما إعلان الدولة في ١٩٨٨ الذي أمل الكثير من الفلسطينيين أن يدخلهم في لعبة السياسة البراغماتية، التي اعتبروها وسيلة لإنهاء الاستعمار، ولو جزئياً على الأقل، فهو ما تسبب لهم بالصدمة. فبالرغم من كل ما قدموه من فروض الولاء والطاعة وما نفذوه من إملاءات السلطة الأميركية والبراغماتية الغربية، اعتقاداً منهم بأنّهم سيحظون بقبول الغرب بمجرد أن يفعلوا ذلك وبأنّه سيكون بمقدورهم دخول لعبة الأمم، فقد مثل الرفض الغربي المتواصل صدمة لهم، كما سبب تلاشي آمالهم على يد إسرائيل والولايات المتحدة، التي التزمت باستمرار الاستيطان اليهودي على الأراضي الفلسطينية، بصدمة عميقة أدت إلى إصابتهم بعصاب الإجبار أو إكراه التكرار، الذي أدى، بطبيعة الحال، مرة تلو الأخرى إلى الرفض الغربي نفسه الذي يسعون الى تغييره.
وكان المأمول من إعلان الدولة في ١٩٨٨ إظهار الفلسطينيين في الغرب بمظهر «القابلين» بالحلول البراغماتية لا «الرافضين» لها، لكن عدم فهم القيادات الفلسطينية لالتزامات الولايات المتحدة، والغرب، وإسرائيل على أنّها التزامات بنهج الاستعمار لا بـ«البراغماتية» بحد ذاتها، قد أدى بالكثير منهم إلى الترويج لخطط وقرارات تقسيم جديدة برعاية أميركية باسم «البراغماتية»، وتحت شعار «حل الدولتين». ومنذ ذلك الحين لم يعد مشروع الولايات المتحدة معنياً بإعادة تقسيم فلسطين التاريخية، بل بتقسيم ١٨ في المئة منها، أي الضفة الغربية (التي تشمل القدس الشرقية)، بين اليهود المستعمرين ــ المستوطنين وبين الفلسطينيين. وقد سُمح للفلسطينيين بالتفاوض، من حيث المبدأ، على بعض أجزاء التوزيع الجغرافي للتقسيمات الجديدة المقترحة، لكنّ إسرائيل رفضت بالطبع السماح لهم حتى بالقيام بذلك، وأصرت على أنّ التقسيم سيكون داخل حدود سلطتها الاستعمارية لا خارجها، مقترحة إقامة بانتوستانات في الضفة الغربية تفتقر إلى أي سيادة حقيقية. وهذا تماماً ما قامت عليه عملية أوسلو منذ ١٩٩٣، والتي وصلت إلى نهايتها المنطقية مع توقف المفاوضات.
تمظهر العُصاب البراغماتي الفلسطيني بتشخيصه لحدث لم يكن صادماً للشعب الفلسطيني (أي رفض قرار التقسيم لعام ١٩٤٧) على أنّه الحدث ــ الصدمة بامتياز. وبينما أصر البراغماتيون على عدم تكرار تلك الصدمة من خلال عدم رفض أي قرارات تقسيم جديدة، فقد أجبروا على تكرار الحدث الصادم بالفعل، عندما قوبل قبول منظمة التحرير الفلسطينية في ١٩٨٨ التقسيم برفض الغرب وإسرائيل، مما مثل بدوره صدمة للبراغماتيين. وقد أدى عصاب الإكراه الفلسطيني (الذي تعانيه القيادات الفلسطينية البراغماتية) إلى عدم تكرار رفض التقسيم في ١٩٤٧ وعلى تكرار قبول كل التقسيمات الجديدة التي ترعاها الولايات المتحدة إلى حد قبول السلطة الفلسطينية حتى بتقسيمات جزئية يتضاءل حجمها في كل مرة يتم عرضها وقبولها. ومع ذلك، لم تضمن كل هذه التنازلات قبول الغرب بمشاركة السلطة الفلسطينية في لعبة الأمم، وبعد الحملة الترويجية الكبيرة التي قادها رئيس وزراء السلطة الفلسطينية غير المنتخب سلام فياض، والتي منيت بالرفض من قبل أوباما، ها هو الفشل المدوي للسلطة في العام الماضي في مساعيها لدى مجلس الأمن لقبول دولتها عضواً في الأمم المتحدة يتكرر اليوم في مشروع رئيس السلطة، غير المنتخب أيضاً، محمود عباس في سعيه للأمر ذاته في الجمعية العامة في الشهر المقبل كخطوة تحضيرية قبل إعادة عرضه على مجلس الأمن. وعليه، فإن المرء ليساوره القلق إزاء إدمان السلطة الفلسطينية على التعرض المستمر لرفض الولايات المتحدة وإسرائيل لمشروع دولتها، وقبول الأميركيين للمسؤولين في السلطة الفلسطينية كعملاء استعمار فحسب لا كشركاء، مما يكرر الصدمة لهم ويكره السلطة الفلسطينية على التكرار من جديد.
ولكن من الناحية التاريخية، وكما لا يكل عن تذكيرنا به الناشط والباحث الفلسطيني علي أبو نعمة، فإنّ كل مليارات الدولارات التي أنفقت وتنفق، ومئات المشاريع التي اقترحت، والآلاف من جلسات المفاوضات التي عقدت على مدى أكثر من ستة عقود، لم تُفلح بجعل هذا المشروع المجنون والعُصابي أكثر قابلية للحياة، فضلاً عن أنّ يصبح مرغوباً فيه. إذ علاوة عما يراكمه من فشل يتلو آخر، فقد بات عائقاً أمام أية مساع حقيقية قائمة على استراتيجية ورؤى مغايرة. ففيما عدا الأميركيتين وأوقيانيا، فقد نظر معظم المراقبين، في نصف القرن الماضي، لجميع المشاريع الأوروبية الاستعمارية ــ الاستيطانية في آسيا وأفريقيا، عن طيب خاطر أو على مضض، على أنّها قابلة للتفكيك، وعلى أنّ تفكيكها في الواقع هو الاستراتيجية الوحيدة الناجعة لإنهاء العنف الذي تولده هذه المشاريع باستمرار، ولا سيما أنّ المشروع الاستعماري ــ الاستيطاني يرتكز من بدايته إلى نهايته على عملية لا تنتهي من العنف، الذي لا يمكن لهذا المشروع أن يتحقق دونه. وقد عُبر عن الرؤى والاستراتيجيات اللازمة لوضع حد لهذه المشاريع بأشكال مختلفة باختلاف الأماكن، سواء كان ذلك في إنهاء الاستعمارين الفرنسي والبريطاني في الجزائر وزيمبابوي، أو إنهاء الفصل العنصري وإنهاء الامتياز الاستعماري والعرقي في جنوب أفريقيا وفلسطين. وبينما كان التقسيم هو المفهوم العملي الذي ارتكزت عليه المشاريع الاستعمارية ــ الاستيطانية في جميع هذه الأماكن (وقد أطلق على تلك الاستراتيجية في جنوب أفريقيا دون مواربة اسم «التقسيم» أو «الفصل» العنصري و كلمة مشتقة من جذر كلمة أو «تقسيم» )، واعتُبرت إزالته السبيل الوحيد للتحرير إلا في حالة فلسطين، حيث قُدم «التقسيم» باعتباره السبيل لا لتعزيز المشروع الاستيطاني ــ الاستعماري الصهيوني، لكن بشكل مثير للدهشة، باعتباره وسيلة لـ«تحرير» فلسطين. (وهنا لا بد من فضح كل المحاولات الرامية إلى مقارنة أو مساواة تقسيم الهند بين أجزاء من شعبها الأصلي ــ الذي كان من نتائج السياسة الاستعمارية البريطانية ــ بمشروع تقسيم فلسطين بين شعب البلد الأصلي والمستوطنين ــ المستعمرين الأوروبيين، والتأكيد على أن أي محاولة من هذا القبيل لا تعدو كونها حيلة لـ«طبعنة» إسرائيل وتقديمها كدولة قومية مثل باقي الدول تواجه مشاكل عرقية ودينية، لا على أنها مستعمرة ــ استيطانية تمارس السلب الاستعماري للسكان الأصليين).
يتمنى المرء أحياناً لو أن البراغماتيين الفلسطينيين يعانون فقط عصاب الإكراه على عدم تكرار استراتيجيات مقاومة الاستعمار، وأنهم يقومون عوضاً عن ذلك بتكرار الاستراتيجيات الاستعمارية، إذ إنّ الصدمة الجديدة التي باتت تؤرق هؤلاء البراغماتيين بشكل رئيس هي صدمة النجاح المطّرد للاستراتيجية الفلسطينية اللا ــ براغماتية المناوئة للاستعمار، التي تدعو إلى إنشاء دولة واحدة غير مقسمة وتسعى إلى إنهاء الامتياز الاستعماري والعنصري اليهودي، وترسيخ مبدأ المساواة للجميع (وتمثل حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها أحد المكونات الرئيسة لهذه الاستراتيجية المناهضة للاستعمار، على الرغم من أنّ الحركة لا تتخذ موقفا صريحاً بشأن الترتيبات الخاصة بشكل وماهية الدولة القادمة، التي من شأنها إنهاء الاستعمار). إنّ عصاب إكراه التكرار الذي يدفع البراغماتيين لإعلان الدولة مرة أخرى، وإلى تقسيم فلسطين من جديد، ليس سوى محاولة جديدة للقضاء على النضال من أجل إقامة دولة واحدة، أو حتى على مشروع إنهاء الاستعمار فعلياً بأي شكل من الأشكال. فسواء جرى قبول هذه «الدولة» أو رفضها من قبل أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإنّ هذا الإكراه على إعادة وتكرار قرار التقسيم سيلقى مصير سابقيه نفسه، ولن يحقق «حل الدولتين». وسيكون فشله ذاك نعمة أخرى تعزز مشروع إنهاء الاستعمار والتحرير الوطني الفلسطيني وإقامة دولة واحدة ديموقراطية.
* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك