دفعت أحداث الربيع العربي، خصوصاً في نسختها السورية، بالقضية الكردية إلى الواجهة بقوة، وزاد من شدة حضورها ثلاثة أسباب: الثقل السياسي النوعي للمكوّن الكردي في الحدث السوري المستمر. ثانياً، استمرار وتصاعد العمليات المسلحة التي يشنها المتمردون اليساريون الأكراد في تركيا وثالثاً، التطورات المهمة والحادة في علاقة القيادات الكردية العراقية التي تحكم الإقليم مع الحكومة الاتحادية في بغداد. لقد بلغت تلك التطورات درجة عالية من التأزم دفعت بإحدى القيادتين الكرديتين التقليديتين هناك، التي يتزعمها مسعود البارزاني، وارث الزعامة وقيادة الإقليم هو وعدد من أفراد أسرته عن والده الراحل، والزعيم التاريخي لحركة التحرر الكردية العراقية، الملا مصطفى البارزاني، دفعته إلى التحالف مع قوى داخلية لم تكن يوماً قريبة منه سياسياً أو أيديولوجياً بل كانت خصماً تقليدياً له، ومع دولة مجاورة هي تركيا التي تخوض حربها الخاصة والاستئصالية مع «أكرادها» منذ ثلاثة عقود دون أنْ تبدي أية علامة على احتمال تخليها عن اعتماد الحل الأمني لصالح تبني الحوار والتعامل السلمي مع مواطنيها الأكراد. هذه التطورات والمواقف والتحالفات لبعض الزعامات الكردية، العراقية خصوصاً، والتي سنركز عليها الضوء هنا، خلطت الأوراق والأدوار والأولويات إلى درجة غدا معها من الضروري تفحص الثوابت وتمييزها عن الهوامش الطارئة. إنَّ الدفاع عن حق الأمة الكردية في تقرير مصيرها على أرضها في عموم كردستان المقسمة اليوم بين أربع دول هو مبدأ ديموقراطي وإنساني غير قابل للمساومة واللف والدوران، لكنَّ هذا الإيمان شيء، والاعتقاد بأنّ الزعامات الكردية التقليدية جادة ومبدئية فعلاً في إيمانها بهذا الحق وفي تهديداتها المتكررة باللجوء إلى تطبيقه من طرف واحد، شيء آخر ومختلف تماماً. إنَّ هذه القيادات قدمت من خلال ممارساتها الدليل تلو الآخر على أنّها تستغل هذا المبدأ دفاعاً عن مصالحها وامتيازاتها الحزبية والعشائرية والشخصية. للتدليل على صحة هذا الاستنتاج، يمكن أنْ نأتي بأمثلة عديدة لتأكيد أنَّ المناسبات التي لجأت بعض الزعامات الكردية في العراق إلى التهديد أو التلويح بحق تقرير المصير واللجوء إلى شعب كردستان لاستفتائه حول إعلان دولة كردية مستقلة هي مناسبات أزمات وتوترات تصاعدت مع الحكومة الاتحادية في بغداد. ولعل آخرها كانت حول فضائح سلطات الإقليم بخصوص تهريب النفط، والاستيلاء على عائدات الجمارك في المعابر الحدودية الشمالية، وأزمة توقيع عقود النفط غير الشفافة مع الشركات الأجنبية، والمطالبة بتسديد رواتب ميليشيات البيشمركة... إلخ.
وعلى الرغم من هذه الوقائع، فإنَّ هذه الممارسات لا تقلل من أهمية وصحة مبدأ حق تقرير المصير للأمة الكردية، أو تشكك فيه، بمقدار ما توضح أنَّ هذا المبدأ السامي يُستغل استغلالاً غير سليم من قبل بعض الساسة الأكراد المتحالفين مع الدول الإقليمية أو حتى مع الولايات المتحدة الأميركية أو تركيا، على حساب كفاح مواطنيهم العراقيين أو أشقائهم الأكراد في سوريا.
ثمَّ إنَّ هذه الزعامات المهدِّدة بالانفصال واللجوء إلى الشعب الكردي لتقرير مصيره، تحالفت، خلال صراعاتها السياسية على المناصب والامتيازات، مع أكثر القوى السياسية عداء لحق تقرير المصير للشعب الكردي وقضيته، بل إنَّ قيادة البارزاني وقفت صراحةً وبقوة إلى جانب حكومة أردوغان في خلافاته، التي قد لا تخلو من البعد الطائفي، مع حكومة بغداد الاتحادية وعقدت معه صفقات تصدير النفط بالصهاريج، فيما كانت دماء المتظاهرين المدنيين الأكراد الأتراك تُسفك برصاص جنوده في مدينة ديار بكر وغيرها، لأنّهم طالبوا بإطلاق سراح زعيمهم السجين أوجلان خلال شهري حزيران و تموز 2012.
إنَّ من الضروري والمفيد التفريق تفريقاً واضحاً، بين ما يخشاه الأكراد وأبناء المكونات المجتمعية الأخرى في العراق وسوريا وعموم العالم العربي، من ممارسات الصهر القومي القسري الهادفة لتدمير الخصوصيات من جهة، وبين تفعيل عملية الاندماج المجتمعي الديموقراطي في دولة اتحادية مطموح إليها من جهة أخرى. فالعملية الأولى ممارسة عنصرية وقومية متطرفة مرفوضة، يمكن وضعها في خانة التطهير العرقي ومن مظاهرها عمليات الإبادة والتهجير وحرمان أبناء الأقليات القومية من حقوقهم الثقافية وفرض لغة الغالبية القومية وتقاليدها عليهم فرضاً، مما يؤدي إلى ولادة مجتمع مشوه ومضغوط بعوامل القمع والخوف وتوترات قابلة للانفجار بمجرد زوال عوامل القهر والقمع الحكومي. أما الاندماج المجتمعي الديموقراطي فهو أمر مطلوب ومشروع بوصفة الركيزة الاجتماعية الأهم لدوام الوحدة المجتمعية الوطنية القائمة على التفاعل الديموقراطي والشفاف بين مكونات المجتمع بما يضمن تطبيق القانون واحترام المؤسسات الدستورية غير الطائفية والعرقية والحفاظ على الخصوصيات الاجتماعية الداخلية لكلّ مكون مجتمعي والسعي، في الوقت نفسه، إلى تنمية الوحدة المجتمعية والوطنية ذات الجوهر الديموقراطي الإنساني بين المكونات بوصفها أجزاء من الكل المجتمعي العراقي ضمن موازنات ومعادلات مؤسساتية وثقافية وسياسية تنتجها عملية البناء الحضاري الدائبة كل يوم.
إنَّ الأمثلة على تجليات الصهر القومي العنصري كثيرة، وقد تقدم ذكر بعضها، أما ما يقابلها من ردود أفعال قومية من الأقليات المستهدفة، فمن الضروري تفهمها، مثلما نصح فلاديمير لينين حين قال ما معناه أنَّ من واجب الثوريين تفهم النزعات الشوفينية لدى القوميات المغلوبة على أمرها والمظلومة، ورفض تبرير أو تفهم النزعات الشوفينية لدى القوميات الظالمة.
ومن ردود الأفعال المرفوضة، والتي تصدر عن بعض الزعامات الكردية، رفضها الاندماج المجتمعي، واعتبارها جميع مظاهره نوعاً من الصهر القومي المرفوض. وهكذا تساوي هذه الأطراف مثلاً، بين وجوب رفع العلم الوطني الاتحادي في مناطقها، مع قصف النظام البعثي السابق لقرى كردستان بالأسلحة الكيمياوية! كما يمكن التذكير بهذا الخصوص بحوادث رفض بعض أفراد العائلة البارزانية الحاكمة، وعضو المكتب السياسي في حزبها الحاكم أدهم البارزاني مثلاً، الاعتراف بانتمائه إلى العراق وطناً وجنسيةً، وتدمير أو تحجيم الوجود الرسمي لمؤسسات لدولة الاتحادية وإعلاء شأن وفاعلية المؤسسات الحزبية والعشائرية الخاصة بالإقليم.
حتى في خصوص مشكلة المياه وعلاقة الإقليم بنهر دجلة وروافده، فقد برزت خلافات ومواقف متأثرة إلى هذا الحد أو ذاك بالخلفية القومية للوضع في العراق. فالبعض يرى في الممارسات الكردية في الملف المائي، مشاركة في الحصار المائي المفروض على العراق من قبل تركيا وإيران، ومحاولة لانتزاع إدارة الملف المائي في الإقليم من يد الحكومة الاتحادية لتحقيق أهداف وطموحات سياسية خاصة. أما وجهة النظر المعاكسة مضمونياً لهذه فتعتبر ممارسات الحكومات العراقية المتعاقبة منذ الاستقلال مجرد محاولات لحرمان الإقليم من المياه القادمة منه. فالباحث الكردي العراقي د. سليمان عبد الله إسماعيل، يعتقد أنَّ حلَّ القضية الكردية سيتأخر، وأنَّ العراق سيزيد من تشبثه بإقليم كردستان نظراً إلى بروز المياه في المنطقة وشرق البحر المتوسط كمورد هام واستراتيجي قد تفوق أهميته على البترول في المستقبل القريب، وبعد أنْ تأكد وجود النفط والغاز والمعادن فيه.
من الواضح أنَّ الباحث يصور الأمر وكأنَّ القضية الكردية هي قضية إقليم أجنبي بعيد احتله العراق قبل بضعة أيام أو أشهر، وها هو يتشبث به، وليس جزءاً صميماً من العراق، تسكنه منذ مئات السنين أقلية قومية كردية لها الحق في تقرير المصير كجزء من أمة أكبر، والأدلة لا تحصى على صحة الاعتقاد الثاني ومنها، أنَّ مواقع ومدناً كردستانية كثيرة تحمل جذوراً بابلية وآشورية ومنها مدينة «أربيل» عاصمة الإقليم، والتي تعني باللغة الآكادية «أربعة أيل» وقد فسرها بعض المتخصصين بـ«الآلهة الأربعة»، أو «أربى أيل» أي «فيض الله»، مروراً بالتاريخ المشترك والمتداخل لسكان العراق، وبتقديم المكون الكردي لعدد من القادة والزعماء البارزين في الحقبة الإسلامية ومن أبرزهم صلاح الدين الأيوبي محرر القدس ومعاصراه عماد الدين ونور الدين زنكي. كل هذه الحقائق التاريخية الصلبة تجعل من الصعب القبول علمياً بالتفكير الذي يصور الأمر على أنه يتعلق باحتلال العراق لكردستان ويضعه في سياقه الصحيح، أي بوصفه متعلقاً بضمان حق تقرير المصير لجزء من الشعب العراقي يشكل المكون القومي الثاني فيه، وهو الأمر الذي ينطبق الى حد معين على حالة أكراد سوريا. قضية أخرى لا يمكن القفز عليها في هذا الملف، وهي علاقة دولة العدو الإسرائيلي بكل ما يجري في العراق. إذْ إنّ هناك أدلة كثيرة على وجود علاقة مباشرة بين سياسات بعض القيادات الكردية وبين دور تدميري تطمح الدولة الصهيونية للعبه في هذا الملف، فإسرائيل لم تخفِ يوماً اهتمامها وتدخلها في الشأن العراقي، وقد تصاعد هذا التدخل بعد احتلال العراق. مسؤولون إسرائيليون كبار اعترفوا بذلك، وبأنَّ من مصلحة الدولة الصهيونية بقاء العراق ضعيفاً مشتتاً عبر تقويته مكوناته الداخلية وأطرافه الإدارية. ففي محاضرة له في أيلول /سبتمبر سنة 2008 قال وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي آفي ديختر إنَّ «إسرائيل لم تكن بعيدة عن التطورات فوق هذه المساحة ــ العراق ــ منذ عام 2003. وقد كان هدفنا الإستراتيجي ولا يزال عدم السماح لهذا البلد أن يعود إلى ممارسة دور عربي وإقليمي لأننا سنكون أول المتضررين». ويضيف ديختر أنَّ «العراق بأوضاعه الأمنية والسياسية والاقتصادية لن يسترد وضعه ما قبل 2003. وأن إسرائيل تستخدم كل الوسائل غير المرئية على الصعيد السياسي والأمني. نحن نعمل على تطوير شراكة أمنية وإستراتيجية مع القيادة الكردية رغم أنَّ ذلك قد يثير غضب تركيا الدولة الصديقة».
إن خطر اختراق العدو الإسرائيلي للملف الكردي في العراق، وربما في سوريا لاحقاً، لا يمكن التقليل من شأنه، وهو يضع على عاتق القوى الكردستانية التقدمية والديموقراطية قبل غيرها، مسؤولية رصده ومقاومته لأنه سيضر بالأكراد وقضيتهم قبل غيرهم، فالتاريخ لم يقدم لنا مثلاً واحداً على دولة تضطهد شعباً آخر كإسرائيل، وتطرده خارج وطنه ليعيش في مخيمات اللجوء، و في الوقت نفسه، تقدم الدعم المخلص لشعب آخر يريد التحرر وتقرير مصيره.
* كاتب عراقي