الطائرات تطير اذن... وتطارد وتقتل. الطائرات اخيراً في سيناء. لأول مرة بعد كامب ديفيد، الاباتشي يصطاد. لا احد يعرف من يصطاد وبناء علي اي خريطة، واذا كانت هناك خريطة، فكيف كانت مجزرة لجنود مصريين على الحدود مفاجأة؟ إنّه العبث نفسه الذي يعيد النكسة للذاكرة. ذهبت ارواح ضحية كائن خرافي نراه جميعاً ولا نستطيع الامساك به. قالت الدولة إنّها مؤامرة وعشاق التفسيرات المطمئنة بحثوا عن مدبر المؤامرة.
والشيء الوحيد الذي لم يحدث اننا لم نبحث عمن جعل المدبر ينجح في تدبيره. اين الاستخبارات التي توجد في حياتنا الشخصية والمسلسلات اكثر من وجودها في مكانها الطبيعي: حماية الحدود؟ اين الاستخبارات وهي المسؤولة عن الدولة لا الحكم والحاكم؟ اين قادة الجيش الاشاوس الذين ينتفخون وهم يفتتحون دورات مياه ويتكلمون عن وطنية لم نرها حينما قتل ١٦ شاباً مصرياً ساعة الافطار؟ هل هناك من يحاسب؟ هل سنعرف من المسؤول ام سنعيش تحت وهم المؤامرة الكونية الكبرى التي يتفرغ فيها العالم كله للعب في مصر؟
حماس... اسرائيل... ايران... الجهاد... الجن الازرق، او من يريدون تعطيل مشروع مرسي الذي لم تظهر له ملامح. هذه هي جهات المؤامرة المتداولة.
لماذا عادت الينا ذاكرة النكسة رغم اننا نسيناها لاول مرة منذ ٤٥ عاماً؟ وهذه السنة فقط لم تكن هزيمة يونيو ١٩٦٧ حاضرة كما كانت منذ تلك الظهيرة الساخنة وحرب الايام الستة التي سُميت تخفيفاً او نفاقاً: نكسة، لكنها كانت هزيمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ثقيل ومؤلم وقاس. الهزيمة تم تجاوزها عسكرياً بحرب كان عنوانها العسكري والشعبي «تحرير سيناء»، وعنوانها السياسي «تحريك» القضية التي كانت تصلبت عند مرحلة «اللاسلم واللاحرب». لكن المجتمع لم يتجاوز الهزيمة. ظل تأثيرها اقوى ومذاقها لم يمحه نصر اكتوبر. ومنذ خمس سنوات، اي في الذكرى الاربعين للهزيمة سألت: لماذا تأثير الهزيمة اقوى من النصر؟ هل عرفت مصر لماذا هزمت؟ هل عرفت من المسؤول عن هزىمة 67؟ عبد الحكيم عامر أم عبد الناصر؟ أم أنّه النظام كله؟ السؤال كان حاضراً رغم النصر. بل ان هزيمة يونيو حاضرة رغم قدرة الجيش المصري على تجاوز آثار الهزيمة العسكرية. هل انتصر الجيش على الجبهة واستمرت هزيمة المجتمع؟ ربما ادرك قادة الحرب دروس العبور من الهزيمة الى النصر، لكن كيف كان انعكاس النصر في المجتمع؟ هل سرق؟ هل استفاد المجتمع من النصر سوى من الأغاني. الأغاني هي حبوب منشطة لقوى مكسورة، ومنهكة وعاجزة. هل كنا نغني للنصر بينما الهزيمة تأكل أرواحنا وتشل حركتنا؟ لماذا بعد اكثر من ٣٩ سنة من النصر ما زالت الهزيمة ساخنة وطازجة؟ هي المسؤولة عن كل شيء: ارتفاع الأسعار والديكتاتورية وتوحش التطرف الديني، والفتنة الطائفية، وحتى العجز الجنسي. لماذا لم يمنح النصر قوة للمجتمع الذي انتصر؟ حتى اليوم لم تهتم جهة بإعلان المسؤولية عن الهزيمة. حامت التهمة على شلة الحكم وقتها، لكن لم يملك أحد الشجاعة لإعلان اسم المسؤول ومحاسبته.
حاول عبد الناصر إعلان المسؤولىة فردياً وعلى طريقة الفرسان، لكن الشعب تعامل بشكل عاطفي وخرج فى تظاهرات التنحي يطالبه بالاستمرار. كان المشهد عاطفياً: قائد مهزوم يعلن أنه مسؤول وحشود شعبية تخرج لتمسح العار عن زعيمها، ويسيطر عليها احساس اليتم، والتعاطف مع أب في لحظة ضعف.
أين الدولة؟ وماذا تفعل مؤسساتها؟ ألم تكن هناك قيم أكثر تأثيراً من هذه المشاهد الأقرب إلى البدائية؟ الغريب انّ إنجاز اكتوبر الأساسي هو شحن حيوية الدولة المهزومة. خرجت الدولة قوية. الرئيس السادات عاد بطلاً عسكرىاً وصاحب معجزات، لكنه أعلن فجأة ورغم النصر أنّ 99 في المئة من أوراق اللعبة فى يد أميركا.
واعتبرت هذه الجملة حجر الاساس في واقعية سياسية جديدة تنهي زمن الشعارات الرنانة. لكن غالباً واقعية السادات لم تتحرك خطوات ابعد من عاطفية عبد الناصر. دولة الاستبداد استمرت، لكن الفارق الوحيد أنّه بعدما كان المستبد عادلاً، تخلى عن العدل وترك المجتمع غابة الانتصار فيها للأقوى. جمهورىة الخوف استمرت، وذلك كان أساس الهزىمة. منع الخوف الناس من محاسبة المسؤول عن الهزيمة. ومنعهم من مواجهة قائد الانتصار وهو يقتله قبل أن يتحوّل إلى روح جدىدة تغيّر الدولة، وتردم شرخ الهزيمة. هزمتنا جمهورىة الخوف قبل أن تهزمنا إسرائيل. هذه الفكرة تستحق البحث الآن وبقوة. أجهزة الاستبداد حوّلت الحياة الى رعب دائم، وتحالفت تماماً مع وحوش الفساد، لتعود الدولة كلّها إلى الوراء. الدولة التي ارتبطت بحلم مغامرىن (من محمد علي الى جمال عبد الناصر) ظلت أسيرة المغامرة ولم تتحوّل إلى حقيقة تعبر عنها مؤسسات فوق الجميع. إسرائيل كانت حلم «عصابات» صغيرة مشردة فى العالم كلّه. لكنها ادركت انّها لن تستمر وتبقى في محيط سىظل يعاديها ويكرهها ويتعامل معها على أنّها «كيان غير طبيعي». ادركت انّها لا بد أن تكون دولة مؤسسات لا أحد فيها فوق القانون ولا المصلحة. لم نتعلم الدرس، ولم نحارب العدو بأسلحته، وتركنا الحلم يتسرب بطرىقة مثيرة للدهشة. نكتفي بالبكاء وحفلات لطم الخدود والشعور المتضخم بأنّ الهزيمة قدر لا يمكن الإفلات منه. لم نكن نتوقع سوى الهزائم، وإسرائيل المرعوبة والخائفة كانت ترعبنا وتخيفنا بشكل لم يستدع التفكير لكنه استدعى التواطؤ معها ضد مصلحتنا والاكتفاء بلعنها في السر.
لماذا عادت الذاكرة الحزينة؟ لماذا تبحثون عن شياطين في سيناء؟ انها ارادة تريد الذهاب الى النتيجة نفسها: جريمة الحدود ستنتهي في المتاهة بعد ان تكون قد ثبتت المسؤول اكثر في موقعه. من ارتكب الجريمة؟ هذا سؤال. ومن ساعد على نجاحها؟ هذا سؤال مختلف. لكن هناك من يحاول خلط السؤالين لاخفاء معالم الجريمة. هذا الخلط يؤدي في النهاية الى شيطنة اهل سيناء باعتبارهم مشاريع خونة، او شيطنة الفلسطينيين، على عادة نظام مبارك وصبيانه، باعتبارهم طامعين في احتلال سيناء. العقل يغيب هنا وتعلو المصالح ولا يعلى عليها. هذه ليست جريمة عادية يمكنها ان توضع في ماكينات الرد السريع عند الكتل السياسية. جريمة الحدود كاشفة كما كانت هزيمة يونيو. لكن السلطة وباحترافها الكبير غطت كل ما كشفته يونيو وتحاول الآن تغطية ما حدث في رفح. العملية يقصد بها اهانة الجيش المصري واظهار عدم كفاءته في حماية الحدود او مواجهة عصابة ارهابية. يقصد بها ايضاً اعادة الاتهام القديم الذي قامت عليه جماعات معادية للدولة الحديثة باعتبارها دولة خيانة وكفر. اعادة الخطاب ومن خلال صيحات الارهابيين «الله اكبر... ستموتون يا خونة...» على حد رواية الناجي الوحيد من المذبحة. وهنا لا بد من التوقف عند علاقة المال والعقيدة في الجريمة: انها لم تكن بالتأكيد من اجل مال او مجرد اداء وظيفة عادية لأن في العملية شقاً انتحارياً لا يحركه الا عقيدة. هل هي عقيدة جهادية ام تكفيرية (كما قالت الجماعة)؟ ام عقيدة خدمة اسرائيل كما يمكن ان نفهم من طريقة تربية فرق المستعربين في الجيش الاسرائيلي؟ ليس المال غالباً ولا المؤامرة بسيطة. انها عملية يمكن ان توجيهها عبر اختراق الاستخبارات (الاميركية او الاسرائيلية او حتى المصرية) لتنظيمات تقوم على غسل دماغ عناصرها وتوجيههم الى انّ طريق الجنة يمر من رفح. هذه العقلية لم تعد خطر الا بقدر ماهي خاضعة للاستخدام او للتوجيه عن بعد. لم تعد قادرة على التغيير السياسي، لكنّها اقرب الى عصابات «فرانشايز» تحت الطلب، وفوقها اللافتة النبيلة للجهاد او الموت في سبيل نصرة الدين. وهذه اوهام لا يصح معها ان نبحث عن شياطين في غزة او سيناء لأنّها مساحات الفشل الكبير في الادارة المصرية قبل الثورة وبعدها.
من الذي عزل سيناء واقام اسواراً غير مرئية بين اهلها وبين مصر؟ من الذي رسخ شعور الغربة لديهم، وبدلاً من اقامة مشروع تنمية، اصطاد مبارك اماكن لتقام فيها منتجعات ومدناً يشعر اهلها انهم خدمتها او ضيوفها؟ من الذي جعل غزة معزولة واسيرة؟ أليست هي الانانية المفرطة التي رسخها نظام مبارك؟
لا تبحثوا عن الشياطين في سيناء، ولا تنشروا خرافاتكم على جثة الشهداء. فلا هذا وقت الدفاع عن حماس، ولا تعليق الخيبات على شماعة اسرائيل. ولابد من اعتراف: هناك شرائح واسعة في مصر والعالم العربي تحب هتلر، وما زالت تبحث عن «هتلر منتظر» يلقي اسرائيل في البحر او المحرقة. البحث عن هتلر، وانتظاره، اضاع كل الطاقات الممكنة لبناء دول قوية لا تستهين بها اسرائيل او اي دولة في العالم. تأجل كل شيء في مصر والعالم العربي من اجل الحرب مع اسرائيل، وتضخمت اسرائيل الى حد اصبحت معه وحشاً مرعباً، تنفلت قوته، ويمارس بلطجته يومياً، ولا احد في مواجهته سوى تظاهرات تنتظر هتلر، وتنادي باعادة موقعة خيبر، وتتوعد اليهود بالموت. لم يشعر احد بالملل من هذه المسرحية الممتدة طوال اكثر من ٦٠ سنة. لم يتوقف احد ليعيد النظر في مقولات هذه «الحرب الكبرى»، وابطالها المنتظرين. لماذا لم يفكر العرب في صناعة دول محترمة بدلاً من انتظار ابطال يتحولون الى كوارث متحركة؟ البحث عن ابطال هو قدر الشعوب العاجزة والبائسة.
والشعوب العربية عاجزة وبائسة. وصورتها ليست اكثر من فلول ضحايا حرب كبرى. حرب لم تتم فقط على الجبهات العسكرية، ولكنّها على مستويات نفسية ووجودية حوّلت العرب الى كائنات خرافية خارج التاريخ. الجريمة فرصة لاعادة ترتيب المواقف والتخلص من لعنة انتظار هتلر، والتفكير في حل عادل للقضية وليس استعراض بطولات ومفاخر الشهداء. ابطال القضية اصبحوا اكبر من القضية. وفلسطين اختفت تحت رايات الفصائل والاحزاب وهتافات تستدعي الابطال اكثر مما تسعى الى استعادة فلسطين.
* من أسرة «الأخبار»