ما أشدّ وطأةَ الحرّ في معتقل وادي الناموس، لكن حرّاسَه فرحون، فالحياةُ عادت إليه بعدما «استضاف» نزلاءَ جدداً كثيرين. ليمُتْ بغيظه كلُّ من يريد إغلاق أبوابه نهائياً. ما سيكونُ حالُ هذه القفار من دونه، يا تُرى؟ صدق وزيرُ الدفاع الفرنسي السابق بيار مسمر عندما قال في 1997، حسب ما رُوي لهم، إنّ هذه القاعدة العسكرية، عندما كانت مركزَ تجارب للجيش الفرنسي، خلقت في المنطقة «بعضَ النشاط». حدِّث عن «النشاط» ولا حرج، بعدما حوّلتها الجزائر المستقلة إلى محتشدٍ يعجّ بمئات الآدميين.ما أسعد الحرّاسَ بمجيء «ضيوفهم» بعد أكثرَ من عقد ونصف عقد من عزلة قاتلة واجهوا خلالَها وحدَهم حرَّ الصحراء وبردَها وشبحَ المرض الخبيث، بسبب مخلّفات تجارب الأسلحة الكيماوية التي أجرتها فرنسا طيلةَ عقود في هذا المكان بالذات. انتظروا هذا اليومَ المباركَ منذ 1996، عندما أُفرغ المعتقل، دون سبب وجيه، من نزلائه الإسلاميين. كادوا أن ييأسوا من أن يروه يَعْمر بمجموعات أخرى من المعارضين، على الدولة أن تعيدهم إلى الطريق القويم. كادوا أن يفقدوا الأملَ، لكنْ «مكتوبٌ» لوادي الناموس، على ما يبدو، أن يبقى حيّاً على الدوام. ظلت فرنسا تستعمله سرّاً لتجريب أسلحتها «غير التقليدية» حتى 1978 (أي ستّ عشرة سنة بعد الاستقلال) وفي 1992، «استقبل» المئات من كوادر جبهة الإنقاذ الإسلامية إثر حلِّها، وها هو «يستقبل» اليوم «أعداء الأمة» الجدد. وهكذا دواليك، إلى آخر الزمان.
الحرّاسُ سعداءُ بانتهاء عزلتهم، لكنّهم متعجبُّون: هل تغيّر شكلُ «أعداء الأمة» إلى هذا الحد في أقلَّ من عقدين؟ لماذا لا يهتفون، كمعتقلي التسعينيات، «الله أكبر، عليها نحيا وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد»؟ ولماذا أغلبُهم لا يصلّون؟ غريبٌ في هذا الخلاء ألا يرفعوا عيونَهم أبداً إلى السماء؟ هل الدّين في طور الاندثار في جزائر الشمال؟
ليس عدمُ تديّن المعتقلين سببَ ذهول الحرّاس الوحيد. «أعداء الأمة» الذين جيء بهم إلى وادي الناموس بعد إلغاء فوز جبهة الإنقاذ بانتخابات 1992 كان لهم أميرٌ واحد وحيد. أما هؤلاء، فما أكثر أمراءَهم: حسين آيت أحمد، أحدُ قادة الثورة الجزائرية وأهمُّ قادة المعارضة بعد الاستقلال، و«الدكتور»، واسمه الحقيقي سعيد سعدي، وآخران غيرهما يتناديان «يا رفيق» وإن كانا يُكنّان أحدُهما للآخر بغضاً لا حدود له. جميعُهم أنهكتهم مسؤولياتُ الزعامة التي يمارسها بعضُهم منذ أكثر من نصف قرن، لكن أتباعَهم يطيعونهم طاعة عمياء: هذه إحدى نقاط الشبه القليلة بينهم وبين الملتحين. قلّةٌ قليلة لا تذعن لأيّ زعيم تسمّي نفسها «المستقلين»، ما يحيِّر السجانين أشدّ الحيرة: «مستقلون» عن ماذا في هذا الفضاء الصحراوي الممتد؟
لم يفهم كل هؤلاء «الديموقراطيين»، يقول مسؤولو المعتقل، «متطلبات المرحلة» التّي حتمت على السلطة التأسلم لاتقاء شر خصمها التاريخي، الإسلاميين. استمرّوا يطالبون، كل حسب ما يمليه عليه هذيانُه، بـ«التغيير» و«العلمانية» و«العدالة الاجتماعية» و«فتح ملفات الحرب الأهلية». جيء بهم إلى وادي الناموس، لا لمعاقبتِهم ـــ معاذَ الله، فـ«الجزائر تتسع لكل أبنائها» كما يعلم الجميع ـــ بل لتأديبِهم وإفادة الأمة من طاقات يهدرونها في انتقاد القادة بدل إعانتهم على تحقيق سعادة الشعب ورخاء البلاد. أيظنّون أنّ الجزائر هي مصر أو تونس أو اليمن؟ ألا يدرون أنّها دولة إسلامية وإن سمّت نفسَها «الجمهورية الديموقراطية الشعبية»؟ أيتناسون أنّ الجزائريين أحسنُ حالاً من أمم كثيرة لا يترك لها حكّامُها حتى بعض ما يسقطُ من فتات موائدهم؟ وما ضرورةُ فتح «ملف مفقودي الحرب الأهلية» بعدما أغلقَه ميثاقُ السلم والمصالحة الوطنية في 29 سبتمبر/ أيلول 2005؟
رغم اتّفاقِهم على أشياء كثيرة كـ«الحريات الديموقراطية» و«حقوق النساء» ورغم ما يقاسونه كلُّهم من تنكيل، يُمضي النزلاء الجدد معظمَ وقتهم متناحرين في ما يسمونها «نقاشات سياسية» تزيد خلافاتِهم اتّساعاً بدل تقليصِها، ويُتوَّج بعضُها بمواجهات دامية. لا وجه لمقارنتهم بالملتحين الذين كانوا يتكلمون بصوت واحد. أتباعُ «الدكتور»، مثلاً، لا يطيقون أن يذكّرَهم أتباعُ حسين أيت أحمد بأنّ زعيمَهم لم يدن في حينه «معتقلات العار» حين فُتحت للإسلاميين في 1992، فيردّون: «تذوّقوا، يا معشرَ جبهة القوى الاشتراكية، عدالةَ الأصوليين. أفنيتم أعمارَكم مدافعين عنهم باسم حقوق الإنسان وها هم اليومَ في السلطة يؤسلمونها، وها نحن معكم في المحتشد». لا يفهم الحرّاسُ شيئاً من هذا الجدل المحتدم: أليس سعيد سعدي وحسين آيت أحمد كلاهما أمازيغي؟
يعاني الحراسُ مشاكل تواصل حقيقية مع ضيوفهم الغريبي الأطوار. كانت علاقاتُهم بالملتحين أسلسَ بكثير، فالملتحون لا يتكلمون غيرَ العربية ولا يتفوهون سوى بأشياءَ بسيطة عن الله والرسول ويوم القيامة، فيما يصمّ هؤلاء المعارضون الآذانَ بخطب لا تنتهي عن «الديموقراطية» و«العدالة الاجتماعية» و«حرية الاعتقاد» و«حقوق الأقليات اللغوية». جواسيسُ الإدارة لا يفهمون عُشر ما يسمعون منهم، ما يجعل تقاريرَهم غيرَ وافية وغير مفيدة تقريباً. مثلاً: أنصارُ حسين آيت أحمد يُمضون وقتَهم في الصراخ: «لا للتصويت». تصويت في وادي الناموس: أيعقل هذا الكلام؟ أنصارُ «الدكتور» يختمون اجتماعاتهم صائحين «من أجل جزائرَ حرّة ديموقراطية». جزائر ديموقراطية: ما هذا الهذيان؟ أما لغة أنصار «الرفيقين»، فأكثرُ إبهاماً بكثير. بعضُهم يهتف، حالَ النهوض من النوم، «ليسقط النظام الريعي البيروقراطي»: يعرف كل الجزائريين بالفطرة معنى «بيروقراطي»، لكن ما معنى «ريعي»، يا ترى ؟ البعضُ الآخر من الرفاق لا يملّ الحديث عن «البرنامج الانتقالي» و«الثورة الدائمة». أولئك التروتسكيون، يقول مسؤولو المعتقل، وقد وجب الحذرُ منهم لأنّهم اختصاصيو «اختراق» التيارات الأخرى، ما يعقّد كثيراً عملَ المخبرين.
ما أشدّ استغرابَ الحراس وهم يكتشفون مؤنسي وحدتِهم وعالَمهم الموازي الذي لا يشبه أيَّ عالم عرفوه، لكن ما أهمية ذلك؟ كلُّ ما يعنيهم، هم خُدّام النظام، أنهم يستضيفونَهم لمدة غير قصيرة. فمبدأُ الحكومة، على ما يقول رؤساؤُهم، ألّا تتفاوضَ مع غير المسلحين، و«أعداءُ الأمة» الجدد، عكسَ أعدائها في التسعينيات، لا إخوةَ لهم في الجبال يشترطون مقابلَ كل «هدنة» إغلاقَ معتقل وادي الناموس.
* صحافي جزائري