لسبب لا أفهمه تماماً، بدا لكثيرين في المنطقة أنّ ما يحدث في مصر إنما ينحصر في حدود ميدانها (ميدان تحريرها) فحسب. الآن ندفع غالياً ثمن هذا العجز عن فهم الدينامية التي تحكم الحراك في المنطقة، وتدفع به إلى اتجاهات يندر أن تجد من يهتم بتفكيكها في الوقت الراهن. فأمر اليوم هو أن يبقى التركيز على التناوب الشكلي بين سلطة مافياوية آفلة وأخرى صاعدة. ومسرح الاثنتين هو المركز فحسب. أما الأطراف التي سحقتها النظم المجرمة العميلة، فسيأتي أمر الاهتمام بها لاحقاً. كلّ النقاشات التي تتناول المماحكات الدستورية الفارغة في مصر وتونس تصبّ في هذا الاتجاه. أصلاً، لا يمكن أن نتوقع من سلطة تحرس الامتيازات الطبقية وترثها عن سلطة أخرى أن تعطينا أكثر من هذا الحيّز. وبالفعل استحقّت النخب التي مارست الوصاية على الحراك الشعبي ما غنمته من السلطة. هي راضية بالحيّز ذاك ومرتاحة إلى تقوقعها داخله. لكن ماذا عن هؤلاء الذين تحرّكت باسمهم في ميادين التحرير، وأعلنت باسمهم أيضاً «إسقاطها للنظم التي سحقتهم»؟ الأرجح أنّ الإشارة الأولى على خروج هؤلاء عن النص قد أتتنا من سيناء ومن... سيدي بو زيد أيضاً. لم تندلع انتفاضة جديدة في سيناء، ولا يبدو أنّ سكّانها من البدو العرب في وارد ذلك، أقلّه في المدى المنظور. كلّ ما حصل هناك أن أهلها قد ضاقوا ذرعاً بتهميشهم وبإخراجهم من السرديات جميعها: سردية الوطنية المصرية، سردية الثورة، سردية الأهلية للمواطنة... إلخ. لم يحصل قطّ طوال الفترة التي أعقبت إسقاط مبارك أن سلّط الضوء جدياً على المغزى الفعلي من تكرار عمليات تفجير خط الغاز المصري في سيناء. وإذا ما حصل وقارب أحدهم الموضوع فمن باب رفع العتب ليس إلّا. ثمّة مشكلة منهجية في ذلك. فأنت كمحرّر أو كناشر صحيفة «تحار» في ما إذا كان ممكناً إفراد حيّز أكبر لخبر مماثل. طبعاً مصلحة رأس المال تقتضي العكس وكذا الرغبة في إبقاء الجدل السياسي عند حدود سياسويته فحسب. يفهم من ذلك أنّ المسموح به فقط هو إفراد حيّز ضئيل جداً من التغطية للخبر، ثم الانسحاب تلقائياً إلى الحدود المتعارف عليها والمسموح لنا بتغطيتها «كيفما نشاء» وبإسراف زائد عن اللزوم أحياناً. عندما تعتاد الصحافة (عن أي صحافة نتحدث؟) ممارسة أنماط مماثلة من الدّجل والتعاويذ الإعلامية، يجب ألا تفاجأ كثيراً بالسلطة المافياوية وهي تسوقها سوقاً إلى كرنفالات العودة إلى الحدود، والذّود عن حياض الوطن! من يتابع كيف غطّت الصحافة المصرية أخبار قتل الجنود المصريين في سيناء، فلا بدّ من أن تكون قد وصلته خلاصات أولية عن ماهية «التغيير» الذي حصل في مصر، وعن صيرورة هذا «التغيير» وهماً تلوكه النخب فحسب. والاستثناء الذي مثّلته تغطيات صحافية رصينة ومزعجة للسلطة كتغطية البديل اليسارية تؤكد القاعدة ولا تنفيها. والقاعدة اليوم تقول بأن الرواية المسموح بها هي تلك التي لا تطاول شكل العلاقة الممكنة بين المركز والأطراف في ما لو انفجرت تلك الاطراف، وأخذت معها كل شيء. ولأن سيناء اليوم على وشك الانفجار (تماماً كما انفجرت درعا الحدودية من قبل) فمن غير «اللائق» أن نتورّط في تفجيرها، ولو على مستوى المواكبة التحليلية أو الخبرية! سيعتبر هذا لو حصل تجاوزاً للخطوط الحمراء وخروجاً غير مبرّر عن النص الذي لا يتعامل مع الأطراف إلا بمنطق النافل والفائض عن الحاجة. طبعاً أذعنت معظم الصحف المصرية «المستقلة» (الاستقلالية هنا لا تطاول منطق العمالة لرأس المال الكومبرادوري المتحالف مع السلطتين الفاشيتين الدينية والعسكرية) للأمر، وجارت السلطة الفاشية في إمرار ما تعتقد أنّه «هيبتها» في سيناء، من دون أن تسأل حتى عن ماهية هذه «الهيبة»، ولا عن شكلها الذي بدا كاريكاتورياً إلى أبعد الحدود. فمرّة يرتدي زيّ هجمات جوية خلّبية، ومرة أخرى يظهر كما لو كانت الغاية منه هي إرهاب السكّان فحسب. سكان لا يظهر من بينهم إرهابيون يقتلون جنوداً يتأهّبون للإفطار إلا عندما تسهو سلطتهم عن ذلك، وتترك لإسرائيل وحدها فعل اليقظة وإجلاء رعاياها من هناك قبل يومين من وقوع المذبحة! طبعاً لا يعدو هذا كونه تفصيلاً في مجمل المشهد الذي أجبرتنا أحداث سيناء على مواجهته، وعلى معاينته من موقع من يشعر بأنّ لغماً أرضياً قد انفجر فيه من دون أن يدري. تعالوا نفصّل قليلاً في تفاصيل هذا التلغيم الذي بدا أنّ للسلطة الجديدة في مصر يداً فيه. تقول صحيفة البديل الإلكتروني في تحقيق أجرته عن عمليات الجيش المصري في سيناء عقب اغتيال الجنود المصريين ما يأتي: «... وأثارت أربع ضربات جوية متتالية الهلع في صفوف سكان مناطق الشيخ زويد ورفح... ولم تسبب الضربات الجوية بالصواريخ حسب رواية خالد زايد أحد المواطنين في المنطقة حصول خسائر في منطقة صنع الدعيسى شرق الشيخ زويد بينما الصواريخ الأربعة الأخرى لم تصب أهدافاً وسقطت في منطقة خلاء». الانطباع الأولي الذي تتركه هذه السطور هو أن الذراع العسكرية للسلطة في مصر قد باشرت للتو في عملية تأديب «البيئة الحاضنة» لمسلحي سيناء. حتماً لا مكان في مواجهة هذا الفعل العسكري للسفسطة والخوض في نقاشات تطاول مسؤولية حكم كامب ديفيد الخياني عن إيصال الأمور في سيناء إلى ما وصلت إليه. وحتى لو توافرت فعلاً الرغبة في مباشرة نقاشات مماثلة، فستصطدم حكماً بحواجز عديدة ليس أقلّها النية الدنيئة في أن يكون النقاش بمعيّة السلطة الفاشية وتحت إشراف إمّعاتها المنتشرين في الصحافة كالفطر. بإمكاننا أن نرى أمثلة حيّة عن ذلك في الكلام الذي بدأت تنشره الصحافة العميلة لرأس المال عن إمكانية تعديل بعض بنود اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل. لا أدري حقّاً إذا كان من يروّج «للتعديلات» تلك في الصحافة مدركاً لمدى التطابق بين منطقها ومنطق التعزيزات العسكرية المصرية التي سمحت إسرائيل بإدخالها إلى سيناء لكي تقوم بالعمل القذر نيابة عنها وعن استخباراتها المشغولة بأمور أكثر أهمية! ليس من السهولة طبعاً أن يلقى هذا المنطق صدى لدى شارع مصري غاضب، ورافض حتى اللحظة تحميل سلطة كامب دايفيد القائمة أي مسؤولية تذكر عن الدماء التي أهرقت على الحدود في سيناء. بل على العكس من ذلك حيث تتعاظم الرغبة لدى قطاعات عريضة من المصريين في التماهي مع إجراءات الجيش في سيناء، ومع روايته لما حدث هناك. ولا تبدو هذه القطاعات الشعبية الغاضبة مهتمة بسماع وجهة نظر تحاول أن تبدو محايدة و«موضوعية» في نقلها لما يجري حقّاً في تلك البقعة، ولما يحاول الجيش أن يطمسه تحت حجج وعناوين مختلفة. وهذه مشكلة جدية يتعيّن معالجتها قبل أن تتفاقم، وقبل أن تتزايد ميول أصحابها إلى مصادرة أي رواية لا تجاري رغبتهم في شحن العواطف المتفاقمة بالمزيد منها. ومن هذه الروايات طبعاً رواية البديل اليسارية للأمر. هذه الأخيرة أوردت مثلاً في سياق سردها المستمر لما جرى في سيناء تفاصيل إضافية، وتقول: «... وقال محمد عقيل صاحب منزل تضرّر من جرّاء القصف في منطقة الجورة إنّه سمع صوت تحليق المروحية العسكرية في تمام الساعة الثانية والنصف فجراً فوق المنطقة... يقول عقيل إن زوجته وأطفاله أصابهم الرعب الشديد من أصوات القصف، ورغم ذلك تمنيت أن تصيب الصواريخ أولئك الذين قتلوا الجنود المصريين في رفح، لكنني فوجئت أن أحد الصواريخ أصاب سور منزلي وسور جاري أيضاً». ويتساءل عقيل: «ماذا كان سيحدث لو سقطت الصواريخ على بيتي؟»، ثم يضيف أنه تحرك في الصباح ليشاهد آثار القصف في المنطقة، لكنه لم ير أي جثث أو صواريخ محترقة. ثمّة تشابه مذهل بين التفاصيل التي أدلى بها هذا المواطن لمراسل البديل المصرية والتفاصيل التي يعيشها سكان المناطق السورية يوماً بيوم منذ قرّر الجيش هنا بدء عملياته العسكرية داخل الأرياف والمدن. هنالك في الأفق ما يشير إلى بداية انزلاق أطراف مصر الحيوية إلى القعر الذي استقرت فيه سوريا منذ فترة. والمسؤول عن هذا الانزلاق وعن تبعاته الكارثية هو المنطق السياسوي الذي همّش معاناة تلك الأطراف (ماذا عن النوبة أيضاً؟)، وتركها تنفجر تحت وطأة انهماكه بتكريس امتيازات جناحي الطبقة السياسية العميلة الديني والعسكري. اليوم يدفع الإخوان المسلمون ثمن انشغالهم عن سيناء، وعن معاناة أهلها من كيسهم، ومن رصيدهم الشعبي المتآكل. الشعارات التي رفعت ضدهم أثناء تشييع الجنود تقول ذلك (يسقط يسقط حكم المرشد، قالها ناصر من زمان: الإخوان ما لهمش أمان... الخ) وكذا غياب مرسي عن التشييع. في المقابل يظهر من تصرّفات الجيش ومن التصاق قطاعات شعبية متعاظمة به وباستعراضاته العسكرية الفارغة في سيناء أنه قد كسب هذه الجولة. وفي الأثناء تستمرّ معاناة الأطراف التي سحقها نظام كامب دايفيد الطبقي العميل، من دون أن تظهر أية إشارة على وجود ضوء في آخر النفق، إلا إذا اعتبر بعض الواهمين أنّ التعديلات المقترحة على اتفاقية كامب ديفيد هي كذلك حقاً! «كل ما شاهدته هو آثار القصف على سور منزلي... القصف كان عشوائياً... ضربوا ما لديهم من ذخيرة ورحلوا». هذا ما يقوله مواطن «سيناوي» آخر للبديل اليسارية. هو لا يقصد بكلامه مسلحي سيناء ولا قتلة الجنود المصريين، إلا إذا كان البعض يعتقد أنّه يقصدهم حقاً! على الذراع العسكرية لنظام كامب ديفيد أن تدقّق جيداً في ما قاله هذا الرجل، أقله حتى لا تبدو أنّها المقصودة بهذا الكلام هي وغطاؤها السياسي الإخواني، وحتى لا يظهر المصريون مجدداً بمظهر من يتعلّق بحبال الهواء.
* كاتب سوري