هناك ما لا يستقيم في الشرح: «حكومة النظام السوري في لبنان» تلقي القبض على حليف النظام السوري الأوّل في لبنان. أو لنقل قياساً إنّ «حكومة حزب الله» تلقي القبض على حليف وثيق لحزب الله. هل ننتظر أن تلقي «حكومة حزب الله» القبض قريباً على قادة حزب الله في ليلة ليلاء؟ هل اكتشف حزب الله للتوّ أنّه ذهب بعيداً في تصديق دعاية الخصم أنّه بالفعل يسيطر على أزمة الحكم في لبنان؟ وميشال سماحة، حليف النظام السوري الأوّل في لبنان _ أو من الأوائل _ يقبل بالانخراط في سيناريو مؤامرة لا يفيد إلا أعداء النظام السوري في لبنان. وعلي المملوك، الذي يفترض أن يكون من قادة الاستخبارات السوريّة المخيفين، يعتمد في مؤامرة تفجير على رجل لا خلفيّة عسكريّة أو استخباراتيّة له؟ لكن، من قال إن النظام السوري يفتقر إلى الغباء ومساعدة الخصوم والأعداء؟ (يكفي أن تعرف أن بشّار الأسد اختار لرئاسة حكومته رجلاً كان مرتبطاً بالمعارضة ساعة تكليفه). ومن قال إنّ ما نُشر عن عمليّة سماحة وعن دوره فضح كل عناصر المؤامرة وأدوار لاعبيها؟ وهل كان سماحة ضحيّة مؤامرة إيقاع في الفخ _ كما يسمّونها هنا في أميركا _ أم كان هو واحداً من لاعبيها؟ الأجوبة، مثل الأجوبة عن كل ألغاز الحرب الأهليّة، تتوقّف على هويّة السائل والمُجيب.أصيبت الطبقة السياسيّة في لبنان إما بالحبور أو بالشلل هذا الأسبوع، طبقاً لموقع الفرد في هذه الخانة أو تلك. «فرع المعلومات» سرّب «معلومات» غاية في الخطورة، عن مخطّط إرهابي فظيع يتضمّن رمي متفجّرات في مواقع حشود مُعارضة للنظام السوري في لبنان. لم يتضمّن سيناريو «الفرع» معلومات عن تهريب أسلحة كيميائيّة أو نوويّة إلى فايز شكر، لكن تطوّرات القضيّة متسارعة. وبطل القصّة هو ميشال سماحة، القريب جدّاً من مواقع القرار في النظام السوري. والقصّة، لو صحّت، لا تحتمل التأويل أو الترجيح: إنها تتضمّن مخططاً خبيثاً لتفجير الفتنة الطائفيّة ودفع بلد متأهب دوماً إلى أتون الحرب الأهليّة. الخطة لا يمكن إلا أن تكون موضع استنكار وتنديد واستفظاع واحتقار لمن حاكها ولمن قبل أن يكون ضالعاً فيها، ولمن يحاول استغلالها لأغراض سياسيّة وطائفيّة. من المؤسف أنّ داعمي سياسة النظام السوري في لبنان لا يتوانون عن الدفاع عن تلك السياسات حتى لو صحّت رواية «فرع المعلومات» عن المؤامرة. لكن وراء الرواية تسريبات من فرع بات في مرتبة فوق الدولة والحكومة والمحاسبة.
«فرع المعلومات» جزء من إفراز طبيعة النظام اللبناني بعد «الطائف». إن تعديل المادة 95 من الدستور اللبناني القديم أمعن في ترسيخ الطائفيّة في كل أعضاء الدولة اللبنانيّة وأقسامها وشبكاتها، وعليه بات لكل طائفة «محترمة» _ لأنّ هناك طوائف غير مُحترمة وغير مُعتبرة في لبنان _ جهاز استخباراتي خاص بها. لكن علاقة الطائفة بالجهاز الاستخباراتي أقوى في حالة «فرع المعلومات» هذا. فاستخبارات الجيش اللبناني تحاول أن تراعي خواطر أكثر من طائفة، وجهاز الأمن العام لم يستطع أن يبقي شادي المولوي رهن التحقيق، والطوائف الأخرى لا استخبارات لها إلا بما تجود به استخبارات خارجيّة ترتبط بها. يتمتّع «فرع المعلومات» بما لا يتمتّع به غيره من أجهزة الاستخبارات في الدولة: هو فرع خاص بعائلة الحريري، وله مصادر تمويله الخاص والسرّي، خارج نطاق موازنة الدولة اللبنانيّة. وعلاقة الفرع بالحكومات الغربيّة والعربيّة لا تمرّ عبر مجلس الوزراء، ولا عبر وسائل الإعلام.
طبعاً، اعتمدت عائلة الحريري (بالنيابة عن رعاتها في الغرب وفي الخليج) على ميليشيات خاصّة لمواجهة حزب الله _ بالنيابة عن إسرائيل بعد تحرير معظم الجنوب (لكن وليد جنبلاط طلع بنظريّة جديدة مفادها أنّ التحرير لا يجوز بغياب الترسيم _ كان على المقاومة الفرنسيّة ضد الاحتلال النازي أن ترسّم الحدود مع ألمانيا قبل أن تقاوم). وقد فهم سعد الحريري المهمّة الموكولة إليه عشيّة اغتيال والده عندما صارح «ليلي ويميث» في «واشنطن بوست» بمهمته وقال لها إنّه سيقوم هو _ آه يا سعد يا قبضاي في المنفى _ بـ«نزع سلاح حزب الله» (نشرت «المستقبل» ترجمة حرفيّة للمقابلة، باستثناء تلك العبارة). وانتشرت الميليشيات الطائفيّة تحت عنوان الشركات الأمنيّة الخاصّة. وتكفّلت السعوديّة دفع كل نفقاتها، بما فيه نفقات الوجبات اليوميّة الثلاث (كما اعترف سعود الفيصل في حديث مع أمير قطر)، إلى أن فرّ كل أعضاء تلك الميليشيات مذعورين بوجه أفراد من عناصر حركة أمل في مدينة بيروت. السيناريو الآخر كمن في تعظيم دور «فرع المعلومات».
والخطة تواءمت مع مشكلة كون حزب الله صدّق تصريح وليد جنبلاط عن تحوّله السياسي وعن إعلانه الندم، كما صدّق وسطيّة رئيس الجمهوريّة، كما صدّق أنّ نجيب ميقاتي هو خير من يقود حكومة مقاومة. لكن طموحات نجيب ميقاتي الانتخابيّة والسياسيّة تعارضت مع مشروع حزب الله في معاقبة من كان مسؤولاً عن جرائم مرحلة سابقة. لم يختر الحزب أسامة سعد أو عمر كرامي أو غيرهما ممن يستطيع أو يرغب في مواجهة الحكم السعودي ومخططاته الإسرائيليّة في لبنان. وقع قرار الحزب مع رأي نبيه برّي وجنبلاط على نجيب ميقاتي الذي يرى منذ سنوات في المذهبيّة فرصة للنهوض السياسي لمن يفتقر إلى مقوّمات الزعامة. لم يرد ميقاتي أن يمسّ بتعيينات الحريريّة في الإدارة لأنّه _ مثله مثل وليد جنبلاط _ يعيش أيّامه أمام الهاتف بانتظار موعد ولو عاجل مع الملك السعودي (من المعلوم أنّ آل سعود يغدقون على كل رئيس وزراء جديد في لبنان مبلغ 20 مليون دولار. وعندما تلقّى ميقاتي المبلغ رفضه بعذر ثروته الطائلة، لكنّه طلب في المقابل أن يحظى سنويّاً بلقاء وإن وجيز مع الملك السعودي أثناء تأديته للعمرة). وهكذا أبقت السعوديّة أشرف ريفي ووسام الحسن في موقعهما، بصرف النظر عن معارضة الحكومة لهما.
و«فرع المعلومات» بات جهاز ميليشياوياً شرعياً في لبنان ولا علاقة له البتّة بالمقاومة. قل إنّه السلاح الشرعي والمشروع والخارج عن سيطرة الدولة. لو أنّ الدولة هي التي تسيطر عليه، لكان بمستطاع ميشال سليمان أو مروان شربل أو زياد بارود السيطرة على أشرف ريفي ووسام الحسن، اللذين بقيا خارج أي سيطرة داخل الحدود. وعلاقة الفرع بأجهزة استخباراتيّة غربيّة ترعاه وتربّيه (كما أشرفت الاستخبارات الأميركيّة على خلق الاستخبارات الأردنيّة والسافاك من قبل، ورعايتهما) يطرح أسئلة جديّة عن حقيقة اكتشاف الفرع لعملاء إسرائيل في لبنان. هل اكتشف الفرع عن حق عملاء لإسرائيل، أم أنّه اكتشف من استُنفد دوره؟ هل كانت الاكتشافات مسرحيّة من أجل إسباغ شرعيّة على عمل الفرع من قبل حزب الله؟ لكن، هل تقبل أميركا (الراعية الحقيقيّة للفرع ولأشرف ريفي) بأن يتعرّض عملاء إسرائيل في لبنان للانكشاف والمعاقبة؟ وهل العقاب الخفيف الذي يطال كل عملاء إسرائيل في لبنان يخفي ضلوعاً أميركياً في تخفيف العقاب؟ هذه ألغاز.
أدخلت الحريريّة السياسيّة إلى لبنان استهتاراً بالسيادة اللبنانيّة في كل وجوهها من دون استثناء بصورة لم يعرفها لبنان إلا في عهد الانتداب والاحتلال وسيطرة النظام السوري (والحريريّة تعاونت مع الطرفين الأخيرين). الحريريّة تحوّلت إلى مجرّد ذراع لمؤامرة أميركيّة _ إسرائيليّة فاقت في خدماتها خدمات الثنائي شمعون _ مالك في 1958 وخدمات حزب الكتائب اللبنانيّة في سنوات الحرب. و«فرع المعلومات» نموذج لتفتيت الدولة وأجهزتها على يد رفيق الحريري، ويخطئ من يظن أنّ مشروعه كان مشروعاً لبنانيّاً. مشروع رفيق الحريري كان مشروع اختراق الدولة في كلّ أجهزتها ولمصلحة فريق خارجي متحالف مع العدوّ الإسرائيلي _ وينطبق هذا أيضاً على مشروعه الاقتصادي.
من المُستبعد أن يقوم جهاز، كالأمن العام مثلاً _ وهو خاضع افتراضيّاً لحزب الله أو حركة أمل أو للاثنين معاً _ باقتحام منزل خالد ضاهر حتى لو وجد فيه ترسانة هائلة من الأسلحة والمتفجّرات. طبعاً، الهويّة السنيّة والشيعيّة هي التي تحدّد قدرة جهاز أمني على اعتقال شخص. هذا يذكّر بحكومة سليم الحص في عهد إميل لحّود، وكيف قرّرت أن تحارب الفساد باعتقال نائب أرمني، فيما كان ميشال المرّ موجوداً في حكومة محاربة الفساد تلك (أذكر أنني سألت سليم الحصّ عن الأمر آنذاك، وأذكر أنّه قال لي باقتضاب إنّ «قوى إقليميّة» أرادت توزير المرّ وإنّه لم يكن مُحبّذاً لذلك).
«فرع المعلومات» ظاهرة مُرشّحة أو محتّمة في الانتشار. هي نموذج التفسّخ الطائفي لكل مكوّنات الدولة اللبنانيّة. ووليد جنبلاط رائد في تجربة الإدارة الطائفيّة في الجبل (كلمة «مدنيّة» يستعملها الطائفيّون في بلادنا للتستّر على أغراضهم ومراميهم الطائفيّة والمذهبيّة). و«فرع المعلومات» ينمو من دون حسيب أو رقيب، وبات له مظليّوه أيضاً، وقد يقتني له المخطّط الإميركي _ الإسرائيلي لاحقاً سلاح طيران من أجل ضرب المخيّمات الفلسطينيّة. والتفسّخ الطائفي والمذهبي في بنية الدولة هو في بعده الآخر فتح لسفارات أجنبيّة (ولاستخباراتها) داخل جسم الدولة. لا يستقيم حكم الطوائف دون رافعة خارجيّة. لكن ظاهرة تشكيل ميليشيا طائفيّة مذهبيّة خارج نطاق الدولة (وقد تحدّث أحمد فتفت عن الغرض الطائفي من ورائها في مقابلة غير منشورة مع مندوبة «لوس أنجلوس تايمز» السابقة في لبنان، ميغن ستاك، التي أخبرتني بفحوى حديث فتفت الطائفي _ المذهبي _ لكن الرجل، مثله مثل سائر أركان 14 آذار والإخوان المسلمين في سوريا، يريد «الدولة المدنيّة»).
وتشكيل ميليشيا «فرع المعلومات» لم يكن بعيداً عن المخطط الإسرائيلي _ الأميركي في لبنان لضرب حركة المقاومة بشتّى الوسائل. وعندما فشل عدوان تمّوز في تحقيق أهدافه، تغيّرت الوسائل وبقي الهدف واحداً. استدرجوا الحزب إلى نزاع داخلي، ثم استخدموا استدراجه في 7 أيّار كي يطالبوا مجدداً بنزع سلاح الحزب، وكأن سبب مقاومة الاحتلال والعدوان يزول بزوال الإجماع حول المقاومة _ وكأن حركة مقاومة واحدة في التاريخ حظيت بالإجماع الشعبي.
إن الصراع في لبنان _ والذي يصرّ آل الحريري وأسيادهم في الشرق والغرب على جعله طائفيّاً _ سيستمر، وسنسمع بفصول من مسرحيّات بعضها حقيقي وبعضها مختلق، وبعضها نسيج من هذا ومن ذاك. وسيحقّق هذا الفريق ضربة، والفريق الآخر ضربة أخرى. لكن فريق 14 آذار يلعب لعبة أكبر منه _ وهي بالتأكيد أكبر من إمارة الشوف _ وسترتدّ عليه لأنه أفرط في استفزاز حزب الله إلى معركة حاول أن يتجنّبها. وحفلة 7 أيّار المقبلة تبدو جزءاً من مخطط رعاة 14 آذار، لكن مضاعفاتها ستكون أكبر من اتفاق الدوحة بكثير، ولغير مصلحة جامعة الأمير نايف للعلوم الأمنيّة.
ليس هناك من إمكان لنسج مشروعيّة تاريخيّة لـ«فرع المعلومات». يبقى مشروعاً مذهبيّاً مرتبطاً بتدخّل خارجي سافر في الشأن اللبناني، ويبقى تعبيراً عن التفسّخ الطائفي في جسم الدولة. هو نقيض المقاومة بالمحصّلة، وإن تلقّى مساعدة مباشرة من دول قويّة ومساعدة غير مباشرة من دول غير قويّة (عدوّة له) يتّسم أداؤها بالغباء والإجرام.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)