يشبه حال الطائفة الشيعية السياسي أحوال الطوائف الأخرى، لكونها تدور مثلها في فلك النظام السياسي الطائفي، تخضع لشروطه وتعتمد آلياته وتصل إلى الخلاصات نفسها. عزز هذا التشابه إدارة المرجعية السياسية السورية للشأن اللبناني على قاعدة محاولة تكريس أحادية ميليشياوية صاعدة أو إقطاعية متجددة انطلاقاً من تفضيل المسؤولين عن ما سمي «الملف اللبناني» التعامل مع مرجعية واحدة في كل طائفة تختصر حضورها ومصالحها وتجير قرارها. ولولا بعض الاستثناءات المتمردة في الإطار المسيحي وحالة حزب الله المرفوعة بعامل إقليمي تجاوز إرادة أولئك المسؤولين، لكان واقعنا السياسي عبارة عن كانتونات طائفية تحكمها أحاديات إلغائية تشكل مع بعضها مجلساً مِلياً.
وأوجدت هذه الأحاديات لطوائفها منظومة مخاوف وهواجس تستوجب تقديم القرابين لها وتفويضها الاستحواذ على مقدرات الطائفة كافة ومن ضمنها حصتها من النظام مقابل أن تحميها من الطوائف الأخرى، بحيث تحوّلت هذه الدورة الفراغية إلى شبكة مصالح يتناغم فيها «الأحاديون» يتحالفون أو يختلفون، ولكنهم دائماً يتقاسمون النفوذ والمال العام.
ولم يشذ الشيعة عن هذه القاعدة، بل استغرقوا فيها نتيجة وجود عامل إضافي إقليمي يهددهم فعلاً، وهو موقعهم الجيو ــ سياسي على خط التماس مع الكيان الإسرائيلي؛ إذ تحوّلت الثنائية المزعومة إلى أحادية من نوع آخر رجحت فيها كفة حزب الله على مستوى الإمساك بقرار الطائفة السياسي وكفة الرئيس نبيه بري لجهة الطغيان على حصتها في الدولة، فكان الانصياع لدى كل منهما إلى رغبة الآخر، مبرراً على أساس أنّ ذلك يضمن مصلحة الطائفة!
غير أنّ ما غاب عن بال الحزب وبري أنّ التحوّلات التي شهدتها وتشهدها المنطقة، وبالأخص منها سوريا الأسد الحليفة، ستكون لها إفرازات مباشرة على الساحة الشيعية اللبنانية، تستوجب البحث عن مقاربات جديدة لفكرة المشاركة السياسية الممنوعة داخل هذه الطائفة حتى لو كانت تحت سقف الثوابت الشيعية واللبنانية والسورية والإيرانية. إذ يجري «تخوين وشيطنة» المُحاوِل على اعتبار أن الاختلاف وحتى الخلاف مع أي من الطرفين خروج على إجماع الطائفة. والإجماع هو المفهوم الذي رفضه الشيعة لأنه ليس بالضرورة مؤشراً على وحدة الجمهور حول الحق، وهو معيار أئمة الشيعة (ع)، وإلا كان الأجدى بالإمامين علي والحسين (ع) اتباع الجمهرة الأكبر التي توافرت لمعاوية ويزيد! «لا تستوحشوا في طريق الهدى أو الحق لقلة سالكيه». لذا يحتمل الإجماع أو عدمه القرب من الحق أو الباطل والمسألة نسبية.
والحال هذه، يحق لسماحة السيدين هاني فحص ومحمد حسن الأمين الاختلاف والخلاف مع السياق التاريخي لمواقف الشيعة ولنهضتهم الحديثة التي أسس لها وأرسى دعائمها الإمام القائد السيد موسى الصدر ــ على قلة أنصاره في البداية وكثرتهم بعد تغييبه ــ ورسختها تضحياتهم وخصوصاً منهم شبابهم المقاومين الشهداء والأحياء، وتباعاً الاختلاف والخلاف أيضاً مع السائد السياسي الشيعي الذي أبرزته الأزمة في سوريا والذي كان كامناً منذ بداية حركة الإمام الصدر وفهمه لكيفية نصرة الثورة الفلسطينية مروراً بمقاربته للأزمة السياسية اللبنانية وتداعياتها الطائفية والأمنية والعسكرية سابقاً ولاحقاً وصولاً إلى دوره وأدوار «جماعته» من قادة الثورة الإسلامية الإيرانية. وبالتالي فإنّ من الظلم للطائفة ولتشكيلاتها الاجتماعية والسياسية الحالية، وبالأخص منها حزب الله، تحميلها محاولات السيدين الجليلين التميّز عن هذا السائد.
كذلك يحق للسيدين الجليلين أن يناصرا الثورات بالجملة، مع أنّ ما ورد في مواقفهما وبيانهما يبرز عدم المساواة بينها. فهما مناصران بلا تردد «للانتفاضة السورية المنتصرة بإذن الله»! ومتعاطفان مع التيار الإصلاحي في إيران و«حركة المطالبة الإصلاحية في البحرين»، بحيث رسما نتائج مسبقة لما يسمى ثورات، بل وصنفاها وفقاً لفهمهما لها وللنهايات التي يرجوانها، بل تجاوزا حراكاً جدياً ومظلوماً يجري في مملكة آل سعود وبالأخص منها المنطقة الشرقية!
إنّ الخلط بين أداء الثنائية الشيعية ومقاربتها لشؤون الطائفة الداخلية وثوابت الطائفة القائمة على التزام مفاهيم أخلاقية وإنسانية ودينية تُقدِم نصرة المظلوم على ما عداها والوحدة الإسلامية على التفرقة ووحدة اللبنانيين على الانعزال والدعم العملي لا الكلامي للقضية الفلسطينية منذ أكثر من 60 عاماً، يحاصر أية إمكانية لقيام تيارٍ إصلاحي يعيد تصويب الحراك داخل الشيعة.
بناءً على ذلك تبدو المعادلة واضحة وجلية أمامهم، فالشيعة ملتزمون نصرة الشعب السوري الشقيق لتحقيق إصلاحات جذرية تنقل سوريا إلى الحداثة والتطوير والتعددية والديموقراطية. وهم انطلاقاً من ثقافتهم وتراثهم الحسيني مجبرون على الدفاع عن المظلوم والمحروم إن كانت هذه المواجهة بين شعب أعزل يتوسل الطرق السلمية والأخلاقية لتحقيق الأهداف المذكورة ضد نظام لا يستمع لهم ولا يستجيب لمطالبهم ولا يسعى إلى تحقيقها. أما إذا كانت هذه المواجهة بين الدولة السورية بمكوناتها كافة من شعب وجيش ونظام سياسي مقابل مجموعات إرهابية مسلحة مدفوعة بتعبئة مذهبية وإعلامية وسياسية خطيرة على الأمة بكاملها وبمال وسلاح ومرتزقة تستهدف وجود سوريا وموقعها ودورها التاريخي المقاوم، فإنّ من الطبيعي أن يكونوا مع الدولة السورية.
أعتقد أنّ التنوّع والتعددية والاختلاف والخلاف داخل الطائفة ضرورة وحاجة للمقاومة والمقاومين لأنّها تخدم منطقهم وأدبياتهم وتضع تحالفهم مع سوريا في الخانة السياسية لا المذهبية؛ لكون السيدين المنتفضين شيعيين. لكن حراكهما ومن معهما لا يجيب عن أسئلة تتراكم بوتيرة سريعة في وجه من نصّبهم الشيعة أو نصّبوا أنفسهم أئمة سياسيين عليهم.
* المدير العام السابق لوزارة الإعلام اللبنانية