الحكاية مثيرة لخيال كاتب سيناريو من سيناريوهات الوعظ الحكومي. المشير طنطاوي ذهب الى مكتبه بعد الإحالة على التقاعد، وبعده بقليل دخل «ابنه الروحي» وزير الدفاع الجديد الفريق عبد الفتاح السيسي، وتبادلا التحيات والوصايا. حكاية يبدو إمكان حدوثها كبيراً جداً، مع دولة فقدت كل رجالها ولا تزال تسير بفعل قوة «استمرار» غامضة. قوة لا يقاومها احد ممن بيده الامور، او من بيده القرار في نهاية «فترات الاضطراب». الدولة القديمة لم تتبخر بعد. تقاوم الفناء النهائي بمرونة مدهشة. تحركها روح تجعلها بالنسبة إلى قطاعات عريضة، مقدسة بنبلها القديم. لا يزال لدولة التحرر الوطني، التي لم تعد كما هندسها عبد الناصر، حضور يمتص محاولات «البناء الجديدة» او «السرقة» والخطف. تكاد ان تكون هذه الدولة، هي الدولة بمعناها المطلق. وهذه معجزة الاستقرار الفرعوني كما تردد مقولات ساخرة تلتقط علاقة المصريين بالهرم على انه انتصار لهندسة الثبات والبقاء في مواجهة التغييرات... والتقلبات. هل انتهت الدولة القديمة وستبدأ دولة جديدة؟ هناك خيال آخر تعامل بمنطق الأفلام الأميركية مع انقلاب مرسي على المشير. السيناريو تبنى رواية عن تسجيلات بمعرفة الاستخبارات الاميركية ترصد انقلاباً على الرئيس المنتخب، في تحالف مع قوى تدبر «ثورة على الإخوان« في ٢٤ اغسطس/ آب. السيناريو تحدث عن حرب الغرف ومواجهات جرت بحضور المشير ورئيس اركانه الفريق عنان، واعلن فيها مرسي عن المؤامرة وما دفعته اليه من قرارات. وبعدها احتجز المشير والفريق في غرفة حتى تنتهي مراسم اعلان «الانقلاب» الذي جرى تداوله على أنه «أم معارك» مرسي، او اجتياح الوحش الإخواني للدولة وابتلاعها بالكامل الى درجة جرى الترويج فيها لروايات عن اختفاء طنطاوي وعنان في مجاز عن غروب الدولة القديمة، وهو ما بدا في اللحظات الاولى مفرحاً ومريباً. ها نحن نفرح ونقلق معاً. نفرح لأن ديناصورات سقطت على مسرح السلطة، ونقلق لأنّ من أسقطها خلفه جماعة تبحث عن التمكين.لا تزال قطاعات ليست قليلة تتعامل مع السياسة كما تتعامل مع روابط المشجعين. التهليل لم يتوقف، وقال أحدهم: لقد أصبح للثورة بطل وزعيم. ثورة لم يصنعها زعيم، لماذا تنتظر زعيماً؟ وشعب استطاع أن ينفض غبار الإحباط الثقيل ويسقط ديكتاتوراً هوايته الالتصاق، لماذا ينتظر بطلاً مثل الشعوب العاجزة واليائسة؟ لم تفكر فرق المشجعين. التهليل هو الغبار الذي يمكن أن تجري خلفه عمليات تشبه «الانقلاب»، لكنها ليست انقلاباً، وتبدو ثورية، لكنها ليست سوى صراعات كهنة في غرف مغلقة. إزاحة الديناصورات العسكرية جرت بدون مقدمات، وعلى نحو يبدو مفاجئاً، وبدون شفافية الإعلان عن التفاصيل والأسباب، بالضبط على طريقة «انقلابات القصر الناعمة» بالتكريم عبر الركل الى الأعلى (مستشار) ومنح أعلى الأوسمة (قلائد النيل والجمهورية). مذبحة للعسكر قد تغيّر شكل السلطة إن لم تنم كواليسها في الغرف المغلقة، وإن لم تتبعها خطة تمكين السلطة او الانفراد بها. الفرق بين الثورة وصراعات السلطة خيط رفيع، فمهما حاول السادات واعلامه تصوير صراعه مع موظفي عبد الناصر على انه «ثورة تصحيح» لم يكن ذلك الا صراعاً على السلطة. والانتصار في الصراع في غياب قوى سياسية ومجتمع مدني ومجال سياسي يتحول الى «تمكين» الديكتاتور من الدولة. وفي حالة مرسي بدت تغييرات الهرم العسكري خطوة واسعة في طريق «تمكين» الدولة القديمة من رئيس قادم بمشروع مستتر لدولة اخرى. السيسي ابن المؤسسة وحافظ أسرارها، وقفزته نحو الأعلى ليست من اجل «إنهاء حكم العسكر»، بل من اجل اعادة «ترميم» المؤسسة العسكرية.
إنّه الوجه الجديد للدولة القديمة، ولهذا راجت حكايات عن لقاء السيسي مع هيكل، كاهن دولة يوليو وحارس تصاميمها القديمة. لا تزال يوليو وحكم العسكر ساريي المفعول، وما حدث هو حقنة إسمنت جديدة لترميم البناء الذي أوصله مبارك الى ما يشبه الانهيار. ومرسي على عكس كل الصور الرائجة له الآن، هو الشاحن لعملية الترميم، بما في ذلك ترسيخ وضع المؤسسة العسكرية بعد ازالة طبقتها العجوزة، واحلال جيل يسعى الى اعادة هيبة المؤسسة، ومحو الاهانات التي كانت مذبحة الحدود في رفح قمتها المؤلمة. حكم العسكر سينتهي عندما تتخذ قرارات تقوم بالمهمات التالية:
1- تفكيك المؤسسات الاقتصادية التابعة لإدارات الجيش والخارجة عن تنظيم الدولة، ويقدر حجمها في سوق الاقتصاد بـ40 ٪
2- إحلال وتبديل الاحتلال الكاكي لمؤسسات الدولة وتحرير ماكينات الإدارة من حوالى 120 الف لواء وفريق سابق يحصل على المنصب العالي بعد تقاعده مكافأة، او حجزاً لموقع يربط كل مؤسسات الدولة بالمؤسسة العسكرية.
3- وقف المحاكمات العسكرية للمدنيين وليس فقط اعلان الإفراج عن عشرات او مئات من الثوار منذ يناير/ كانون الثاني 2011 وحتى الآن. والأهم: محاكمة كل قيادات المجلس العسكري ليس فقط من اجل الانتقام او التشفي او اعلان الانتصار في حرب الغرف المغلقة، بل أيضاً من اجل معرفة ما جرى منذ قيام الثورة وحتى خروج المشير ورجاله.
لم يدفن المشير جمهورية العسكر، لكنه هزم في صراع السلطة، وهذا ما يتكشف من الروايات المتسربة لتؤكد اشارات إلى وجود رعاية دولية وتحالف بين مؤسسة الرئاسة وقطاعات من الجيش لا نعرف هواها السياسي ولا ترتيبات ما بعد التخلص من «الأب». وعلى العكس فهذا توريط جديد للجنرالات في شركة جديدة للحكم، لا تقدر على «أخونة الدولة»، لكنها تدفع الى هدف ملء الاخوان فراغات الدولة كما تركها مبارك مهشمة. وهذا لن يتحقق الا باعادة الشعب الى مقاعد المتفرجين ليتابع استعراضات السلطة من خلف الستائر نصف الشفافة ونصف المعتمة. لن ينتهي حكم العسكر الا اذا انتهت اساليب الغرف المغلقة والروايات السرية التي لا نعرفها الا من الصحف الاميركية، او التسريبات المتداولة في جلسات النميمة. وأسوأ الاحتمالات ان يكون ما حدث هو 1954 على نحو عكسي، اي صراع على السلطة لا نعرف تفاصيله الا بعد سنوات، وتستخدم فيه الجماهير لتلغي طرفاً وتصل بالطرف الآخر الى منصة الاستبداد. الإخوان كانوا طرفاً في 1954 وهم طرف الآن، والأسلوب واحد. فقد دعم المشير بالشرطة العسكرية ما سمي حشود المنصة، والخطة كان عنوانها «24 أغسطس» لتلعب على الرفض المتنامي لسيطرة الاخوان على الدولة، وهو ما يعرف شعبياً تحت عناوين «أخونة الدولة» أو «حكم المرشد». هي تسميات عاطفية، لأنّ الواقع لا يسير بهذا الاتجاه، فالدولة الإخوانية كما يقول الكاتالوغ لا يمكن ان تستمر في دولة مثل مصر، والممكن الوحيد هو ضبط الإخوان على مقاسات الدولة القديمة. هكذا فإنّ استخدام الغضب الشعبي من الإخوان واجهه استخدام آخر للغضب الشعبي من المشير وصحبه. وستكون الأمور لمصلحة مرسي ومن رعى الاتفاق من اطراف دولية وقطاعات من الجيش لا نعرف ميولها، وان كانت عبر ممثلها الفريق السيسي تمثل الأجنحة الشابة ذات التاريخ في الأمن لا الحرب، والبعيدة عن تربية الجيل الأول في يوليو والثاني في اكتوبر. الى أين تسير هذه التوليفة في الرئاسة والجيش وبالرعاية الدولية والإقليمية بالبلاد؟ هل ستكتمل استعادة المجال العام لتختفي القوى الثورية لمصلحة روابط المشجعين وأطراف الصراع في الغرف المغلقة؟ الخطوة القادمة ستكون باتجاه استعادة الدولة بتركيبتها الحالية المجال العام الذي فتح بعد الثورة، ويبدو من الاشارات القادمة من بعيد أنّ هناك نية لمصادرته او اعادة إغلاقه او وضع متاريس على أبوابه.



صراع الوكيل

هل كانت واشنطن تعلم؟ لم تلتفت الاسئلة الى المناوشات العلنية حينما ابدت الخارجية الاميركية ترحيبها بازاحة الديناصورات العسكرية، وهو ما يوحي بمعرفتها المسبقة، ثم نفي الرئاسة في مصر بعلم اميركا قبل الاعلان. المناوشات هي فارق خبرة لا تزال الرئاسة تتأرجح فيه بين خطاب «الدولة» العارفة بقوة «الحليف» وخطاب المعارضة الخجول من اتباع خط السير نفسه الذي كان قبل قليل محل نقد وهجوم وتخوين. الازمة تتكرر في محطات اساسية، منها مثلاً الرسالة البروتوكولية التي رد بها الرئيس على تهنئة الرئيس الاسرائيلي بيريز بقدوم شهر رمضان، وسربتها الصحف الاسرائيلية، بينما كذبتها الرئاسة وعادت وصححت التكذيب بوصفها من الشؤون البروتوكولية. ارتباك لم يمنع بل اكد على بقاء الرعاية الاميركية كما هي، وان كادت بعض الروايات تقول انّها زادت في اطار خطة اميركية لتمكين التيار الاسلامي من جمهوريات التحرر، لصنع حاجز محلي امام جماعات الارهاب تمتص طاقات غضبه واغترابه عن الانظمة الحديثة. الروايات تتصرف وتتحدث عن صفقات، وخطط، وتتداول معلومات عن دعم مالي لحملات انتخابية، وهو ما يبدو بالتحليل مبالغة مقارنة بواقع يقول إن ما يحدث ليس سوى اعادة تجديد الوجود الاميركي، وذلك باعادة نسج العلاقات مع الاطراف التي يمكنها ان تمنح شحنات حياة لانظمة ماتت وحبست دولها في مدافنها سنوات طويلة. الراعي الدولي يجدد نفسه اذن ليبقي على دولة تخدم مصالحه او يخدم وجودها بهذه التركيبة. الماجستير التي قدمها رئيس الاركان الجديد اللواء صبحي صدقي تقدم مجموعة نصائح موجهة للادارة الاميركية في تعاملها مع مصر. الماجستير اعدت في عهد بوش لكنها تقدم رؤية اوباما في تحقيق المصالح نفسها بدون استفزاز الشعوب المعتزة بكرامتها. هل نحن في حقبة اميركية جديدة ومتطورة؟ هل ستظل اميركا سيدة ولها وكلاء على كراسي الحكم؟ اسئلة قاسية لكنها يجب ان تطرح الان وفي ظل حكايات الغرف المغلقة وعودة ادارة مسرح «الماريونيت» من خلف الستارة السوداء. اميركا كانت تدير المنطقة بمنح الوكالة لانظمة تحقق مصالحها بشكل مباشر او غير مباشر، وهذا ما يحصل منذ نقل التحالف الاستراتيجي من الاتحاد السوفياتي الى الولايات المتحدة عبر حكاية تختلف تفاصيلها من ايام السادات الى الايام الاولى في عصر مبارك التي تختلف عن ايامه الاخيرة. صراع الوكيل ليس حرباً للدفاع عن السيادة الوطنية لكنه يجري باسمها كما حدث في عصر مبارك كثيراً، وحدث في ازمة منظمات المجتمع المدني ايام حكم المجلس العسكري والمعروفة بـ«حرب فايزة» او «مصر لن تركع». وهذه المعركة التي شارك فيها الجميع من قيادة الجيش الى الحكومة مروراً بمشاهير المشايخ وابواق النظام في الاعلام، انتهت بفضيحة لأنّهم استخدموا الشعب ونشر العداء للاجانب وتعلية نبرة حماسة النشيد الوطني. استخدام مثل الديناميت الفاسد الذي انفجر في وجوههم عندما لم يضبطوا المعيار الذي يمكنه ان يحقق اغراض الوكيل في ملاعبة المالك الاصلي. وهكذا فإنّ النظام المستبد يبحث عن حليف يعيش تحت جناحه او رعايته او يحصل منه على توكيل بالادارة. وهذا هو الفخ الذي قد يمنح للرئاسة طعم ادارة الدولة او الشعور بانّه «بطل» الغلابة عندما يكسر بعض الاصنام العجّز على المسرح، بينما تترتب الدولة على صورتها القديمة.



إعادة جمهوريّة الوصاية



هي غواية إذاً، مرسي يصنع صورته بالتأكيد على أنه قادم من المحيط الواسع للطبقة الوسطى الريفية. يرتدي في إحدى صلواته جلباباً لم يعرفه سكان القاهرة إلا مع السفر الى السعودية، مصنوع غالباً في الصين من أقمشة صناعية، وفي قدمه جورب من الألياف نفسها، مع حذاء شتوي. الرئيس هنا يقول رسالة منقوصة: إنه رجل عادي يشبه آلاف المقيمين في مصر على هامش طبقات ورموز لا يعني وجودها معاً إلا الاستهلاك. فما معنى أن ترتدي جلباباً من قماش صناعي في بلد القطن، وبعد نصيحة رئيس حكومتك للمصريين بارتداء ملابس قطنية اتقاءً للحر وتوفيراً لكهرباء تستنزف خلف ماكينات التكييف الصناعية. ما معنى أن تضع هذا الخليط الذي لا يشير إلا الى تراكم طبقات الاستهلاك القادم من الخليج في ممحاة لتنوعات مصرية من الريف الى المدينة. لا يشير جلباب مرسي الى بساطة أو حرية حركة، فهو مقيد بالحذاء الذي يعتبر علامة تمايز اجتماعي تسعى إلى ضمان نظافة شخصية، تعطلها طبعاً طبيعة الجورب العاجز عن امتصاص العرق. الرسالة هنا تشير الى تشابه في تحوّل المصري الى نثار هويات مهشمة، يتحكم فيها الاستهلاك. ومن هذا النثار تصنع الأساطير التي كانت تصنع من قبل وفق سياقات عميقة في الثقافة ظلت تحارب في حرب هويات قاتلة لتبدو العمالة في الخليج مثلاً أعلى لرئيس منتخب لا يجد في عقله ما يجعله يشير الى ما هو أبدى من الحياة على السطح. عبد الناصر مثلاً اشتهر بقميصه الخفيف، ليشير الى حياة بلا طقوس المجتمع القديم، والسادات أراد أن يوازن بين أناقته الأميركية، فكانت رحلاته الى القرية وارتداء الجلابية التقليدية علامات ورموزاً تحمل إشارات على صور ملهمة أو معبرة عن رسالة ما. لكن رسائل مرسي تشبه الرجل العادي الى حد الارتباك، وجمهوره يعيد إنتاج العلاقة بين الرئيس والجمهور بشكل كوميدي. الرئيس لا يجيد غير نبرة خطباء المساجد، وعندما يلتقي جمهوراً واسعاً تسخن أحباله الصوتية الى درجة لا يمكن فيها التفريق بين فقرات الشرح وفترات الانفعال.
بعد قرارات إزاحة الديناصورات العسكرية، احتشد مئات الأنصار في ميدان التحرير بأوتوبيسات استدعيت على عجل من المحافظات والأقاليم ليهتفوا: «يا مرسي، سير سير احنا وراك للتغيير». لم يعرف هؤلاء أنّه في هذا الميدان قامت ثورة لتوقف عملية سير الشعب خلف الزعيم، أي زعيم، وأن الهتاف لشخص هو إعادة بناء الفرعون. وربما لا يعلم هؤلاء الطيبون أنهم جزء من أدوات الدولة المستبدة، فهم الجمهور الذي يعطي للحاكم شرعيته الشعبية، وهم في وقت الحاجة ميليشيات توقف المعارضين، وهم وقت الصراعات السياسية ورقة قوية. والمحتشدون في الأوتوبيسات ليسوا وحدهم، لقد عادت أجهزة الدولة الإيديولوجية، أو تخيّل الإخوان أنّهم باختيارهم رؤساء تحرير صحف من معدومي المواهب والكفاءات ومتخرجي مدرسة «السمع والطاعة» للرئيس فإنّهم بذلك يكونون قد بنوا كتيبة الإعلام القادر على «الهيمنة». تكمل الكتيبة بفقهاء لديهم ماكينة فتاوى تبرر للحاكم وتحميه من معارضيه. ولم يكن غريباً في هذا الإطار الفتوى التي أصدرها شيخ أزهري بأنّ المتظاهرين في ٢٤ أغسطس/ آب لا ديّة لهم ودمهم مهدور. هكذا منحت الفتوى وببساطة تراخيص قتل لأجهزة شرطة أو ميليشيات ستبرر قتلها بالدفاع عن «هيبة» أو «مؤسسات الدولة». وهي كلمات مبهمة لها ترجمة واحدة لتكون حماية الحاكم وحاشيته ومباني تمثل في حد ذاتها رموزاً للدولة. في الدول الديموقراطية، الفرد هو رمز الدولة، والمواطن الأميركي أو الفرنسي هو أميركا أو فرنسا. هو الخط الأحمر. وكونك معارضاً لايعني أنك تريد هدم الدولة، لأنّ الرئيس ليس الدولة. كنا تصورنا أنّ كل هذه الشروح انتهت مع خبطة الثورة لدولة الوصاية والحاكم الفرد. الفتوى تعيد إنتاج الخطاب المعادي للمعارضة، ورغم أنني ضد دعوة تظاهرة ٢٤ أغسطس/ آب، إلا أنّ التعامل معها بهذه الشيطنة يهدر حقاً أصيلاً مات شهداء في سبيله، وهو حق التظاهر، والتعبير. قلت سابقاً إنّ الإخوان لا يفكرون في «أخونة» الدولة، لكنهم يبتلعون في ماكينات الدولة القديمة. هكذا يتصورون أنهم بارعون ونجاحهم باهر كلما انتفخت سلطتهم ليملأوا فراغات شاغرة منذ إزاحة مبارك الى مكان التصاقه الجديد: سرير الزنزانة. وكلما تقدم الإخوان في نهم ملء الفراغ، تتسع طردياً محاولات السيطرة على الفراغ السياسي، وإغلاق المجال العام من جديد. هذه السيطرة لن تكون عبر أدوات أمنية تقليدية، كما حدث أيام مبارك، ولكن عبر تسخين روابط المشجعين أو تحفيز قطاعات لا يزال فيها الروح في أجهزة الأمن المتحالفة الآن مع مرسي.
السيطرة تتم أيضاً عبر سلاح البيروقراطية العتيق الذي يعلن عن وجود الدولة عبر قرارات يبدو أنّها في الصالح العام، وهذا ما يفسر تسريب خبر صدور قرار إغلاق المحال في التاسعة مساء، والسبب ترشيد الكهرباء. ليس صدفة أنّ السادات أصدر القرار في محاولة حشر أجهزته الأمنية في حياة كل فرد، وفي ظل حزمة قوانين (العيب وشرطة الانضباط، الى آخر ما يوحي بأنها دولة أخلاق رشيدة). ينسى الرئيس وجهازه البيروقراطي القرار بعد أن تكون أصابع الدولة في عمق أعماق المواطن، وتعود المحال إلى طبيعتها التي تمنح خصوصية لمصر عن بقية دول العالم، فهي «البلد» الذي لا ينام. حاول مبارك في أيامه الأخيرة تطبيق القانون نفسه، وفي لحظة لم يكن قادراً فيها على السيطرة التامة، لكنه فشل مرة أخرى. والقرار يعود في صورة «ترشيد الاستهلاك» الذي لا يطبق عادة إلا على المواطنين «الغلابة» وفي سبيل محو طبيعة مدينة أو مدن. أما أن يغيّر عقل السلطة طريقته في التفكير، فإن هذا ما يبدو مكملاً لمنظومة إعادة جمهورية الوصاية... كاملة الأوصاف.