في زمن أصبحت فيه لقمة عيش الإنسان موضوع كفاح ٍ يومي، في غياب دولةٍ توفّر للمواطن أبسط حقوقه الطبيعية، التجأ هذا الأخير إلى الزعامات المحلية والطائفية التي استقبلته «بفرح عظيم» توسلاً للسلطة والتحكم بمصيره وضماناً لولاءٍ أعمى لا يعرف مبدأ المحاسبة أو الكفاءة. فواقع الخدمات، وإن تبدل مظهره، لم يزل قائماً منذ العهد العثماني، حين كان يتجمهر الناس أمام الوالي، علّه يمنحهم بعضاً من حاجتهم للطعام، المأوى أو الطبابة، فكان يختار منهم من يتمتع بحظوته ومن يمنحونه ولاءهم. أما الآخرون، فيعودون أدراجهم خائبين منبوذين.
وفي مرحلة ما بعد العهد العثماني، في زمن الاستقلال، لم ينجح اللبنانيون في الخروج من هذا الواقع، فاستبدلوا الوالي بالزعيم المحلي أو الطائفي بدل أن يبنوا دولة ترسي أسس المواطنية، على أساس المساواة في الحقوق والواجبات، فيتمكن كل لبناني من امتلاك حقوقه الطبيعية البديهية من دون أن يتذلل على باب زعيمه ويتقن أساليب المدح والتسول في وطن الغاب والتخلف، فما اختلط في ذهن السواد الأعظم من المواطنين، أن دور النائب لا يتمثل بتقديم الخدمات لأهل منطقته!
فهو أولاً نائب عن الأمة اللبنانية جمعاء، وليس نائباً عن منطقته أو حيّه أو أبناء طائفته، وما يقع في أقاصي البلاد من أحداث تعنيه وتقع على مسؤوليته بالقدر ذاته من تلك الواقعة في مسقط رأسه، بلدته أو دائرته. أما الأهم، فهو أن دور النائب ليس مطلقاً أن يمتلك مكتب خدمات يهتم بالتوظيف والطبابة وغيرها، بل هو التشريع، وسنّ القوانين ومحاسبة السلطة التنفيذية على أدائها، والسهر على تطبيق القوانين وتأمين حقوق كافة المواطنين على حد سواء من طريق مؤسسات الدولة.
أليس من الأجدى للنائب الذي «يمون» على عيادة أو صيدلية لتأمين الدواء أو المراجعة الطبية، أن يعمل على إقرار سياسة صحية جديدة في لبنان، وقانون ضمان الشيخوخة، وحماية الطفولة؟
وأليس من الأجدى لمن حول وظيفته التشريعية إلى مكتب للتوظيف، أن يناقش في المجلس النيابي سبل مكافحة البطالة ودراسة سوق العمل وتوجيه الشباب اللبناني والاستفادة من طاقاتهم الإنتاجية؟
طبعاً لا؛ فالزعيم يبني سلطته ومكانته على رابط الذل وحاجة الناس إليه، فيتحكم بالناخب ويبقى متربعاً قسراً على عرش الزعامة والولاية، فيضمن السلطة والوجاهة له ولخلفائه، على حساب الدولة والمواطن معاً... فهل يقبل أي «ديك» بناء دولةٍ حقيقية تعمل على تحرير الناس من التبعية والقهر؟
خلاصة القول، أنّ لبنان إن كان بحاجة إلى ثورةٍ، فهي بوجه هذه الذهنية المتخلفة التي تعوق بناء الدولة التي وحدها مؤتمنة على تأمين الحقوق الطبيعية للمواطنين، ويبدأ هذا المسار عبر انتخاب نواب يعرفون حق المعرفة أنّ دورهم تشريعي ورقابي فيأخذون على عاتقهم إرساء الثقة ما بين المواطن ودولته، فتسقط الحواجز ويتحرر اللبنانيون من سطوة زعمائهم.
* عضو المجلس البلدي لمدينة بيروت