كنت قد قرّرت منذ فترة الامتناع عن كتابة أيّ شيء يخصّ الوضع في لبنان. وترافق ذلك القرار مع انصراف كامل عن متابعة نشرات الأخبار المحلية اللبنانية. فبعد تجربة لا بأس بها من الكتابة في الشأن اللبناني وصلت إلى نتيجة مفادها أنّ العطب الملازم لولادة هذا الكيان لا تنفع معه أي مقاربة نقدية، حتى لو ارتدت شكل القطيعة، أو الدعوة إليها. والاستثناء الذي مثلّته الحركة النقابية الوليدة في هذا البلد سيبقى جنينياً ما لم يتخلَّ عن «إصلاحيته»، وعن تموضعه إلى جانب «زوائد دودية» تدّعي أنّها «شريكة في الهمّ النقابي». هي تدّعي ذلك من موقع الملتحق بالسلطة الطبقية ــ الطائفية، ومن موقع الراغب في عقد تسويات معها على حساب «الرفاق» في النقابات المستقلة. تسويات تحفظ للسلطة المشغّلة للوكيل النقابي العميل امتيازاتها، وتوهم في الوقت ذاته النقابيين المستقلين بأنهم قد أحدثوا فرقاً فعلاً، لكن من دون أن تظهر لذاك «الفرق» أيّ انعكاسات فعلية على أوضاع العمال والطبقات المسحوقة داخل المجتمع. كان ضرورياً سوق هذه الوقائع كي لا يحتاج المرء مستقبلاً إلى تبرير نفسه كلّما أراد مقاربة الوضع في لبنان اضطرارياً، أو تحت وطأة ممارسات فاشية تريد جرّنا جراً إلى نقاشات لا تسمن ولا تغني من جوع. ومع ذلك سنخوضها، ولأسباب متعددة، منها مثلاً أنّ العنف الوظيفي الذي بدأ في سوريا وانتقل اليوم إلى لبنان لم يكن ليأخذ هذا الشكل لولا «همّة الفقراء» في كلا البلدين.أولاً ــ في سوريا: لم يحصل منذ بداية الصراع في هذا البلد أن تورّط أغنياء أو محدثو نعمة (وهو الاسم الحركي لطبقة التجار التي رعتها السلطة المافياوية وأمّنت صعودها الاجتماعي المفاجئ) في أفعال مناوئة للنظام على نحو مباشر. حتى الاستثناءات القليلة التي مثّلتها حمص وادلب ودرعا بقيت عند حدود معينة، ولم تُحدث تحولاً جوهرياً في بنية الصراع ضد النظام، كما سبق أن أكد البعض. لقد كان واضحاً منذ البداية أننا إزاء صراع يخوضه فقراء بالأصالة أو الوكالة ضد فقراء آخرين. يكفي أن نعرف أنّ الجيش الذي زجّ به النظام في مواجهة جزء أساسي من شعبه إنما يفعل ذلك باللحم الحي. هؤلاء الشبّان الذين يقتلون اليوم على الحواجز أو في الاشتباكات المتنقلة ينتمون في معظمهم إلى شرائح فقيرة ومعدمة، لم تجد سبيلاً إلى العيش والترقّي الاجتماعي إلا عبر قنوات مماثلة (الجيش والشرطة و... الخ). ومن لم يكن كذلك منهم فهو حتماً يتحدّر من شرائح وطبقات تحوز قدراً أكبر من الثروة، لكن أفرادها مضطرون بدورهم إلى المرور بالمؤسسة العسكرية من باب التجنيد الإجباري. غير أنّ هؤلاء لا يشكّلون نسبة معتبرة داخل الوحدات القتالية التي يقاتل بها الجيش المسلّحين، ويخوض عبرها حرب «الكلّ ضد الكلّ». كلّ فقراء الموالاة ضد كلّ فقراء المعارضة. هنالك مشكلة جدية حقّاً في فهم معادلات مماثلة. في العادة تكون المعادلة مقلوبة، ويكون الصراع بين فقراء يشكّلون الأكثرية و«أغنياء» ينهبون الثروة ويمثّلون الأقلية. هذا ما تقوله كلاسيكيات الصراع بين الطبقات، لكن الواقع اليوم لا يقول ذلك، أو أنّه لم ينضج بما فيه الكفاية لذاك القول. وبينما يستعر الصراع أكثر فأكثر بين سلطة جبانة وقودها الفقراء ومعارضة «يقودها الفقراء»، يختفي الأغنياء من المشهد تماماً، ويفرّون أحياناً حين يشعرون بأنّ النار قد بدأت تبلغهم (اسألوا اللبنانيين عن «نزوح» تجار دمشق وبرجوازييها إلى مصايفهم!). ليس ثمّة شك مثلاً في أنّ البرجوازية التي لا تزال تقف إلى جانب النظام ستكافأ من جانبه بإعفائها من دفع أيّ ثمن يذكر للصراع. لاحظوا مثلاً كيف حدث العكس في حمص، وكيف دفعت «البرجوازية الحمصية» غالياً ثمن وقوفها إلى جانب الاحتجاجات الشعبية وتخلّيها عن بعض «الامتيازات» الهزيلة التي تركها لها النظام. كلّ البنية التحتية في حمص التي أسهم هؤلاء في إنشائها على مرّ عقود قد دمّرت أو تكاد، لكن ذلك على أهميته لا يكفي ليكون معياراً للقياس. أصلاً ما من معيار واضح هنا. فالبرجوازية قد تنحاز أحياناً، وفي ظروف معينة، إلى الطرف الذي تعدّه الأجدر في تمثيل مصالحها عندما ينتهي الصراع، غير أنّها تبقى أجبن بكثير من أن تذهب بانحيازها ذاك إلى خواتيمه. درس حمص يقول لنا ذلك (وقود احتجاجات حمص وانتفاضتها المسلحة لاحقاً هم فقراؤها فحسب)، وكذا دمشق وحلب. عندما يشاهد المرء الجيل الثاني (والثالث أيضاً) من البرجوازية السورية التي همّشتها العائلة الحاكمة لمصلحة جناح برجوازي آخر (أكثر امتثالاً لسلطتها المافياوية) كيف يسنّ أسنانه من على شاشات آل سعود وآل ثاني، وكيف يثابر على «المياومة النضالية» بلحم الفقراء ودمهم، يشعر بالتقزّز فعلاً. هؤلاء وغيرهم هم من سيرثون نضالات الفقراء وتضحياتهم، وهم من سيؤتمنون لاحقاً على حراسة مصالح مستعمرات الخليج بعد أن يسقط النظام وتصبح الأرض مهيئة لتقاسم الكعكة السورية. والمشكلة الحقيقية أنّه ما من أحد يجرؤ اليوم في حضرة الدم المسفوح والمجازر المتنقلة على مناقشة الوجهة التي يأخذنا إليها الصراع. عندما يقود فقراء سوريا صراعاً ينطوي على هذا القدر من الشجاعة والتفاني، فلا بد من أنّهم واثقون بخواتيمه. هي ذاتها الثقة التي توافرت للمصريين والتونسيين واليمنيين من قبل، لكن من يقود مصر وتونس واليمن اليوم ليس فقراؤها، ولا حتّى من يمثلهم داخل البرجوازيات الوطنية في تلك الدول. من يفعل ذلك حقّاً، ومن يجني ثمار الاحتجاجات الشعبية هناك، هم حرّاس الامتيازات الطبقية الجديدة، أو بالأحرى هم كلاب حراستها. ولهؤلاء أسماء محددة لها امتدادات داخل سوريا. هل يعرف فقراؤنا بذلك؟
ثانياً ــ في لبنان: عندما نزح بعض أغنياء دمشق وبرجوازييها إلى لبنان، إثر وصول الاشتباكات الدموية بين الجيش والمسلحين إلى أحيائهم، كانوا يظنّون أنّهم باتوا في مأمن. لم يكن هذا الانطباع وليد الصدفة. فالأماكن التي اختاروا الإقامة فيها مؤقتاً، ريثما ينجلي الوضع في دمشق، لا يسهل الوصول إليها كثيراً. إن من يعرف جغرافية لبنان جيداً، ويدرك كيف رسمت الحدود طبقياً بين الفقراء والأغنياء حتى داخل الطائفة الواحدة، يعي جيداً عما أتحدث. قد تكون منطقة مثل رأس بيروت استثناءً في ذلك، رغم طابعها البرجوازي المنحسر تدريجياً لمصلحة محميات آل الحريري. في عاليه وجونيه والمتن وكسروان و... إلخ أقام هؤلاء الهاربون من جحيم بلدهم، مطمئنين إلى أنّه لا أحد سيطالهم كما حصل في دمشق، ولو قدر للصراع في سوريا أن يمتد إلى لبنان، فسيبقى محكوماً بحدود معينة، هي الحدود الموروثة عن الحرب الأهلية وجغرافيتها الطبقية (لا الطائفية) المعاد إنتاجها. في ما بعد عاد بعض هؤلاء إلى ديارهم بعدما اطمأنوا إلى قدرة النظام على «تنظيف» دمشق من مسلحيها و... فقرائها! الأرجح أنّهم قضوا أوقاتاً ممتعة في بيروت والجبل. ربما ذهبوا أيضاً إلى الضاحية الجنوبية وعاينوا كيف نهضت من دمارها الماحق إثر عدوان تموز. من يدري؟ لكنّهم حتماً لم يختبروا الشعور الذي انتاب زواراً آخرين للضاحية. هم ليسوا زوّاراً تماماً. بينهم كثر ممن لجأوا إليها هرباً من جحيم سوريا، تماماً كما فعل مواطنوهم الأغنياء! اختاروها لأنّها تشبههم، ولأنّها بدت قادرة على «الذود عنهم وحمايتهم»، إلى أن وقعت الواقعة وغدت حمايتهم المزعومة أثراً بعد عين. ليت مسلحي آل المقداد استطاعوا «استضافة» غنيّ واحد من عشرات الأغنياء السوريين الذين لجأوا إلى لبنان. ربما هو ضيق الوقت، أو هي الرغبة الزائدة في تكريم فقراء سوريا أكثر مما هم مكرّمون في ذاك البلد الـ... لو قدّر لبرجوازيي النظام والمعارضة في سوريا أن يعيشوا بعضاً من فصول الرّعب التي عاشها عمّال سوريا الأسبوع الماضي في الضاحية، لكانوا قد عرفوا معنى أن يدفع الفقراء وحدهم فاتورة الصراع، أو معنى أن يعيشوا في «معازل» تحرسها مصالح الأغنياء داخل سوريا وخارجها. ثمّة أغنياء و«متمولون في المعارضة» أيضاً من بين المخطوفين (كما يشاع)، لكن علاقة هؤلاء بالفاتورة وباللحم الحيّ ليست أبداً كعلاقة من يخوض الصراع بها. فالصراع يخاض على الأرض لا في الهواء (وخصوصاً النفطي القذر منه)، ومن يخوضه هم الفقراء فحسب. هم من يقصفون بطائرات النظام، وهم من يذبحون بسكاكين المسلحين وسواطيرهم، وعندما ينتقل الصراع إلى دول أخرى يكونون أول من يدفع الفاتورة. اسألوا باعة البندورة الذين عيّرهم أحد أفراد آل المقداد بمهنتهم!
* كاتب سوري