لكلّ حرب أميركيّة في بلادنا طقوسها ومراسمها. ولكل تدخّل غربي في بلادنا أصوله ولغته. ولكل خدعة دوليّة طلاسمها وطوطمها. كلمة السرّ أنّ ما يجري في سوريا هو ثورة بكل معنى الكلمة، وأنّ كل من يقاتل النظام في سوريا (وكل من يقاتل من أجل النظام بعد أن ينشقّ عنه ولو في الرمق الأخير) هو «مقاتل من أجل الحريّة»، كما عنون مقال بليد من مراسلة كسولة من دوريّة «وورد بوليسي جورنال» التي كانت في يوم من الأيّام رصينة.
و«المقاتل من أجل الحريّة» هو الذي يستعمل العنف لأجل الغايات التي تصبّ في مصلحة أميركا وحليفتها إسرائيل، وأذيالها في محميّات الخليج. والإدارة الأميركيّة التي أصمّت آذاننا عبر السنوات حول ضرورة الالتزام الفعلي بالتعريف الفيبري (وفق ماكس فيبر) لسيادة الدولة وضرورة نزع السلاح عن كل من يضمر عداءً لإسرائيل في المنطقة العربيّة تتدلّل ولا تتعفّف: تقول إنّها ضد أن يسلّم «الثوار» في سوريا سلاحهم مع انّها تقول بين وقت وآخر إنّها لا تمدّ الجيش السوري الحرّ إلا بملايين الدولارات من المساعدات الإنسانيّة والمعدّات «غير القتاليّة». والذين عاشوا ــ مثلي ــ في أميركا في الثمانينيات يذكرون انّ هذه اللغة هي نفسها استعملتها أميركا في دعمها لجيوش الـ«كونترا» الظلاميّة المجرمة في نيكاراغوا.
ومصطلحات الحروب الأميركيّة والتدخّلات تُصكّ في واشنطن وتُصدّر إلى البلاد المعنيّة. اجترحوا مصطلح «الربيع العربي» فيما الدماء كانت تسيل في شوارع المدن العربيّة. وقرّر الصهاينة المكلفون بإدارة سياسة أميركا في الشرق الأوسط أنّ ما يجري في سوريا هو «ثورة»، وأنّ لا عنوان غيره ــ كما شبّه رونالد ريغان المجاهدين في أفغانستان، وبينهم أسامة بن لادن آنذاك ــ بالآباء المؤسّسين للجمهوريّة الأميركيّة. لكن المتلقّي العربي يسارع إلى استبطان (على وزن «استبطان عقيدة بوش» التي دعا حازم صاغيّة العرب إليها من على منبر الذراع الفكرية للوبي الصهيوني قبل سنوات) الدوافع الصهيونيّة للسياسة الخارجيّة (عندما تقرأ مقالة موشى أرنز عن حزب الله في «هآرتس» تتيقّن انّ فريق 14 آذار لا يأتي بشعاراته من عنده، ولا حتى بنبرات صوته). والذي واكب عمليّة التحضير لغزو العراق، يشاهد تكراراً فظيعاً لمسرحيّة أميركيّة غير ممتعة. مَن أسبغ على أحمد الشلبي صفة «المقاتل من أجل الحريّة» لا يستبعد الصفة عن أبو إبراهيم. وأبو إبراهيم هذا، مع مجموعة أخرى من الأوغاد الذين يعرضون أشرطتهم على الإنترنت مقابل مال النفط والغاز، هو العنوان الحقيقي لما يُسمّى الثورة السوريّة وليس تشي غيفارا أو أبو علي أياد.
إنّ الانتفاضة الشعبيّة في سوريا، والتي انطلقت في درعا، ماتت قبل أشهر عديدة. تعرّضت للقتل مرتين: مرّة من قبل النظام القمعي الذي لا يتورّع عن تحريك طائرات ــ لم يحرّكْها ضد طلعات العدوّ وغاراته ضد سوريا ــ ضد أهداف تعجّ بالمدنيّين والمدنيّات، ومرة أخرى على أيدي العصابات المسلّحة المموّلة من دول النفط والغاز بإيعاز صهيوني (هل أخطأت أنا ورفاق لي، عندما أصدرنا بياناً ضد النظام السوري بعد أسابيع فقط من اندلاع الانتفاضة الشعبيّة في سوريا، عندما سخرنا من مقولة العصابات المسلّحة في سوريا؟ هذا من دون أي تعديل في لهجة البيان ضد نظام لا يستحق يوماً جديداً واحداً من الحياة). لم يرد النظام الإقليمي العربي للانتفاضة الشعبيّة في سوريا ان تستمرّ وأن تمتدّ لأنّها كانت ستفرز قوى غير السلفيّين والأخوان الذين يترعرعون في كنف أنظمة النفط والغاز، ومن يرعاهم.
لكن تقرّر أنّ هناك «ثورة في سوريا». وقرّرت أقلام الليبراليّة العربيّة في جرائد أمراء آل سعود وشيوخ آل الحريري أنّ موضوع سوريا والهجوم على ميشال عون هما الموضوعان الوحيدان المسموحان. وتمت (عبر إنفاق ملايين على طريقة شركات الدعاية في «ثورة (حرّاس) الأرز») حياكة سرديّة عامّة ينقلها بحذافيرها كل من يكتب في الموضوع السوري. وقد انخرط في تلك الحياكة عناصر يساريّة (غير سابقة) بدوافع مختلفة ومعقّدة لا مجال لشرحها هنا في عجالة. وقرار وصف «الثورة» على ما يجري في سوريا يؤدّي إلى فوائد جمّة في الحملة الدعائيّة العملاقة (ويحاول إعلام قطر والسعوديّة بصورة مضحكة الزعم مرّة في الأسبوع انّ الحراك في سوريا لا يزال سلميّاً وفحواه تظاهرات واحتجاجات تقوم عصابات الجيش السوري الحرّ بحمايتها ببراءة شديدة).
وتجد انّ الذين كانوا يدبّجون المقالات الطوال في مواضيع الثورة والثوريّة يسارعون إلى اعتناق لغة صحافة واشنطن في التصدّي للموضوع السوري. والويل للذي يحاول، ولو نظريّاً أو تحليليّاً، مساءلة صوابيّة إطلاق مصطلح الثورة على ما يجري في سوريا لأنّه سيتحوّل فوراً إلى شبّيح (وتهمة التشبيح في خطاب معارضة الخارج وبعض الداخل السوري تفعل فعلها مثل تهمة العميل في خطاب التخوين البعثي التقليدي). والحكم على ثوريّة حراك سياسي يخضع لمعايير تتعلّق بآفاق الحراك ومطالبه، أو بمعايير التغيير التي تطرأ في دولة ما بعد وصول فريق جديد إلى السلطة، مثلما حصل في مصر بعد 1952. اختصرها كارل ماركس بعمليّة التغيير السياسي و«الاجتماعي» (الاقتصادي في ذهن ماركس). تسأل: لم يحن بعد زمن الحكم على التغيير في سوريا وتقرير ما إذا كان ثوريّاً أم لا، لكن تستطيع وتستطيعين أن تحكمي على مطالب المعارضة. تختصر معارضة الخارج والجيش السوري الحرّ المطالب كلّها بإسقاط بشّار الأسد. لكن هذا لا يحقّق ثورة بحد ذاتها. ليس فاروق الشرع أو نجاح العطّار مشروع ثورة إلا إذا كان التغيير الشكلي الذي أدارته أميركا عبر قطر والسعوديّة هو ثورة بحق وحقيق. وهل شكّل الأخوان المسلمون (الذين يتواءمون مع نظام حكم مبارك ومعاداته في مصر، ومع نظام أوسلو في حكم إخوان فلسطين بغزة) في تاريخهم مشروع ثورة قطّ؟
لكن الإصرار على عنوان الثورة ضروري للأهداف الدعائيّة. وكان ياسر عرفات سبّاقاً في اكتشاف الفوائد الدعائيّة لسرقة مصطلحات الثورة قبل تحقيق الثورة، أو حتى قبل البدء بها، وأثناء مقارعتها. فهي أكثر من أي وصف آخر، مثل «المقاتلون من أجل الحريّة» الذي يستسيغه صهاينة واشنطن لجهلهم صعوبة ترجمته السياسيّة واللغويّة إلى العربيّة، تسبغ شرعيّة على العنف وعلى الفساد وعلى الفشل الذريع. وعليه، يصبح كل ما يجري في سوريا ثورة، وكل ما يجري ضدّها ثورة مضادة، فيما ينطبق وصف الثورة المضادة عينه على ما يقوم به النظام وما يقول به الجيش السوري الحرّ على حدّ سواء. وقد نتج من الحديث وكيل المديح عن الثورة كمّ هائل من البيان الذي لم يسبق سكبه على حركة من قبل. لم تحظ حركة سياسيّة ــ عسكريّة عربيّة من قبل بمثل هذا التأييد والرعاية والدعم من قبل فريق أنظمة النفط والغاز وبين كل مثقّفي الليبراليّة والسلفيّين والأخوان بالإضافة إلى رهط يساري متنافر. وحديث الثورة وتصنّع الشغف بـ«الثورة» (هو أكيد تصنّع عندما يصدر مثلاً عن أبواق أميريّة أو سلطانيّة أو ملكيّة أو سلفيّة) يعطي وصفاً مبالغاً على كل جانب من الحراك. وعليه، فإنّ كل كلمة تصدر في مديح «الثورة» تصبح أدباً رفيعاً. وتستطيع أن تتبيّن ذلك على فايسبوك: كل كلمة تُقال في مديح تلك الثورة المزعومة تتلقّى آلافاً من التأوّهات والآهات والترديدات. والمراسل اللبناني، رامي الأمين، كتب مقالة عن إبراهيم القاشوش وشاعريته وغنائيته (وإبراهيم هذا ضحيّة أكيدة لقمع النظام الوحشي). لكن القاشوش اشتهر بقصيدته هذه: «يا بشّار ويا كذّاب، وتضرب أنت وهالخطاب، الحريّة صارت عالباب، ويالله إرحل يا بشّار. يا ماهر ويا جبان، ويا عميل الأمريكان، الشعب السوري ما بينهان، ويالله إرحل يا بشّار. يا بشّار وطز فيك. وطز بياللي بحييك، والله قرفان طلّع فيك... ويالله إرحل يا بشّار». طبعاً، لو قيلت تلك الكلمات ضد أي أمير أو ملك أو سلطان عربي لما تجرّأت أي وسيلة إعلاميّة (غير «الأخبار» ربما) على نشرها. طبعاً، إن غنائيّة القاشوش هي غنائيّة «الثورة» تلك. والصحافة الغربيّة التي تنقل عن الإعلام السعودي والقطري بحذافيره هذه الأيّام، والتي تعتمد على مراسلين ومراسلات لا يميّزون بين الشاورما والبقلاوة، يتحدّثون عن إبراهيم القاشوش كأنّه أحمد فؤاد نجم سوريا، أو ثورة سوريا.
وحديث الثورة له نظريّات وله مزاعم لا غنى عنها. كانت ندوات المجلس الوطني السوري وحملات جمع التبرّعات لـ«الثورة» في الغرب تعتمد على سرديّة واحدة: أنّ «الثورة» في سوريا هي غير ما يُظن، وأنّها ثورة علمانيّة تقودها امرأتان، سهير الأتاسي ورزان زيتوني، وأنّ الإخوان لا علاقة لهم البتّة بالمجلس الوطني السوري ولا بالحراك الشعبي. (والطريف أنّ استعمال اسم سهير الأتاسي لا يضفي أبداً ثوريّة على ما يجري، وقد بدأت مثل غيرها بالخوض في الكلام المذهبي، لعلّ الثورة هي مذهبيّة). والتروتسكيّون المؤيّدون لهذه الثورة يجهدون أكثر من غيرهم، ولهم من النظريّات أطرفها. يعترف هذا التروتسكي بأنّ هناك فريقاً سعودياً _ قطرياً _ أميركياً يخوض حرباً بالواسطة في سوريا، ويعترف أيضاً بأنّ هناك سمات طائفيّة دينيّة غالبة على مجالس تحاول عبثاً الظهور بملابس المدنيّة، غير أنّه يضيف مرحّباً: ولكنْ هناك يساري تروتسكي في حلب، وهناك يساريّان تروتسكيّان في دمشق، والثلاثة ينشرون كتابات جذريّة على موقع خاص بهم، ويمكنهم، بمزيد من الدعم ومن الإلحاح، تحوير مسار «الثورة السوريّة» وخطفها من براثن آل سعود وآل ثاني. الأحلام الدائمة، لا «الثورة الدائمة».
لكن وصفة الثورة تفيد أيضاً في تسويغ جرائم الثورة. إنّ الإعدامات التي وقّع عليها قلم ياسر عرفات في لبنان تمّت باسم «محكمة الثورة». وحازم الأمين كتب معترضاً على الحديث عن جرائم حرب من قبل عصابات الجيش السوري الحرّ في جريدة خالد بن سلطان (والأخير قائد ثوري معروف). أعلمنا الأمين أنّ اسم «الجيش» لا ينطبق تقنيّاً على «الجيش السوري الحر» لأنّه ليس جيشاً بمعنى جيش النظام. وعليه، فإنّ الأمين طالبنا بتخفيف الحكم على جرائم حرب عصابات هذا الجيش، وقطع الرؤوس والخطف المذهبي وقطع الأطراف ورمي الجثث والتمثيل بها بالإضافة إلى قتل المساجين وجرّ جثثهم، كلها تدخل في باب العمل الثوري، وهنا غرض وصف الثورة الذي تحظى به هذه الثورة المُباركة من نظام النفط ونظام الغاز على حدّ سواء بالإضافة إلى مجموعة أصدقاء سوريا وإسرائيل. وكل ضحايا القتل بأيدي عصابات هذه الثورة المباركة هم من «الشبّيحة»، أي أن قتلهم يندرج في باب العمل الثوري المميّز.
والعنف هو العنف الحضاري بكل أشكاله. الذين كتبوا ونظّروا ضد عنف حركة مقاومة إسرائيل، هم الذين يسيلون الحبر ويطرقون على مفاتيح الطباعة في مديح عنف «الثورة السوريّة». والرفيق عامر محسن على حق عندما يتساءل، ماذا سيكون موقف أبواق «الثورة السوريّة» لو أنّ حزب الله ارتكب جزءاً يسيراً من الجرائم التي درجت على ارتكابها عناصر عصابات الجيش السوري الحرّ. ماذا لو أنّ حزب الله قطع رؤوس المتعاملين مع إسرائيل ولو أنّه باشر الخطف على الهويّة وإعدام الضحايا؟ ماذا لو أنّ هذا الحزب شوهد على فيديو يرمي بجثث من على سطح مبنى؟ ومنظّرو المقاومة الحضاريّة السلميّة ضد إسرائيل هم أنفسهم دعاة المقاومة العنفيّة البن لادنيّة في سوريا.
حتى الطائفيّة مقبولة في خضم «الثورة»، وعليه فإنّ علي فرزات هو «فنان الثورة». وكلام علي فرزات الطائفي وحملته المُقزّزة ضد عليا إبراهيم بحجّة أنّها شيعيّة لم يكونا جديدين في مسار الإنتاج الفايسبوكي لمثقّفي «الثورة السوريّة» الذين لا يتورّعون عن استعمال الصفة العلويّة أو الشيعيّة كتهمة يستحق صاحبها القتل. وعليا إبراهيم دافعت عن نفسها وأوضح بعض من دافع عنها أنّها لا تمت بصلة إلى الطائفة المنبوذة، وقد أصدرت بياناً قالت فيه إنّها «تنحني» امام «الثورة السوريّة» (والانحناء أمام «الثورة السوريّة» هو في باب الانحناء أمام أمراء آل سعود الذين يموّلون هذه الثورة). وعليه، فإنّ الطائفة التي وُلد فيها أدونيس (الذي لم أدافع يوماً عن مواقفه السياسيّة خصوصاً في استشراقه المُبتذل في «الثابت والمتحوّل»)، تصبح سبب موقف أدونيس من «الثورة السوريّة».
كيف تكون ثورة ويرعاها النظام السعودي والقطري وحكومات أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسرائيل (من وراء ستار شفّاف)؟ كيف تكون ثورة وقادتها من أمثال أبو إبراهيم ورياض الأسعد وفراس طلاس والإخوان المسلمين وباسمة قضماني (نجمة التملّق للعدوّ الإسرائيلي على الشاشة الفرنسيّة)؟ كيف تكون ثورة وبرنار هنري ليفي والقاعدة يلتقيان على تأييدها؟ كيف تكون ثورة ومجلس التعاون الخليجي من دعاتها؟ كيف تكون ثورة وهي لا تهدف إلا لاستقالة رأس النظام؟ كيف تكون ثورة وهي لا تحمل حتى شعارات ثوريّة؟ كيف تكون ثورة وهي لا تريد تغييراً جذريّاً لا في نمط علاقات الإنتاج ولا في النظام السياسي في سوريا؟ كيف تكون ثورة وشيوخ السلفيّة من أبواقها؟ كيف تكون ثورة وسعد الحريري واحد من مموّليها؟ كيف تكون ثورة وهي تحظى بعاطفة «الجزيرة» و«العربيّة»؟ كيف تكون ثورة وعقاب صقر يدير إعلامها من تركيا؟ كيف تكون ثورة وتمويلها من قطر والسعوديّة والحريري؟ كيف تكون ثورة وسمير جعجع وأمين الجميّل ونديم الجميّل وأحمد الأسير ومحمد كبّارة وخالد ضاهر وهاني فحص وعلي الأمين من مؤيّديها؟ كيف تكون ثورة ووليد جنبلاط واحد من أبواقها في لبنان؟ تحتاج الثورة إلى مشروع ثوري وإلى ثوار كي تستقيم، وهذا غائب بالكامل في الحالة السوريّة.
وكلّ كلام إنشائي مُكرّر يصبح درراً في المعرفة والأدب إذا كان في مديح تلك الثورة. ومديح «الثورة السوريّة» هو اسهل الكتابة هذه الأيّام. أي خاطرة أو تعبير مرّ المذاق يتلقّى الآلاف من التهاني، خصوصاً إذا كان قائله سوريّاً. ويصطف فريق 14 آذار وكتبة أمراء النفط والغاز بالصف للتعبير عن التهاني في كلام القائل. يكفي أن تقول «عاشت الثورة السوريّة» حتى يعلو التصفيق من كل حدب وصوب وتجتمع لجنة «بوكر» العربيّة (النفطيّة) لترى إمكان تنصيبك أديب عصرك. هي الكتابة السهلة زمن تتعطّش صحافة النفط والغاز إلى أية كلمة مديح لهذه الثورة (وهي من أعمال الأنظمة عينها). والتملّق للشعب السوري (وفي التملّق إهانة للشعب السوري) هو السمة العامة. لا ضوابط، ما دام هو حديث الثورة. يكتب إلياس خوري (الذي ترأس تحرير «ملحق النهار» الذي لم يجد خرقاً لحقوق الإنسان في العالم العربي إلا في سوريا، والذي احتضن في صفحاته ريمون جبارة الذي يتقيّأ عنصريّة ضد الشعبيْن السوري والفلسطيني على مرّ السنوات) في «القدس العربي» القطريّة أنّ الشعب السوري «وحده يدافع عن كرامة الإنسان في كل أرض العرب، ووحده يعيد بدمه المسفوك المعنى الإنساني والأخلاقي للسياسة». ولكن، لماذا الشعب السوري وحده؟ هل الشعب الفلسطيني الذي قاوم ويقاوم إسرائيل على مدى قرن واحد من الزمن لا يدافع عن تلك الكرامة؟ ولماذا لا يستحق هذه الصفة وهذا الثناء الشعب البحريني الذي يقاوم وحده ويقف من دون أي تأييد وأي مناصرة (ينسى مؤيّدو النظام السوري أنّ وليد المعلّم ايّد، بالنيابة عن النظام السوري، التدخّل السعودي في البحرين). لو أنّ الدقّة في الكلام والحرص على الحقيقة من متطلّبات الكتابة الصحافيّة لقيل إنّ شعب البحرين والشعب السعودي في القطيف هما اللذان يخوضان معركة ضد أكثر الأنظمة حظوة في نظر الغرب. هما فعلاً وحدهما. وإذا كان الشعب السوري وحده فعلام يجتمع زهاء تسعين دولة لدعم «ثورة الشعب السوري» (طبعاً، إنّ الشعب السوري هو وحده وإن استغلّت دول كثيرة قضيّته). وماذا عن الشعب المصري والتونسي والليبي؟ ألم يدافعوا عن «كرامة الإنسان في كل أرض العرب»؟ إنّ إسقاط حكم مبارك الذي كان ركناً أساسيّاً في النظام الأميركي ــ العربي الذي أنشأته أميركا لحماية إسرائيل كان من أصعب المهمّات الشعبيّة في المنطقة العربيّة. أما عن «إعادة المعنى الإنساني والأخلاقي للسياسة»، فهذا يستعصي على الفهم العادي.
ليس الشعب السوري عصيّاً على الثورة، وليس كلام ذمّ ما يسمّى زوراً «الثورة السوريّة» (أو الليبيّة أو ما تتفق واشنطن وتل أبيب على أنّه ثورة مباركة ــ وقطر والسعوديّة في مؤخرة الركاب طبعاً، ولكن في الواجهة لضرورات التعمية) لينال من الحركة الشعبيّة المعارضة للشعب السوري الذي يستحق الثورة، مثله مثل كل الشعوب العربيّة المُضطهدة. النظام السوري يستخدم كل ما بحوزته من أسلحة في داخل سوريا، بعدما استنكف لسنوات عن إطلاق رصاصة واحدة ضد العدوّ الإسرائيلي. والنظام يقول إنّه يواجه حرباً تشنّها قطر والسعوديّة والدول الغربيّة، لكنه يتناسى أنّه منخرط في محور إقليمي ــ دولي مُواجه. الحرب هي إقليميّة ــ عالميّة واندلاعها كان في مصلحة النظام لأنّه سرق انتفاضة شعبيّة كان يمكن أن تؤدّي إلى أكثر من استبدال بشّار.
الثورة السوريّة ليست مستحيلة أبداً، لكنّها عندما تندلع لن يكون هناك لبس في حالتها ووجهتها. الثورة السوريّة الحقّة ستنبذ دول القمع وسترفض أموال النفظ والغاز. الثورة السوريّة الحقّة لن تقبل بالأطفال في صفوفها، ولا بقاطعي الرؤوس، ولا بأبو إبراهيم ومحترفي الخطف الطائفي، ولا بأوغاد السلفيّة والإخوان، ولا برموز الفساد من أمثال أولاد مصطفى طلاس. الثورة السوريّة الحقّة ستلفظ من صفوفها من يحرّض طائفيّاً (مثلما فعل علي فرزات) وستعتبر أنّ كتابة المرثيّات عن رفيق الحريري (مثلما فعل ياسين الحاج صالح) لا تدخل في نطاق الفكر الثوري. الثورة الحقّة ستركل من صفّها مثقّفي الأنظمة من اليسار والوسط واليمين، خصوصاً الذين ينظّرون للثورة. لن تطلب الثورة السوريّة الحقّة حلف الناتو ليرعاها، ولن تكتب شعارات تملّق لشيوخ النفط والغاز وملوكهما وأمرائهما. الثورة السوريّة الحقّة ستستعيد مبدأ مقاومة إسرائيل، لا مهادنتها (على طريقة حكم آل الأسد) كما يفعل الجيش السوري الحرّ ومجلس الإخوان. لن يتسكّع قادة الثورة السوريّة الحقّة على أعتاب مضارب النفط والغاز، ولن يقبلوا في صفوفهم مجرمين من نظام الأسد بمجرّد انشقاقهم المتأخّر.
الثورة الحقّة وحدها ستحرّر سوريا من حكم الأسد ومن مدّعي الثورة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)