هيبة الدولة. إنها مرة أخرى معجزة المصريين تحاصرهم، «تكبس» على أنفاسهم، ترسم لهم مسارات تضع وجودها في مقابل خضوعهم. هذه هي الدولة، كلما تصور احد انها تموت تعود من جديد. بألف روح وحياة عكس كل ظروف عودتها من مدارها المستبد. تبدو الدولة هنا اهم من وجودها ذاته. كما لو ان لعبة مثل كرة القدم تلعب للمرة الأولى ضد جمهورها. الموضوع لم يعد يخص ترويض الجمهور او ادماجه في النظام.
ولكن في الغاء وجوده.. لتبقى اللعبة بلا جمهور والدولة بلا مواطنين. من سيحضر مباريات الكرة غير الذين عادتهم ادارة الرياضة في حماية الدولة كلها؟ أين ستذهب طاقة شباب الالتراس ان لم تكن في الملاعب؟ كيف ستبني دولة بلا مواطنيها؟ الدولة تفككت قبضاتها القديمة بعد ٢٥ يناير، ومن شقوقها نما المجتمع وقوته الحرة.. والعشوائية معا.. كيف سيعود جسد الدولة بعد تغير الفضاء الذي تعودت على احتلاله؟
لم تكن مجرد مباراة اذن تلك التي كانت بين اشهر اندية مصر (الاهلي) وأحد اندية البترول (انبي) في مسابقة لها اهمية (كأس السوبر). الدولة قررت اقامة المباراة في الصحراء بعيدا عن القاهرة بمئات الكيلومترات وفي حراسة ٤٥ الف جندي مهمتهم قطع الطريق على زحف الالتراس الاهلاوي لكي لا يصل الى ملعب برج العرب حيث تقيم المباراة.
الالتراس غاضب لأن الكرة ستعود وحقوق شهداء الالتراس لم تعد. العودة هنا لصالح من؟ شركة الاتصالات الراعية خسرت جزءا من جمهورها. والاهلي، نادي الوطنية المصرية، بدا قطّاً في الحديقة الخلفية لهذه المافيا. لم تكن مجرد مباراة. انها بروفة للمعارك المقبلة.
الاطراف كلها تشكلت: دولة قديمة تريد العودة ومد خطوط شبكاتها مع مجموعات جديدة، ومافيا تقيم جسورها كما كانت تقيمها ايام حسني مبارك، ومجموعات شباب خرجوا من اجل ثورة الحرية وفقدوا زملاء واصدقاء برصاص الدولة.. وتحت رعاية المافيا.
المعركة عنوانها لدى الدولة القديمة و المافيا: هيبة الدولة.
ولدى شباب الالتراس: القصاص.
هذا هو الفرق بين العقل الذي لا يزال مسيطرا على مواقع في السلطة وبين شباب تتربى خبراتهم في الشارع ويبحثون عن حقوقهم في مواجهة تحالفات قديمة /جديدة.
هيبة الدولة مفهوم قديم يروَّج له في اجهزة الترويض والتضليل على انه المفهوم المطلق والوحيد كما كان قانون الطوارئ لا بديل عنه والرئيس لا يمكن المساس به و هيبة الشرطة اساس الامن. مفاهيم سلطوية تتسرب عبر اجهزة الدعاية للنظام في المدارس والتلفزيونات والصحف إلى درجة لا تجعلها مجرد مفاهيم يمكن تغييرها... لكنها اقدار او حقائق مطلقة.
ماذا تعني هيبة الدولة؟ هل تعني ان العامري وزير الرياضة يقول ان الرئيس المرسي يريد عودة النشاط الرياضي.. فيعود من دون اي اعتبارات اخرى؟ هل تعني ان ينفّذ القرار ولو كان خطأ او اعتداءً على دماء لم تجف بعد؟ هل تعني ان الدولة لا تُلوى ذراعها، كما قال مستشار الرئيس للشؤون القانونية في حوار تلفزيوني؟
المستشار والوزير والرئيس.. كلهم يرددون مقولات قالها مبارك واباطرته في كل مكان، وهم جميعا ابناء هذا الخطاب السلطوي الذي انقرض من الدول المحترمة التي تجعل هيبة المواطن هي المحترمة.
عدت قبل ايام من اوكرانيا وفيها ضابط الشرطة يمنح التحية للمواطن قبل ان يطلب منه رخص القيادة او يوقفه، لأنه هو واجهزته ورتبه الأعلى ورئيسه يحصلون على مرتباتهم من ضرائب هذا المواطن. المواطن سيد على الدولة. وحق موطن واحد ضائع لا يجعل للدولة هيبة. وكم مواطن ضاعت حقوقه منذ قُتل المتظاهرون في جمعة الغضب وحتى ثورة الالتراس على مباراة برج العرب؟
هيبة المواطن هي التغيير المطلوب من دولة التسلط إلى دولة ديموقراطية تعرف الحدود بين الحقوق والواجبات ولا يعتبر فيها القانون اداة عقاب بل اداة عدالة. فرق كبير بين أن اشعر بأن الدولة تطبق علي القانون لأنني ضعيف، او اكون محميا بنفوذ وجبروت وثروة فأجد من يحميني ويمنحني القلادات.
لم يكن المطلوب هو وقف المباراة في حد ذاتها.. لكنها وسيلة ضغط من اجل اعادة المحاكمة والكشف عن المؤامرة التي جرت في بور سعيد. ليس بور سعيد وحدها، ولكن من جمعة الغضب وماسبيرو وحتى العباسية.
اين القتلة؟ اين عدالة الثورات في كسر اطواق النفوذ عن المجرمين المنفوخين في مقاعد السلطة؟ العامري وزير الرياضة يتصور أن هيبة الدولة اقامة المباراة وهي خيبة ثقيلة لأنها تعني ببساطة انك نفذت قراراتك وارضيت شبكات المصالح، وساهمت في الغضب ضد دولة. والمافيا التي تحرك مرتزق الاعلام الرياضي، محدودة الذكاء لانها تنظر نظرتها الضيقة، نظرة تربت في ظل نظام بلا كفاءة يطلب منها الدعم السياسي وترويض الجمهور في مقابل منحها تراخيص بجمع الثروت.
المافيا محدودة الخيال، فهي تقيم العداء بين اللعبة التي تدر عليهم الملايين بالعداء الواضع مع جمهور هذه اللعبة.
من اجل مكاسب سريعة يصنعون مؤامرة جديدة لأنهم يتصورون ان خيبة الدولة ستحميهم من جديد.
دولة تضيع فيها الحقوق لا هيبة لها. دولة يحمي فيها القتلة لا هيبة لها. دولة يحرض فيها الضباط الاهالي ضد الالتراس لا هيبة لها. دولة تصنع حربا اهلية لا هيبة لها. دولة العدل فيها غريب لا هيبة لها. دولة تحشد كل امكاناتها من اجل مباراة كرة بلا اهمية لا هيبة لها. دولة تعاند مواطنيها لا هيبة لها. دولة هيبتها عند مافيا الملاعب ومرتزقة الشاشات الرياضية لا هيبة لها. دولة تضع شرطها في قهر مواطنيها لا تنظيم حياتهم.
دولة تنظر لمواطنيها قطيعا من عبيد وضحايا محتملين.
الدولة تحاول استعادة مساحتها من جديد. تسندها مافيا المصالح بالتطبيل والبروباغندا عن المصلحة والالة التي لا بد ان تعاود السير والاستقرار الضروري لاستعادة الحياة اليومية من ارتباكها.
وهنا اهمية الوعي البسيط الذي مثله نجم الكرة محمد ابو تريكة حين شرد وقرر وحده عدم لعب المباراة.
هو نجم استثنائي لأنه لمع في زمن ضد قوانينه. يرى الفرد العادي في ابو تريكه قوة انتصاره على كل العجز وقلة الحيلة، يخطف بموهبته ما يمكنه ان يصنع اكثر من هدف في مباراة، له سحر خاص.. ليس ابن الصناعة الكبيرة لنجوم الرياضة، لكنه يذكّر دائماً بموهبة العبور من مستنقعات الفقر كما كانت نجوم البرازيل في سنوات ماضية. يضاف الى سحر الموهبة جاذبية تعبر حواجز الفقر والمرض.
لم اتعامل معه يوما على انه «قديس» كما يسميه الجمهور الاهلاوي، ولم اره شيخا او «إخوانجي» كما يفسر قطاع واسع اهتمامه بتفاصيل متعلقة بالعبادات او بالحرص على اظهار علامات التدين علانية امام الجمهور.
ابو تريكة ابن موهبة طارت من موقعها في عالم الشهرة والمال، لكنها بقيت بعقلها كاملا خارج هذا الانتقال.
لم يصعد ابو تريكة السلم الاجتماعي ولا انتقل الى رتبة البارونات، وبقي باحترافه قريبا الى حد كبير من موهبة الحواري، بعيدا الى حد ما عن تأثير صناعة الكرة بما تمنحه من تطوير في المهارات و بناء للعقل والجسد معاً.
بدا ابو تريكة بالنسبة لي قادماً من زمن قديم ومعجزته ان يلمع في زمن لا يعترف بالحواري ومواهبها بل لم تعد سوى مصدر للجرائم و التعاسة. ابو تريكة استغنى عما تمنحه النجومية من دخول في عالم «البارونات..»، كما فعل الخطيب مثلا او كما حاول نجوم اقل موهبة منه. هو بارون خارج مجتمع المصالح الذي نسج شبكته بين الرياضة والبيزنس والسلطة.
ابو تريكة بعيد عن هذا العالم بأبيضه وأسوده. ما زال مقيما عند حسه الاول، ليس بعيدا عن عالم البارونات لكنه ليس منهم. وهذا تقريبا ما جعله يقف وحده ضد هجمة البارونات من اجل مباراة السوبر.
لدى ابو تريكة ما يحركه غير المصالح. لديه مشاعر لم تدخل في ماكينات او دخلتها وارتاحت في البقاء خارجها.
هذا ما يجعله يرى اللعبة لعبة وليست ماكينة تدر الثروات على البارونات. لعبة يمكن ان تقف احتراما لمشاعر او بحثا عن حق.
ابو تريكة لا يزال يلعب بينما كل الوسط المحيط به يبحث عن دوران عجلة المصالح. وسط رياضي بالكامل لا توقفه تفاصيل مذبحة جمهور اللعبة.. ولا يهتز لأن مؤامرة التغطية على مرتكبي المذبحة لا تزال مستمرة.
ابو تريكة وحده مع الالتراس ضد كل من حولوا الصناعة الى مافيا. مافيا تمتص كل ما في اللعب من متعة وتحوله الى حرب مصالح صغيرة تربط بين اتحاد الكرة وبين مجالي ادارة النوادي وعكاكشة الاعلام الرياضي. دائرة واحدة
لم تخجل حينما سارت خلف جمال مبارك في كارثة الجزائر ولا عندما قادت الثورة المضادة دفاعا عن نظام مبارك، الآن عندما يوجهون حملة ضد الضحايا لصالح القتلة.
ابو تريكة وحده مع الالتراس في مواجهة مافيا لم تكن الا جزءاً من نظام فاسد ومستبد ادار البلد كله كأنها عزبة املاك.. واعتبر منتخب البلاد لاعبين في سيرك ترويضه للشعب. هناك طبعاً جمهور يريد ان ينسى. جمهور تسيطر عليه مقولات فاسدة ترى ان ترسيخ القيم واستعادة الحقوق سيوقفان السير ويعطلان الحياة.
لم يعد لدى الالتراس سوى الضغط لاستكمال كشف مؤامرة اشترك فيها المجلس العسكري واجهزته كلها. هذه المؤامرة لم تكشف ولن تكشف الا بالضغط والمزيد من الضغط.
الالتراس ليسوا وحدهم. هم طلاب المتعة الاكثر تعصباً لها، يريدون توقيف سبب متعتهم كما يفعل ابو تريكة تماما عندما يرفض اللعب على حساب ضياع دم الشهداء. وهذه القدرة على الاستغناء، او الافلات من جاذبية المافيا وخطابها المبتذل.. هي من اسباب البهجة.



سر استمرار الغضب

عند الإخوان كتاب محفوظات. تجد الرد واحداً عند كل من تتحدث معهم، كأن ألسنتهم وضعت على أجهزة تسجيل، من دون أن تمر على الوعي... أو كأن الماكينات احتلت فجأة الفراغ الذي يمكن أن تفكر به.
لم تكن الثورة من أجل تغيير أشخاص، فسدوا بعدما كانوا طيبين في بداية حكمهم، بأشخاص طيبين لا نعرف مدى قابليتهم على الفساد. مبارك لم يفسد لأنه ليس من الإخوان أو لأنه لا يسير على نهج حسن البنا أو لا يذهب الى الجامع خمس مرات أو لأنه لم يحصل على بركة المرشد أو يقبّل يديه أو يعلن له البيعة ويبدي له السمع والطاعة.
مبارك فسد لأن نظام الدولة سمح له بالتحول من رئيس أو موظف يدير المؤسسات الى ديكتاتور يملك كل المفاتيح ويستطيع التكويش على كل شيء لصالحه ولصالح حاشية يمنحها تراخيص بالثروات في مقابل الولاء.
ولهذا لم يكن المزعج في تعيينات المرسي وجود اسم مثل صفوت حجازي في مجلس حقوق الإنسان أو ترشيح نادر بكار لعضوية المجلس الأعلى للصحافة أو تصعيد حاشية من مكتب الإرشاد في مواقع المحافظين. ليس المهم أسماء بعينها، رغم أن بعضها كان كوميديا سوداء وأخرى ملونة وبعضها فاقع... كما لم يكن مهماً بالنسبة إليّ ظهور أول مذيعة محجبة في نشرات الأخبار... ولكن المهم استمرار العقل الذي يريد احتلال المواقع القديمة بهياكلها وقوانينها القديمة نفسها.
وكأن مصر قامت بثورة تمثل خيالها الجديد من أجل دولة ديموقراطية حديثة، والإخوان قاموا بثورة موازية خيالها خيال كومبارس يريدون احتلال مقاعد النجوم. ليس المهم أن يكون الرئيس إخوانياً، فهذه طبيعة أنظمة تداول السلطة. لن يأتي كل مرة رئيس على مزاج أو هوى الجميع. لكن المهم أن الرئيس يسير على خطى النظام القديم مع استبدال أشخاص بأشخاص. ربما يكون نادر بكار لديه بعض الذكاء ليعرف أن وجوده في مجلس الصحافة
سيفسد صورته العامة التي يبنيها، وهو ما لم يكن مثلاً لدى أسماء أخرى تفتقر إلى الذكاء السياسي... لكن العقل الذي اختار منحها موقعاً في تركيبة سياسية جديدة لم تفعل سوى أنها منحت الجماعة زهوة الانتصار الذي كان
لديها عندما هبط الكتاتني من البي إم دبليو أمام أحد مقارّ الجماعة وهتفوا له «يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء».
هذا هو الخيال الذي ينشر القلق واليأس الآن.
لم يشعر أغلب الثوار والمتحمسين للثورة من قطاعات كانت صامتة بالفرح، لا لأن لديهم كراهية للإخوان... ولا لأنهم يشعرون بالغيرة من وصولهم الى مقاعد الحكم... ولكن لأنهم عاشوا المسرحية نفسها من قبل ويرون ما ثاروا ضده يتكرر ويعاد نسخة قريبة الى الأصل. لماذا لم يفكر أحد من أهل الحكم في إعادة تصور للمجلس القومي لحقوق الإنسان وفك ارتباطه بالسلطة بدلاً من تغيير النخبة المختارة؟ لماذا الحفاظ على مجلس قهر الصحافة واستمرار قبضته المهيمنة بدلاً من تحرير الصحافة وتفكيك خطوط تبعيتها للدولة؟ هل المشكلة هي استبدال قطع شطرنج موجودة الآن في طرة... بقطع شطرنج ترضي الجماعة الساكنة في المقطم أو مدينة نصر؟ هل المهم أن يعلن وزير الإعلام عن وجوده بأول مذيعة محجّبة في نشرات الأخبار، مع الاحترام للمذيعة والاستياء من اختزالها في كونها تضع قطعة قماش على رأسها...؟ تحولت المذيعة الى إعلان عن وجود الإخوان في ماسبيرو، واستمر إعلان الوجود بلجنة رقابة على الفضائيات، وهذا كل ما لدى وزير تربى في أحضان الإعلام الموجّه من مكتب الإرشاد الى جمهوره.
ليس لدى الوزير ما يطوّر به الإعلام ويحرره من ماكينات التضليل إلا نقل تبعيته من الحزب الوطني الى مكتب الإرشاد؟ إنه خيال قصير المدى. خيال ضد الجماعة نفسها. يضعها في مرمى نيران قطاعات في المجتمع قدمت شهداء لكي تتحرر مصر من استعمارها الوطني. لا نريد استبدال مستعمر بمستعمر. لدينا ما يجعلنا دولة حديثة... لا دولة في أسر محدودي الخيال والباحثين عن غنيمة في الصناديق.
وهذا سر استمرار الغضب.



كوميديا أزمنة الكهوف




قبل أن نضحك بعد قليل... ما هو حجم الخسارة والألم؟ كوميديا وعبث يومي... لكنها أيضاً واقع الحياة بعد الخروج من حفرة مبارك. كوميديا الصدام مع القادمين من أزمنة الكهوف. كم ستدمينا الصدمات قبل أن نستلقي على سرير ونضحك...؟ كم مونولوجست فقدتهم مصر وتحوّلوا الى سياسيين ورموز بالنسبة إلى الرأي العام...؟ المونولوجست ينتقم عادة من جمهور لم يقبل به كمونولجست، لكنه قبل به كداعية أو مذيع أو مسؤول يتكلم كما لو كان يقدم اسكيتشات ثقيلة الظل. هتلر انتقم بعد مروره بمرحلة الرسام. كان رساماً وفشل في الحصول على جائزة. الفشل لم يجعله ينتقم، لكن رغبته في الحرق كانت أقوى من أن يتحمله وحده فأشرك الناس كلها... لم يقبل بنتيجة المسابقة فأراد أن يكون وحده لجنة تحكيم تختار من يعيش ومن يموت في سبيل بشرية قوية... كاملة الأوصاف.
أراد هتلر إلغاء المنافسة. أراد أن يكون وحده... في هذا العالم. عندما يظهر هتلر الآن... تضحك الناس.
كوميديان يثير الضحك بعدما أحرق العالم كله وتسبب في قتل 80 مليون إنسان بسبب هلوساته في انتقاء البشر وتقسيم العالم. يثير الضحك لأنه أصبح خارج زمن. كم سياسي أو مذيع أو من يحمل تراخيص بالتصريح أو صاحب سلطة نكتشف فيه المونولوجست الكامن في أعماقه.
كم شيخ يمكن أن يحرق بلدة كاملة بسبب كلمتين ينسبهما الى الله... والقرآن... وسنضحك عليه بعد سنوات، لكن بعد أن تكون جريمته اكتملت. كم سياسي يروضنا اليوم بكلام يستخدم فيه الدين ليعيدنا إلى الأقفاص التي خرجنا منها يوم 25 يناير... وسنضحك عندما نفيق من غيبوبته، لكن بعد أن يكون قد كرهنا في حياتنا.
كم صاحب مصلحة قذرة لا يزوره الخجل في المنام حتى شنّ هجوماً من أجل سريان مصلحته وباسم هيبة الدولة والوطن والعجلة التي لا بد أن تسير... وسنكتشف كم كانت وصلاته من فن الانحطاط الصريح... لكن بعد أن يكون قد جعلنا نشعر بأننا في شبكة عنكبوت سام لا فكاك منها.
نضحك الآن على مبارك والمافيا المحيطة به... لكن بعدما ردموا قيماً وأفكاراً كان يمكن أن نكون فيها كائنات أجمل وأرواحنا أخف. وسنضحك بعد سنوات على وصلات ردح شوبير وجوقة البغبغانات في شاشات الرياضة، جوقة صوتها كريه، لكنها تجد من يسمعها، تجد الجزء الذي فسد في الـ 30 سنة جاهزاً للاستقبال.
سنضحك... بعد سنوات وبعد أن تكون الركاكة قد أكلت جزءاً من القدرة على السعادة والاستمتاع بالرياضة واللعب.
وربما سنضحك على الشيخ الذي يسمي هلوساته الجنسية فتاوى ويعتدي بها على الشهيرات... لأنه ليس إلا محترف شتائم يطيل لحيته ويبدأ الشتيمة وينهيها باسم الله ورسوله... لكن اكتشاف ما ضحكنا سيتسهلك زمناً نتخلص فيه من إرهاب الفتوات باسم الدين.
كم زمن سنعيش في دورة حكم المعقدين نفسياً والفخورين بتخلفهم وجهلهم بعد سنوات من حكم المافيا واللصوص؟
الى متى سنتحمل السلطة كما هي... تشعر بالقلق وكلما ازداد قلقها زادت رغبتها في البحث عن أدوات التسلط السريع... وليس أمامها إلا دولاب مبارك...؟
كم مرة سنتحمل صدمات مثل التي تحدث كلما نشر المستشار أحمد مكي وزير العدل تصريحاً في الصحف؟
... هل يمكن أن نصدق أن رجلاً دافع عن استقلال القضاء ودعمته الصحافة أن يشتمها في أول لقاء وبشكل عمومي؟ هل يمكن أن نتعلم من رجل قيم الاستقلال عن الحاكم ثم نجده يريد أن يقنعنا بأن الطوارئ مذكورة في القرآن...؟ هل كانت المشكلة مع حاكم بعينه أم أن هناك حاكماً سلطاته مذكورة في القرآن وحاكماً تحاربه بالقرآن؟
... كم صدمة ستحتملها قدراتنا؟ كم دقيقة ستضيع مع الدهشة من حنين حسن البرنس إلى الفرقعات الدرامية في السياسة؟ كم سنحتمل من استعراضات وزير الإعلام الذي تربى في مزارع التوجيه المعنوي للإخوان؟ استعراضات لم يحدد دوره فيها. هل هو الوحش القادم لإخافة الإعلام، أم أنه المعد الذي يختار الضيوف في البرامج والكتاب في الصحف الحكومية؟ استعراضات وزير التوجيه المعنوي... لم تصل الى مستوى استعراضات مستشار الشؤون القانونية الذي يريد ملء فراغ مشاهير التفصيل القانوني ليكون مقصدار العهد الجديد...
سنضحك على هذه الاستعراضات ربما أقل من أباطرة المهنة مثل فتحي سرور ومفيد شهاب... لكن بعد أن نكون قد ضيّعنا فترة في فقدان الثقة في قانون لا يزال لعبة في يد السلطة.