بعد الثورات في تونس ومصر، ومع تمدد الموجة الثورية إلى بلدان أخرى في العالم العربي، تزايد الحديث عن بداية حقبة جديدة عربياً لا دور لجماعات العنف الجهادية فيها؛ إذ إنّ التظاهرات التي خرجت في ميادين التحرير والتغيير، كرست قدرة الشعوب على التغيير سلمياً، كما أكدت المطالب المدنية والتحوّل الديموقراطي لتأمين حقوق الجميع في أوطانهم، وهو ما جعل غالب التحليلات تذهب باتجاه القول بنهاية تنظيم القاعدة كحالة شعبية وكقوة مؤثرة في مسار الأحداث في المنطقة العربية والعالم.لا شك أنّ في هذا التحليل وجاهة، فقدرة التنظيمات الجهادية على تجنيد الشباب تخفت حين يكون عند هؤلاء الشباب خيارات أخرى متاحة. وفي ظل سقوط أنظمة القمع الأمني ووجود فرصة للعمل المدني والسياسي، لا يعود خيار العنف والعمل السري خياراً وحيداً أو ذا أولوية على غيره، ويمكن بالطرق السلمية تحقيق ما لم يتحقق أصلاً عبر العمل المسلح.
سبب آخر يعزز هذا التحليل القائل بنهاية القاعدة على يد الثورات في تونس ومصر، هو انخراط عدد من رموز السلفية الجهادية ومن الجماعات التي كانت تنادي بالعنف في مواجهة الدولة في العملية السياسية الجديدة، وتأكيدهم الديموقراطية نهجاً ومساراً وحيداً لممارسة العمل السياسي. جعل ذلك العديد من المحللين يعتقدون أنّ التحوّل باتجاه الديموقراطية وحرية العمل السياسي سيدفع الكثير من الجهاديين إلى تغيير قناعاتهم والالتحاق بالأنظمة العربية الجديدة، وبالتالي سيشكل هذا الأمر نكسة حقيقية للتنظيمات والخلايا الجهادية.
لكن ما حدث في ليبيا وسوريا أظهر إشكالاً حقيقياً في هذا التحليل؛ فقد فشلت التظاهرات السلمية في الوصول إلى غاياتها بإسقاط الأنظمة كما حدث في تونس ومصر، وتحوّلت الثورات إلى العمل المسلح في مواجهة بطش النظامين الليبي والسوري. وهكذا تعرضت نظرية التغيير السلمي إلى خلل كبير، وظهر أنّ العنف يمكن أن يُستدعى مجدداً في حالات معينة. فعاد الحديث عن دور السلفية الجهادية إلى الواجهة مجدداً، وصار النقاش حتى في الغرب بشأن جدوى تسليح الثوار في ليبيا ثم سوريا، ما دام كثير منهم من الجهاديين.
اليوم على امتداد الخريطة العربية يمكن رصد عودة واضحة للتيار الجهادي. في تونس مواجهة حادة بين الحكومة التي تقودها حركة النهضة الإسلامية، والسلفيين (وبعضهم من الجهاديين)، وفي هذه المواجهة مؤشر واضح على رفض الجهاديين فكرة الديموقراطية ومطالبتهم بفرض الشريعة بالقوة. وفي اليمن تنظيم القاعدة حاضر بقوة في عدة مدن يمنية، ولا تزال بقايا النظام اليمني الحاكمة تخوض المعارك معه.
في ليبيا تنتشر الجماعات المسلحة في طول البلاد وعرضها وتقوم بالسيطرة على أماكن بعينها وفرض معتقداتها على السكان.
كذلك تقوم بقتال بعضها أحياناً والقيام باعتداءات في أحيان أخرى كما حصل في حادثة القنصلية الأميركية في بنغازي، التي راح ضحيتها السفير الأميركي هناك. وفي سوريا تنشط مجموعات تابعة للقاعدة ودولة العراق الإسلامية، وشوهد علم القاعدة مرفوعاً في أكثر من مكان (مثل معبر باب الهوى الحدودي). وهكذا يمكن القول إنّ التيار الجهادي يشهد عودة جديدة إلى الساحة العربية على عكس ما كان متوقعاً من ضموره وانتهائه بعد الربيع العربي.
عودة التيار الجهادي لها عدة أسباب، أحدها عدم الاقتناع بالمسار الديموقراطي الذي تسلكه الثورات العربية، ورفض الجهاديين لانخراط الإسلاميين في هذا المسار. وهنا يأتي اتهام الجهاديين للإسلاميين المنخرطين في العمل السياسي الحالي بالتخلي عن الشريعة أو بالتبعية للأميركيين والغرب، وهو ما يجعل المواجهة بين الطرفين قائمة كما يحصل في تونس.
تعود السلفية الجهادية أيضاً من بوابة ضعف السلطة المركزية كما يحصل في ليبيا واليمن، وتنامي الشعور بقدرتها على الإمساك بزمام الأمور في بعض المدن على الأقل. وليس بالضرورة أن يكون هذا الانتشار بتوجيه قيادة القاعدة، فالخلايا الجهادية تتصرف وحدها، وهي في كثير من الأحيان غير مرتبطة أصلاً بقيادة القاعدة ولا تشترك معها إلا في الأفكار. وفي المحصلة ساعد تحوّل ثورات بعينها إلى مسلحة كما في ليبيا وسوريا وضعف السلطة المركزية وانتشار الفوضى في إعطاء الجهاديين فرصة للبروز، بل والتخريب أيضاً بسبب اختلاف أجندات الجهاديين عن أجندات المقاتلين «الوطنيين» من الأهالي وغيرهم.
السبب الأكثر تأثيراً في قدرة الجهاديين على التجييش والتعبئة من جديد يتمثل في تصاعد الاحتقان الطائفي في المنطقة العربية، ووجود ساحات يمكن فيها التعبير عن هذا الاحتقان عنفياً كما في العراق وسوريا. وهكذا تحولت الساحتان العراقية والسورية إلى بيئتين مناسبتين لعمل الجهاديين، وجُيِّش شباب عرب باستخدام الخطاب الطائفي ليذهبوا إلى سوريا للقتال هناك، ومن السهل ملاحظة انخراط الجهاديين في إشعال نار الاحتراب الأهلي في سوريا كما في العراق.
تنشط السلفية الجهادية في البلدان التي تعاني الفوضى والحروب الأهلية، وتبدو أسباب عودتها قابلة للاستمرار لفترات طويلة، وخاصة الاحتقان الطائفي وما يمكن أن ينجم عنه من تداعيات على مستقبل المنطقة، وخاصة في الشام والهلال الخصيب، ويبدو أن اليمين الأميركي سيستفيد كثيراً من هذه العودة للحديث مجدداً عن الحرب على الإرهاب وإعادة الاعتبار إلى خطاب بوش الابن.
في الوقت نفسه، تستفيد بعض الأنظمة العربية في إثبات صلاحيتها أمام الأميركيين عبر الانخراط مجدداً في دعاية الحرب على الإرهاب. ومن خلال تخويف الأميركيين وتخويف الداخل من الإرهاب باعتباره خطراً داهماً، ستسعى هذه الأنظمة، ولو بالفبركات الإعلامية، لإجهاض أي خطاب يتحدث عن التغيير السياسي برفع شعار أولوية المعركة ضد الإرهاب.
لم يخطئ التحليل القائل بنهاية فكر القاعدة عبر الانفتاح السياسي وإنشاء نظام ديموقراطي، لأنّه يجعل قدرتها على التحشيد والتعبئة أصعب بكثير. لكن الفتن المذهبية والاحتراب الأهلي يفتحان باباً جديداً للفكر الجهادي، وبالتالي لا بد من العمل على مواجهة الخطاب المذهبي، من دون إغفال أهمية قيام الدولة العربية بمسؤولياتها في مواجهة المشروع الصهيوني ورفض الهيمنة الغربية في المنطقة لسد باب آخر يمكن للجهاديين تجييش الشباب من خلاله ليواجهوا الغرب بالطريقة التي تعزز هيمنته وتضعفنا.
لا ينتهي الإرهاب في أي مكان، ولا ينتهي التطرف ولا يفنى، وهو سيعيد إنتاج نفسه في كل مرة لأسباب مختلفة، لكن إضعاف هذه الحالة أمر مطلوب، ولا يتحقق ذلك إلا باستراتيجية تخرج من سياسات القمع الأمني التعسفي الذي انتهجته أنظمة ما قبل الربيع العربي إلى تغطية الأبعاد المختلفة: السياسية والاقتصادية والثقافية.
* كاتب سعودي