ابتليت الثورة السورية بأسوأ المعارضات، فهي بجناحيها «الداخلي» و«الخارجي» المتداخلين لديها البلاء نفسه: عدم الثقة بقدرة الشعب على الانتصار، وافتقارها إلى أيّ برنامج عام وأهداف محددة للثورة. لذلك تتضمن أوراقهما إما استجداء تدخل عسكري بسبب همجية النظام، وإما حواراً سياسياً بسبب همجية النظام، كذلك يفضي إلى الانتقال نحو نظام ديموقراطي... أما الثورة فهي مجرد حراك شعبي لن يؤتي أكله ـــ إن أتاها ـــ أكثر من خلخلة جزئية لمرتكزات النظام، هذا هو منطق هذين الجناحين العاجزين.
الثورة أيها السادة، عملية تاريخية، تتطور بالتتالي وتتوسع تباعاً منذ أن بدأت وإلى الآن، فكفوا عن تمثيلها، فقد أعطتكم وقتاً كافياً للتمثيل، لكنكم رسبتم في الامتحان، فلا أتيتم بالتفاف شعبي حولها عابر للمدن، ولا أمّنتم التفافاً شعبياً دولياً حولها من النقابات والاتحادات والمنظمات الشعبية، ولا قدمتم برنامجاً وطنياً جامعاً لها، يخص الاقتصاد وشكل النظام والقضايا الوطنية واحتلال الأرض من قبل إسرائيل. بل أمعنتم في إحداث تندر واسع عليها، وتم تشويهها بخلافاتكم وصغائركم. النتيجة واضحة: الثورة معنية بأن تمثل نفسها، وأن تفرز قيادة سياسية ميدانية عسكرية لها، وفي الداخل السوري أساساً، وكلّ استطالة خارجية يجب أن تكون تابعة للداخل. هذه القيادة معنية بصياغة برنامج وطني شامل لكل مستويات المجتمع، ما يتيح أوسع التفاف شعبي حولها، والتخلص من اللغو المتكاثر عن انقسام أهلي يطيّف الثورة والنظام، وبما يؤدي إلى إسقاط النظام والبدء ببناء دولة جديدة.
أول قضية لا بد من التركيز عليها هي قضية شكل النظام السياسي، فهو سيكون نظاماً وطنياً ديموقراطياً، يستند إلى الشعب في تشكله، وإلى المواطنة في اختيار تمثيلاته المختلفة، وأن يصار إلى فصل الدين عن الدولة والسياسة، وأن يكون الدين شأناً شخصياً، لا يحق لأحد احتكاره باسم الدستور أو القانون أو الحزب السياسي أو أية جماعة جزئية. وبالتالي سيكون هناك حقوق متساوية لجميع الأفراد وفقاً لمبدأ المواطنة، بغض النظر عن الدين والقومية والجنس والثروة والعمر.
ثانيها، سيتم إيجاد فرص عمل لجميع السوريين العاطلين من العمل، ولن يتم التخلي عن أية وظائف قائمة في النظام القديم، كائنة ما كانت، وكل فصل من الوظيفة سيكون لأسباب قانونية، مع تعويض للمواطنين، دون أن يكون السبب دينياً أو قومياً أو جنسياً. وحتى قضايا الفساد سيتم إجراء محاكمات لها وفقاً للقانون، وبالتالي من أهداف الثورة بناء اقتصاد وطني صناعي وزراعي أساساً، وتالياً خدماتي بما يؤدي إلى بناء تنمية ذاتية تؤمن مرتكزات دولة حديثة بالفعل ولصالح السوريين كافة.
ثالثها، تتكفل الدولة عبر شركاتها العامة وشركات القطاع الخاص المحلية، بإعادة بناء ما تم تهديمه من بنية تحتية وسكن للمواطنين وعلى نفقتها، ودون إدخال أية شركات عالمية باسم إعادة الإعمار، بالشراكة مع قلة من التجار السوريين الممثلين لتلك الشركات. وهذا البناء، سيكون لكل الأماكن التي تم تدميرها وخربت لأسباب متعددة. رابعها، التعويض الكامل لأسر الشهداء والمعتقلين، كائناً من كانوا، وتجريم كل الذين قتلوا السوريين بعيداً عن المعارك، لغرض ديني أو سياسي أو عنفي أو ما يناقض الدستور والقوانين. كذلك محاكمة كل من سرق ونهب ودمر بيوت السكان الآمنين، أو أثرى نتيجة استغلاله الثورة. وهذا الفعل لن يكون لسبب طائفي، وسيكون وفق محاكمات عادلة وعلى أساس الدستور.
خامسها، جمع كل السلاح الذي حمله الجيش الحر وكل التشكيلات العسكرية المعارضة، وإيجاد وظائف لهؤلاء الأشخاص، ضمن هياكل الجيش الوطني العام أو ضمن مؤسسات الدولة، ومنع مظاهر التسليح حالما يسقط النظام، وإتمام عملية تسليم بقايا النظام القديم لأسلحته ومراكزه للسلطة الجديدة. ويمنع تشكيل جيش جديد، فيه أي شكل من أشكال التمييز، القومي أو الديني أو الجنسي. وهو ما يجب القيام به، حالما يتمّ الانتقال من الوضع الراهن للصراع إلى الشكل الجديد للوضع السوري، بغض النظر عن شكل ذلك الانتقال.
سادساً، الإقرار بحقوق الأكراد في الجنسية والتعليم والثقافة والسياسة، ضمن إطار وحدة سوريا، أرضاً وشعباً، مع الإقرار بأنّ الأكراد أقلية قومية في سوريا. وفي مرحلة ما بعد إسقاط النظام، فإنّ العلاقة بين القومية العربية والأقليات القومية ستكون على أساس المواطنة والتعويض للأكراد الذين انتهكت حقوقهم تاريخياً، وهذا يتم التحقق فيه، عبر قضاة وشخصيات معروفة بديموقراطيتها ونزاهتها الأخلاقية وليس في تاريخها نزعة قومية متعصبة، ولها باع طويل في فقه الدساتير والقوانين الدولية والمحلية.
هذه بعض القضايا، التي تشكل المفتاح الأولي لأيّ برنامج وأهداف للثورة؛ ولكن في ظل الصراع الدموي العنيف الذي يجري حالياً، وبروز جملة مشكلات ميدانية، فإنّ هذه المشكلات، لا بد من وضع آليات منسجمة مع ما ذكرناه أعلاه، بما يؤدي إلى انتصار الثورة، التي صارت مجريات الواقع لصالحها.
أبرز تلك المشكلات، الانقسام الحاصل بين تيارات المعارضة المسلحة، وتنوع ولاءاتها السياسية والمالية، وهو ما يفترض ضرورة تشكيل قيادة عسكرية مشتركة في عموم سوريا، وتهميش أية تشكيلات عسكرية لا تنضوي تحتها، وتهميش كل التشكيلات العسكرية المقامة وفق أصل طائفي أو كواجهة لدول إقليمية، وإبعاد جميع الأشخاص غير السوريين عن الأراضي السوريين، في حال وجودهم، والعمل على إنهاء حالة تعددية المرجعيات الدينية لصالح عقيدة وطنية، تسلّم بأنّ صراع هذه القوى هو أمر يخص مرحلة الثورة، وبأنّه في لحظة إسقاط النظام، ستبدأ مرحلة جديدة تنتهي فيها مبررات وجود تلك التشكيلات. في هذا الإطار، نفترض اكتمال انتقال القوى العسكرية المشكلة إلى قوى عسكرية ذات عقلية وطنية، بعيدة عن أيّة أعمال لها سمة طائفية أو عنفية، وما صدر عن بعض التشكيلات العسكرية من بيانات بما يخص النزعة الوطنية ومتابعة المسلكيات الخاطئة والممارسات العنفية، يعد في الإطار السليم لكي تكون المعارضة المسلحة معارضة وطنية، وبالتالي ضرورة المكون العسكري، وكل مبررات وجوده تنتهي بإسقاط النظام وببدء المرحلة الانتقالية.
كذلك تشكيل المجالس المحلية ومجالس المحافظات، وأن يكون لها دور في تشكيل قيادة موحدة لتنظيم شؤون الثورة والسلاح والمناطق المحررة وإدارة العمل السياسي الداخلي والعالمي. هذه قضية أساسية ليستطيع الشعب الذي بذل الكثير تمثيل نفسه، بعيداً عن مصادرة حقه في اختيار قيادته، وهي ستكون نواة كل مؤسسات الدولة المستقبلية؛ الثقة بقدرة الشعب على الانتصار والبدء بخلق نويات الدولة القادمة ضرورة سياسية لإعادة بناء مجتمع جديد.
وأيضاً، يقع على عاتق المعارضة على اختلاف تياراتها الداخلية والخارجية، تقديم كل أشكال المساعدة، وأن تبتعد عن لغة تمثيل الثورة، لصالح تمثيل نفسها فقط، في إطار الصراع الدائر في سوريا، والذي يخوضه الشعب أعزل إلا من أسلحة خفيفة، غنمها الثوار في معركتهم ضد النظام. كذلك يجب إعادة الاعتبار لمكونات الثورة على اختلاف أشكالها، فليس بإمكان الثورة أن تنتصر بالمكوّن العسكري منفرداً، وهذا يعني ضرورة تنظيم عمله، وتطويره، وأن تتكامل كل مكونات الثورة، وصولاً إلى مرحلة إسقاط النظام.
أردت لهذا المقال أن يكون له طابع نقدي، وهو محاولة لطرح مشكلات معينة وتقديم اقتراحات أولية كحلول لها، بالتوافق مع أهداف الثورة. مثقفو سوريا، وقادة القوى السياسية معنيون وكل نشطاء الثورة وتمثيلاتها الميدانية «المدنية والعسكرية»، معنيون بطرح المشكلات والتصدي لها بإجابات تساعد الثورة على تجاوزها، نحو تكثيف الجهود بغية إسقاط النظام بكليته، وليس رأسه أو إجراء تغيير شكلي سياسي فيه، والبدء ببناء الدولة السورية الحديثة، وبما يؤدي إلى تحقيق الأهداف المذكورة أعلاه، وغيرها وبما ينسجم معها.
* كاتب سوري