اتضح خواء ورقة التهويل الإعلامي التي لعبها المحور الأميركي - السعودي - التركي ومعه قطر، بعد انطلاق الضربات الجوية الروسية، بسرعة. حاول هذا المحور تقديم الضربات الروسيّة كحربٍ ضد المسلمين، لاستثارة عصبيتهم الدينية، إلا أنّ النتائج لم تأت كما شاءت هذه الدول. فلن يتدفق إلى الميدان السوري مزيد من المسلحين. والبيئة النفسية للصراع، تغيرت على امتداد العالمين العربي (الشارع السوري بشكل خاصّ) والإسلامي.
في المقابل، نجح «التعاون» بين روسيا وإيران وسوريا في الإمساك بناصية المشروعية الأخلاقية والسياسية وحياكة مبررات الفعل وتوقيته بدقةٍ متناهية، ما أفقد الطرف الثاني فاعلية المبادرة ميدانياً وسياسياً.
ينجح تعاون قوى الـ«4+1» بتقديم خطاب سياسي منسجم ومتماسك ومتدرّج، بدءاً من محاربة الإرهاب في سوريا كهدف حقيقي وفعلي وهزيمته في المنطقة، وصولاً إلى كسر الأحاديّة والهيمنة الأميركية في مسعى لتغيير قواعد النظام العالمي القائم، ولعل ذلك هو الهدف الأبرز. باختصار، هذا هو فحوى الـ«4+1»... وتحقيق هذه الفرصة ممكن.
إنّ التركيز على هذا الهدف واعتماد هذه الرؤية في مواجهة الهيمنة الأميركية، سيتيح فرصاً جديدة، بل ويخلق إمكانية جديدة لإعادة النظر بسياسات العمل والاصطفافات القائمة التقليدية، وصولاً إلى فتح آفاق جديدة. ويمكن القول إنّ دول الـ«4+1» تنجح في توسيع دائرة عملها بإدخال أو تحييد أو التنسيق مع مصر والأردن في ما خصّ التفاهمات الخاصة، إضافةً إلى ضمّ أغلب المتضررين في العالم من السياسة الأميركية. نجح هذا الحلف في بثّ القلق عبر الضغط على الأميركيين في العراق. فماذا لو تدخل الروس في العراق عبر ضربات جويّة، بطلب عراقي رسمي، خاصة أنّ ذلك هو مطلب شعبي لا تستطيع أن تتمادى الحكومة العراقية في رفضه. وإلا، فستكون ساعتئذٍ الأرض لإيران كما هو الحال اليوم، لكنّ السماء ستتقاسمها روسيا مع الأميركيين، وهو الثمن الذي يمكن أن يكسبه أو يخسره الأميركي في العراق.

يبدو الأميركي أمام
خيارات أفضلها دون
ما يرتجي أو يأمل

نجح الحلف الجديد في تنسيق الأدوار، استراتيجياً وتكتيكياً، في جغرافيا المواجهة المفترضة وتوزيعها بين قواه، خاصة روسيا وإيران، عبر ملاحظة تدحرج التدخل الميداني والسياسي. مثلاً، حين لا ترغب روسيا الاتحادية، أو لا تقدر لاعتبارات مختلفة، على التدخل في مكانٍ ما، تحضر إيران. فالروسي لا يتواجه مع إسرائيل فيما لو دخلت بقوة على خط الأزمة، بينما إيران تستطيع وترغب في ذلك. الكلام نفسه يسري على سياسة روسيا مع السعودية، حيث إنّ إيران وحلفاءها في الدول العربية، أكثر تخففّاً تجاه ذلك إذا ما فرضته مجريات الأحداث.
مخطئ من يظن أنّ التدخل الروسي أحادي المنحى، بمعنى أنّه يرتكز على الحسم العسكري فحسب. هو والإيراني يحملان في جعبتهما أفكاراً ومقترحات جدية لتسوية تُنهي الأزمة وتعيد الحق إلى الشعب في تقرير مصيره كقاعدة القواعد. لكن بطبيعة الحال، يرتبط مسار الأزمة ومدتها بفعل الطرف الآخر، الذي غدا هامش حركته محدوداً ومُربك الخيارات، دون شكّ. هذا الطرف يتجه إلى التصعيد مع ما يعنيه من سعي لإرسال سلاح نوعي وما أمكن من المسلحين. إلا أنّ سقوف ذلك مفهومة ومتبادلة بين أطراف الصراع الإقليميين والدوليين، إذ من المعلوم أنّ أي سلاح يُسقط طائرة روسية هو خط أحمر.
خطٌّ تراه السعودية وتركيا، وأغلب الظنّ أنّهما لن تُقدما على القيام بما يستفز مقدّرات الدّب الروسي العسكرية فيقدما له الذرائع لإطلاق العنان لقوته، لأن ذلك سيكون على حساب ما بقي لهما من معارضة سورية مسلحة. كذلك يمكن من يتلقّى رسالة تصعيد نوعي في سوريا أن يُرسل بمثلها عسكرياً، في مساحات الصراع والبؤر المتوتّرة الأخرى، أو سياسياً واقتصادياً على امتداد الصفائح الساخنة أو القابلة للتسخين. كذلك، إن الذي سلّف السعودية قراراً دولياً في مجلس الأمن، يستطيع أن يفرّغه من محتواه عملياً. لذلك سيحكم المشهد أسقف واضحة في التصعيد النوعي الموعود من حلفاء أميركا.
تصعيد سيقتصر على سلاح البر الذي بدوره لن يغيّر كثيراً في الميدان وأقصى ما يُمكن فعله هو تأخير التقدّم لبعض الوقت، فضلاً عن أنّ عنصر المباغتة، الذي بدأته الضربات الروسية والسورية ميدانياً، نزع من المعارضة المسلحة عنصر السيطرة في الإدارة.
يبدو الأميركي أمام خيارات أفضلها دون ما يرتجي أو يأمل. فالموقف الأوروبي بقوته الأساسية، ألمانيا، يميل بقوّة إلى عقد تسوية وهو حال أكثر دول أوروبا وتنتظره إيران، وينتظرها، للانفتاح الاقتصادي والتجاري كشريك موعود يمكن أن يكون بديلاً فعالاً لممالك الخليج وأبراجها. حلفاء الأميركي باتوا عبئاً أكثر منهم سنداً له، فهل سيترك المسألة مفتوحة على الستاتيكو الحالي للإدارة الأميركية المقبلة؟ يُستبعد ذلك. والسبب هو أنّ مدة السنة ونصف السنة كفيلة، وفق التوازنات المستجّدة في سوريا في ضوء التدخل الروسي، بأن تُمكن الحكم في سوريا من فرض واقع جديد. سيطول نزف الحليف السعودي في اليمن، وقد يزداد. لذلك، تقتضي المصلحة أن تسير المملكة بالتسوية في سوريا، ومن حقّها أن تُلقي اللوم على الأنظمة العربية الخليجية لأنّها لم تطلب منه ما لا تقوم هي بفعله. من هنا يمكن اعتبار اللجنة المشكلة من الأوروبيين والروس والأميركيين والايرانيين، هي اللجنة الفعلية المفوّض إليها حلّ الأزمة وليس تلك التي التأمت إرضاءً للسعودية بالأمس القريب. لذلك، يُمكن استخلاص النتائج الآتية:
أ‌. سقوط النظام في سوريا بات مقروناً بسقوط الرئيس فلاديمير بوتين، ما يعني أنّ هذه الصفحة طويت.
ب‌. المنطقة ستدخل مرحلة جديدة من ربط النزاع وقواعد الاشتباك، التي لم تكن قائمة حتى الأمس القريب، إذا ما حاولت المملكة السعودية عرقلة التسويات. وما تنديد الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بالمملكة في مسيرة العاشر من محرّم وإقحامه إيّاها في أدبياته، إلاّ إيذاناً بمرحلة مقبلة في ضوء معطيات الميدان السوري.
ت‌. الحسم سيكون سيّد الموقف، ولا هدف أقلّ من الانتصار الواضح على الإرهاب والفعل العسكري سيتصاعد. لن تقتصر لعبة السياسة هذه المرّة على حافة الهاوية، بل ستتجاوزها.
ث‌. باتت خيارات أميركا وحلفائها محدودة ومقيدة. ليس أمامهم فعلياً إلاّ تمديد الأزمة، دون أي تعديل محتمل في ميزان القوى الميداني إن ذهبوا للتصعيد أو أصرّوا على تسوية بشروطهم: كتنحّي الرئيس بشار الأسد قبل القضاء على الإرهاب، أو لمرحلة انتقالية كما يطرحون.
ج‌. الانتصار على الإرهاب في سوريا لا رجعة عنه وفرصه واقعية ومكتملة وكبيرة جداً. وإذا ما تحقّق، حسب المقرّر، سيعني ذلك انتقال هذا الإنجاز إلى بقية الدول العربية في المنطقة، وأنّ روسيا وإيران باتتا خشبة خلاص شعوب المنطقة من الإرهاب، بعد أن تطوي هذه الشعوب وجهها كشحاً عن أميركا وسياساتها المخادعة.
ح‌. يستتلي ذلك حضوراً عالمياً لقوى ناهضة، يعيد للعالم بعضاً من معاني الشراكة المفقودة والتوازن والاحترام المتبادل بين القوى الفاعلة.
* باحث لبناني