أنا أتذكّره بلا انقطاع، بمعنى أنّني أفكّره في إنتاج أفكاري. مهدي عامل من عدّة شُغلي؛ لا شعار ولا صورة ولا أغنية. وبما أنّني لا أعرفه شخصياً، ولم أر «الضحك الخفيف في طلته»، لم أحزن في مساء الثامن عشر من أيار 1987، حين جاءني خبر استشهاده، بل فكّرتُ، تواً، بعبء المهمات التي تركها لنا، وفكّرتُ، خصوصاً، بلغته (كيف يمكن اغتيالها؟) باكتشافه النظرية العلمية في حركة التحرر الوطني (منجز لا يمكن قتله). فكّرتُ بالفكر وصيرورة أثره الاجتماعي السياسي. مهدي مفكر محكم الفكر وكاتب صعب جداً، لا يتفاعل معه إلا قارئ كادحٌ صبور، فكيف، إذاً، تقرر اغتياله وسط أنداده من المناضلين والمقاتلين، الأكثر فعالية في السياسة اليومية؟ للنص إشعاعاته (رولان بارت) التي تتجاوز القراءة إلى الحضور في الحركات الاجتماعية، كما يحضر النبي في الإيمان، جوهرة للثقة بالذات والشعور بالأمان المعرفي إزاء الكون الغامض والمضطرب. في هذه الحالة، سوف يساعد الاسم المنحوت من المهدوية والشيوعية (مهدي ـ عامل) في اكتمال النبوة، الملهمة والمحرّضة والنضالية. لذلك، بالذات، قُتل الدكتور حسن عبد الله حمدان، المعروف باسم مهدي عامل.
ربما أكون من أوائل قرّاء مهدي عامل في الأردن في أواخر السبعينيات. وقد انتشر كتابه «مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني» بجزءيه، بين صفوف الشيوعيين واليساريين الأردنيين، وساهم في تثمير خط ثوري يمكن تلخيصه كالآتي: بإمكان حزب شيوعي صغير في بلد صغير أن يقود تحالفاً للاستيلاء على السلطة وتحقيق الثورات المطلوبة الثلاث: الثورة الديموقراطية والثورة الوطنية والثورة الاشتراكية. وهي أقانيم التحرر الوطني الثلاثة عند مهدي عامل. وكان مثال أفغانستان الشيوعية (1978) حاضراً وملهماً. لم ينبس مهدي ببنت شفة عن الاتحاد السوفياتي، لكن الأخير كان موجوداً في صلب تلك النظرية السياسية، بوصفه حامياً ونصيراً ومساعداً كافياً ومضموناً. وبسقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، لم تعد الأحزاب الشيوعية الصغيرة في البلدان الصغيرة، تُحتَسب بوصفها قوى أساسية. وهي نفسها تبددت. وهذا، مادياً، مصير محتوم.
في الزنزانة (77 و1979) كنتُ أحار لماذا تتساهل الاستخبارات الأردنية مع معتقلي المنظمات الفلسطينية المسلحة، بينما تطارد وتبطش بالشيوعيين المطلبيين والسلميين؟ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في 1990، توقفت الاستخبارات عن مطاردة الشيوعيين واعتقالهم وجرى الاعتراف بحزبهم ـــ أحزابهم. عندها أصبح واضحاً أنّ تلك الثلّة من المناضلين السلميين كانت تشكّل خطراً محتملاً في خلال الحرب الباردة، وكان يتم تعقّبها وقمعها لأسباب جيوسياسية، لا لأسباب محلية.
في تلك الأجواء، أجواء أواخر السبعينيات، قرأنا مهدي عامل، وأصبح إنجيل القائلين منا بالكفّ عن النظر إلى أنفسنا كتيّار ديموقراطي مطلبي ملحق بفتح وحلفائها والبورجوازية الوطنية، وبلورة رؤية مضادة تهيمن على حركة شعبية يقودها الحزب الشيوعي، وتفكّر، ثورياً، من منظور الحرب الباردة التي كان الشيوعيون وحدهم، من بين الحلفاء، يتحملون وزرها السياسي والأمني والشخصي. أفكّر الآن بأنّ الشيوعيين العرب بعامة لم ينتهزوا الفرصة السوفياتية الطويلة، مع أنّهم وحدهم مَن دفع ثمنها الباهظ. وغالباً ما يجري التعلل هنا بمواقف السوفيات السلبية إزاء برنامج ثوري للشيوعية العربية. لكن تاريخ الحرب الباردة أثبت أنّه حالما كان يتكتل شيوعيّو بلد ويصممون على برنامج كذاك، كان الاتحاد السوفياتي يضطر إلى الخضوع في سياق علاقة صراعية بين الحلفاء، هي بطبيعتها وككل علاقة تحالفية صراعية. ومأثرة مهدي عامل أنّه قرر أن يخوض الصراع داخل حزبه، مع منظومة فكرية كاملة مسيطرة في الوسط الشيوعي اللبناني والعربي، وخارج الحزب مع الحلفاء الذين نزع عنهم مهدي ثوب القداسة، ونزع عن العلاقة معهم ثوب التماثل، ليؤكد شرعية القيادة الشيوعية للحركة الوطنية، فكرياً من خلال تفوّق الماركسية، وسياسياً من خلال ميكانيزمات الحرب الباردة.
في منطق فكره، كان مهدي ضد القيادة الجنبلاطية للحركة الوطنية، وكان ضد التبعية للأبوعمّارية. وأظنّه اُصيب بالحمى حين سمع في حياته جورج حاوي يقول لأبي عمار: «يا قائدي». فالخلاصة السياسية لفكر مهدي عامل أن يكون حاوي هو القائد، لكنّه، كما الزعماء الشيوعيين العرب، كان مطمئناً أبداً للموقع الثاني أو الثالث. وفي ذلك، عند مهدي، موضع الفشل وتكرار الفشل في حركة التحرر الوطني العربية.
لكن مهدي جاء في ربع الساعة الأخير، وحين جرى الاعتراف به، جرّاء استشهاده، كانت الحرب الباردة تأفل، والعالم يدخل في فترة مظلمة من هيمنة القطب الواحد سياسياً، والليبرالية فكرياً. هكذا ضاع مهدي! صارت كتبه تزيّن مكتبات اليساريين ولكنّها لا تُقرَأ، ويُذكَر في المناسبات، ولا يُفكَّر في طروحاته، ولا أجد له أثراً في منتج فكري لبناني أو عربي. مصيره كمصير فارس آخر من لبنان، المفكر الشيوعي سليم خيّاطة، الذي اقترح، في ثلاثينيات القرن العشرين، رؤية مطابقة للمطالب الأيديولوجية لحركة التحرر الوطني العربية، من حيث هي في آن حركة تحرر قومي واجتماعي وثقافي، لكنّه استُبعدَ واغتيل ونُسي (سنتذكره في مقال خاص لاحق في ثلاثاء «الأخبار»).
لم أنس مهدي عامل أبداً. بمعنى أنّني أستشيره في ما يستجدّ، أقصد أستشير منطق فكره، صراعياً. ذلك أنّ الصراع هو درسه الأول. وضعتُ جانباً بالطبع الاستنتاجات السياسية الخاصة بحزب معين هو الحزب الشيوعي وتحالفاته في فترة معينة هي فترة الحرب الباردة والحرب الأهلية. تلك أصبحت من الماضي. لكن ما يبقى، لدى مهدي عامل، كثير جداً، وأساسيّ. وسأعرض بعضه القليل مرفقاً.
لماذا أستشير مهدي عامل؟ لأنّ نظريته في التحرر الوطني محكمة علمياً، إذ لا يمكن القائلين بتجديد حركة التحرر الوطني العربية إغفالها، فهي حاضرة كمرجع وأداة. ولماذا أدعو إلى تذكّره الآن؟ لثلاث ضرورات راهنة، لم يعد ممكناً، بالنسبة إلى اليسار الوطني التحرري، تجاهلها، هي الآتية:
أولاً، ضرورة القطيعة مع الفوضى الفكرية المستشرية في صفوف القوى التحررية المفترضة، ولا سيما بين المثقفين والشباب ممن كان لهم دور بارز في إطلاق الانتفاضات العربية في 2011، لكنّهم، بسبب الفوضى والاضطراب الفكري والغرور الفردي، تحوّلوا إلى الهامش الذي ركبت متنه قوى الإسلام السياسي المعادية للثورة،
ثانياً، ضرورة القطيعة مع المرحلة الليبرالية (1991 ـ 2011) بأفكارها ورموزها ومثقفيها و«يسارييها» وأحزابها الخ. وهي المرحلة السوداء التي انتهت ادعاءاتها جميعاً إلى خندق الإرهاب الإمبريالي ـــ الرجعي الصريح كما هي الحال في سوريا اليوم، حيث ارتبط مفهوم «الثورة» بالعدمية الوطنية والعدمية الاجتماعية والعدمية الأخلاقية في جماع ليبرالي ونيوليبرالي وإسلاموي، يمثّل، بذاته، أسوأ درجات تحطيم العقل، بما يتطابق كلياً مع الاحتياجات الأيديولوجية لهيمنة الإمبريالية في عهد انحطاطها الكامل.
ثالثاً، ضرورة التأسيس الفكري، انطلاقاً من أدوات النظرية العلمية، للمرحلة الثانية التي تولد اليوم من حركة التحرر الوطني العربية في أتون الصراع الذي سيتنامى بين الشعوب العربية وبين التحالف الثلاثي الأكثر عدوانية في تاريخنا المعاصر، الإمبريالية الأميركية والرجعية الخليجية وقوى الإسلام السياسي من إخوان وسلفية وسلفية جهادية... الخ.
إن ما ينتظرنا من صراع تناحري مع هذه القوى المتحالفة ـــ موضوعياً واضطرارياً في آن ـــ هو أقسى وأصعب الصراعات التي خاضتها الحركات الوطنية العربية في تاريخها كله منذ العثمانيين حتى الآن. ذلك أنّ تلك القوى، بالإضافة إلى ما تملكه من قدرات عسكرية ومالية وإعلامية الخ، يقع في تصرّفها الآلاف من المهووسين بالقتل، وتحظى بالتأثير الفكري والعاطفي على قسم ليس يسيراً من الجماهير المفقرة والمهمّشة، ما يجعل قدرتها على تبرير الخيانة الوطنية والاستغلال الطبقي والقمع الدموي، أكبر بأضعاف مما كانت تقدر عليه الأنظمة التقليدية السابقة. وفي مواجهة تلك القوى السوداء، لم يعد باستطاعة قوى التحرر الوطني خوض المعارك من دون مرجعية فكرية نظامية جامعة، ومن دون أطر تنظيمية لا مكان فيها للفردية والليبرالية، فكراً وسلوكاً. ولا تُخاض تلك المعارك محلياً، بل في سياق عربي، حددناه بالمشرق، ليس انطلاقاً من منظور عقدي، بل استجابة لطبيعة الصراع المحتدم في ميدانه الرئيسي، الهلال الخصيب، حيث يمكن التحالفَ الإمبرياليَّ الرجعيَّ تدمير المجتمعات والمنطقة من خلال تفسيخ فسيفسائها الديني والطائفي والمذهبي والإتني والجهوي، ولكن حيث يمكننا، بالمقابل، تحقيق النصر، بالنظر إلى ما يملكه المشرق من تنوّع يستنهض الوحدة، وعروبة متجذرة، وتقاليد تنويرية وعلمانية، وقدرات مجتمعية وثقافية تقدمية ليست متاحة في أي من مناطق العالم العربي الأخرى.
بإمكاننا، في هذا المشرق، أن ننتصر. وينبغي أن ننتصر من أجلنا ومن أجل العالم العربي كله. ومن أجل تحقيق ذلك، نحن نحتاج اليوم، مرة أخرى، إلى مهدي عامل.

■ ■ ■


وفي ما يلي سنتناول أبرز الطروحات الأساسية حول حركة التحرر الوطني لدى مهدي عامل.

(1) ضد الكولونيالية

عند مهدي عامل: «ليست الكولونيالية سبباً لـ(التخلّف) لأنّها سابقة له زمانياً، بل لأنّ لها معه ارتباطاً بنيوياً يجعلها تسببه، أي تنتجه باستمرار بحركة صيرورتها بالذات» (1). كيف؟ لقد أدت ضرورة التوسع اللامحدود للرأسمالية إلى قيام الرأسمالية الغربية بفرض نمط الإنتاج الرأسمالي على العالم، جاعلةً منه، بالاستعمار، مجالاً لتحقيق ضرورتها تلك. بالاستعمار إذاً، أصبح العالم كله رأسمالياً، أي عالماً واحداً، شرط وحدته، وبالتالي وجوده، أن يضمّ، وألا يضم إلا بنيتين، إحداهما تحقق ضرورة التوسع اللامحدود، فيكون شرطها ألا يكون توسعها محدوداً، هي البنية الإمبريالية (المسيطرة)، والأخرى، تتحقق فيها الضرورة تلك، فيكون شرطها أن يكون توسعها محدوداً، هي البنية الكولونيالية (التابعة). الرأسمالية إذاً، وحدة بنيتين تشترطان بعضهما بعضاً، بحيث إنه لا يمكن أن تكون هنالك بنية رأسمالية، إلا إذا كانت إمبريالية أو كولونيالية. وقانون تفاوت التطور، هو الذي حدّد ويحدد البلدان التي تقوم فيها البنية الأولى، أي الإمبريالية؛ والبلدان التي تقوم فيها البنية الثانية، أي الكولونيالية. ولذا كان مستحيلاً على البلدان التي وضعها تفاوتُ تطور الرأسمالية، في البنية الكولونيالية، أن تغدو في البنية الإمبريالية. فالتطور لا يمكن إلا أن يكون متفاوتاً؛ وتطور الرأسمالية العام، في تفاوته، حدد للبلدان الأقل تطوراً، وضعاً لا تستطيع الخروج منه، إلا بخروجها من سياق تطور الرأسمالية نفسه، وهو وضع الرأسمالية الكولونيالية. ويعني ذلك أنّ الرأسمالية في البلدان المتخلّفة، لا يمكن أن تكون إلا رأسمالية كولونيالية، وبالتالي محدودة التوسع. ومن شأن التوسع المحدود أن يكبح تطور القوى المنتجة، وألا يهدم، بل ألا يستطيع أن يهدم، أشكال الإنتاج قبل الرأسمالية؛ بل يعيد إنتاجها باستمرار، ومعها يعيد إنتاج الأشكال الاجتماعية والأيديولوجية والسياسية قبل الرأسمالية؛ وبالتالي، فمن شأنه أن يعيد إنتاج التخلف».
يظلّ هذا التحليل البنيوي صحيحاً في اتجاهه العام، لكن تبرز الحاجة هنا إلى الإحاطة بظاهرة جديدة نشأت، خلال العقدين الماضيين، أي منذ سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، وهي ظاهرة الاقتصادات البازغة في دول كالصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا (مجموعة البريكس). هذه الدول ليست إمبريالية، وليست، كالنمور الآسيوية السابقة، جزءاً من المنظومة الإمبريالية. وهي ليست اشتراكية، وليست في الوقت نفسه كولونيالية. وهي تغادر منطقة التخلف اقتصادياً وثقافياً، وتسعى ـــ خصوصاً روسيا والصين ـــ إلى تكوين قطب دولي مضاد للإمبريالية. فكيف يمكن توصيف هذه الظاهرة على الأقل في صيرورة تشكلها الحالية، قبل أن يفرض عليها مسار التطوّر اللاحق، التحوّل إلى إمبرياليات أو السير في طريق اشتراكي؟ بالنسبة إليّ، من الواضح أنّ ظاهرة الدول القومية المتحررة لا تزال ممكنة في التاريخ. لكن مع الانتباه إلى أنّنا نتحدث، بالفعل، عن دول قومية مكتملة، كان لاثنتين منها (روسيا والصين) تجربة تنموية تاريخية في إطار اشتراكية الدولة، وللثالثة (الهند) تجربة استقلالية وديموقراطية متجذرة، وللرابعة (البرازيل) تجربة عميقة مستمدة من رؤى اليسار الاجتماعي الجماهيري بنيت على تراكم تنموي استمر عقوداً، وللخامسة (جنوب أفريقيا) تجربة كفاحية فريدة للانتقال من نظام عنصري ـــ كان جزءاً حديثاً من المنظومة الرأسمالية الإمبريالية ـــ إلى نظام قومي ديموقراطي. وكل تلك خصائص لصيقة بتجارب قومية عيانية، ولا يمكن تعميمها، ولا تمسّ، بالتالي، جوهر التحليل العاملي بالنسبة إلى البلدان العربية الشديدة التخلّف والمقيّدة في إطار أنظمة كولونيالية، ما يجعل حركة التحرر الوطني العربية مرتبطة، عضوياً، بالانقلاب الاجتماعي على مستوى كل بلد على حدة، ضد الفئات الكمبرادورية، وعلى المستوى القومي ضد الأنظمة الخليجية.
لكن، هنا أيضاً، سوف نصطدم بالتطوّرات اللاحقة التي شهدناها في العراق وسوريا. كان انهيار النموذج الناصري في مصر من داخله، يسمح لمهدي عامل بمدّ نظريته في الفشل الحتمي للتحرر من الكولونيالية بالنسبة إلى النظامين القوميين في ذينك البلدين، أيضاً. لكنّنا رأينا أنّ نظام صدام حسين لم ينهر من داخله، كما حدث في مصر، وأنّه واظب، رغم انزياحاته العديدة باتجاه التفاهم مع الإمبريالية والرجعية، على نهج مضاد للكولونيالية، ما استلزم منهما، أي من الإمبريالية والرجعية، تحطيم نظامه في حرب ضروس، كذلك الحال مع النظام السوري الذي حافظ، وبصورة خاصة من خلال نهج المقاومة، على حضوره في حركة التحرر الوطني ـــ رغم انزياحاته النيوليبرالية. وقد أثبتت تجربة سنة ونصف من الحرب الإمبريالية الرجعية الشرسة ضد هذا النظام أنّ انهياره من الداخل ليس متيسراً. يقودنا ذلك إلى القول إنّ تركيبة حركة التحرر الوطني، أكثر تعقيداً مما هي عند مهدي عامل، لكن استنتاجاته الأساسية تظل صالحة لفهم الخط العام لسمات الأنظمة العربية ـــ بما فيها انزياحات نظامي صدام والأسد، وتآكلهما في المجال الاجتماعي ـــ وصالحة، خصوصاً، لفهم سيرورة تجديد نظامَي الحكم في مصر وتونس، على أيدي الإسلاميين، من دون القطيعة مع الكولونيالية، بل بتجديدها. وذلك من خلال استخدام الأيديولوجية الدينية الليبرالية الشوهاء، بديلاً لبرنامج التحرر الوطني الاجتماعي.

(2) ضد الفوضى الفكرية

حركة التحرر الوطني، عند مهدي عامل، هي الحقل التاريخي للفكر العربي المعاصر. وعليه، فإنّ هذا الفكر، شاء أو أبى، هو فكر هذه الحركة، فلا ينأى عنها حتى حينما يُغَيّبها بتجاهلها. فالتجاهل شكل من أشكال ارتباط الفكر بحقله التاريخي. كيف؟ الإجابة، عند مهدي عامل، تتحدد كالآتي: لا يتحرك الفكر في فراغ، بل في إطار واقع اجتماعي تاريخي محدد، ولكل واقع ضرورة محددة تميزه، وتحدد له منطق صيرورته (إذ الواقع، دائماً، في صيرورة). ومن ضرورة هذه الصيرورة، أنّها تحدد، بالضرورة، جميع مستويات الواقع الاجتماعي التاريخي، ومنها المستوى الفكري، بحدودها. وحدودها هي حدود حركة الانتقال مما هو كائن إلى ما هو نقيض الكائن. فالفكر إذاً، في تحركه في إطار واقعه، يتحرك، بالضرورة، في إطار صيرورة الواقع إلى نقيضه. ولما كانت صيرورة الواقع الاجتماعي التاريخي الراهن في البلدان العربية، تتحدد بكونها حركة انتقال من الكولونيالية إلى التحرر الوطني، فهذه الأخيرة إذاً، هي الحقل التاريخي للفكر العربي المعاصر.
ولكن، كيف يتجاهل الفكر حقله، ويظل مع ذلك في حدود حقله؟ ذلك، عند مهدي عامل، لأنّ «الفكر ليس واحداً، بل هو وحدة صراع تناقضي بين فكرٍ يفكر في تغيير الكائن ـــ فيكون من منطقه (أي من منطق ذلك الفكر) التأكيد على صيرورة الكائن إلى نقيضه، أي التأكيد على عقل الصيرورة الواقعية تلك، والتحدد بها، أي بضرورتها ـــ؛ وبين فكر يفكر في تأبيد الكائن، فيكون من منطقه، بالتالي، أن يتجاهل تلك الصيرورة. فيكون التجاهل إذاً، موقفاً من الصيرورة تلك» (2). وهكذا، فإذا كانت حركة التحرر الوطني هي صيرورة واقعنا المعاصر، فستكون حقلاً للفكر العربي المعاصر، سواء أكّدها أو تجاهلها. فليس التجاهل هنا سوى شكل أيديولوجي من أشكال التفكير في تلك الحركة. «فتحرك الفكر ـــ كما يقول مهدي عامل ـــ قائم بالضرورة في حقل أيديولوجي يتحدّد في بنيته، بالبنية الاجتماعية التي هو فيها. وبالتالي بحركة الصراعات الطبقية التي تحدد بنية علاقات الإنتاج الخاصة بهذه البنية الاجتماعية» (3).
فماذا عن المفكر الفرد؟ هل هو محكوم أيضاً بالحقل التاريخي للفكر؟ أليس له حرية الانفكاك من حلبة الصراع، فلا يكون في فكره مرتبطاً بطبقة اجتماعية ضد أخرى؟ يقول مهدي عامل: كلا. «ليس للفكر حرية ذاتية في التحرك والتطور، كما أنّ نشاطه في إنتاج المعرفة ليس من فعل الفرد كإرادة ذاتية مطلقة» (4). وذلك لأنّ علاقة الفكر بالواقع ليست «علاقة بين وعي فردي وواقع موضوعي. ولا يمكن إطلاقاً حصرها في هذه العلاقة النفسية. إنّها في أساسها علاقة موضوعية بين بنية فكر وبنية واقع، كما أنّ التفاعل فيها هو بين بنيتين، لا فرد وبنية» (5).
فالفرد، عند مهدي عامل، لا يفكر في موضوع فكره بصورة مباشرة؛ لأنّ هذا القول يقوم على افتراض مستحيل، هو افتراض وجود وعي فردي «صافٍ» متحرر من كلّ مؤثر خارجه، كأنّه وعي الله؛ بل فكر الفرد، عنده، محدّدٌ، بالضرورة، بما هو خارجه، لذلك فهو، أي الفرد، لا يستطيع أن يفكر بموضوعه إلا بصورة «غير مباشرة، تمر بالضرورة ببنية فكرية لها وجودها. الموضوعي يحملها المفكر الفرد وبها يفكر (...). إن الفرد وإن كان (مفكراً) لا يفكر بفكره الفردي، بل بالبنية الفكرية التي هو سناد لها» (6).
ولا يتعارض هذا الحكم، عند مهدي عامل، مع واقع وجود الفكر كأفكار فردية متناثرة. فليس ذلك الواقع سوى «شكل تاريخي محدد لوجود البنية الفكرية (7). إذ البنية الفكرية هي «التربة الواحدة التي تنبت عليها أفكار متعددة قد يبلغ الاختلاف بينها حدّ التناقض، إلا أنّ جذورها تمتد في تربة واحده هي التي تحدد لها طبيعة نشأتها ومجال تطورها. ووجود التناقض بين هذه الأفكار لا ينفي وجودها في تربة فكرية واحدة، بل قد يكون دليلاً عليه، إذ لا تناقض إلا بين أطراف تضمّها وحدة بنية» (8). وأساس ذلك «أنّ البنية الفكرية هي الإطار الذي يتحدد فيه الوعي الأيديولوجي الخاص بطبقة اجتماعية معينة، أو ما نسمّيه أيديولوجية هذه الطبقة الاجتماعية» (9).
فالفرد، إذاً، لا يستطيع أن يفكر إلا من خلال أيديولوجيا طبقة اجتماعية معينة؛ ليس لأنّه، بالضرورة، ابن لهذه الطبقة المعينة أو نصيرٌ لها، بل لأنّه لا يستطيع أن يفكر إلا من خلال بنية فكرية هي، بالضرورة، أيديولوجية، أي بنية فكر طبقة ما. إذ ليس للبنية الفكرية، عند مهدي عامل، ولا يمكن أن يكون لها، علاقة مباشرة بالواقع الاجتماعي التاريخي، «بل هي تكتسب طابعها الاجتماعي التاريخي من وضعها الصراعي داخل البنية الأيديولوجية الخاصة بالبنية الاجتماعية (10). الفرد إذاً، لا يستطيع أن يفكر إلا من خلال بنية فكرية لا يمكن إلا أن تكون أيديولوجية.
لذا، كان غياب حركة التحرر الوطني عن الفكر العربي المعاصر، عند مهدي عامل، هو الشكل الذي تحضر فيه تلك الحركة في ذلك الفكر، أي كان تحديداً لموقف الثاني من الأولى؛ وهو، هنا، موقف التجاهل.

(3) ضد الليبرالية والسلفية

ولا يعني تجاهل الفكر العربي المعاصر لحقله التاريخي، عند مهدي عامل، اتهاماً للمفكرين العرب، أي لا يعني أنّ هؤلاء، عنده، يتجاهلون الانشغال بواقعهم، بل يعني، عنده، أنّ هؤلاء، على العموم، يفكرون بواقعهم من خلال بنية أيديولوجيا الخصم بالذات. وتحدَّد هذه البنية، حسب مهدي عامل، بمفهوم التخلّف؛ وهو المفهوم الذي يدور عليه الفكر العربي المعاصر.
وليس مفهوم «التخلّف» أيديولوجياً، بمعنى أنّه فارغ، كلياً، من تصوير الواقع الفعلي ـــ فتخلّف القوى المنتجة في البلدان الكولونيالية، واقع قائم ـــ لكنه مفهوم أيديولوجي لأنه يجعل من سمة معينة للبلدان الكولونيالية، يتسببها، باستمرار، واقُع السيطرة الإمبريالية عليها، سمةً عامة لهذه البلدان، تتحدد به، فيغيب ما هو من «التخلّف» أساسه، أي السيطرة الإمبريالية.
المذاهب الفكرية العربية، عند مهدي عامل، تتصارع، في ما بينها، صراعاً عنيفاً، لكنه صراع يقوم على تربة واحدة، هي معادلة «التخلّف» ـــ التقدم». فلما كان الفصل بين «التخلّف» و«التقدم» لا يكون إلا بمقياس هو النموذج المثالي للتقدم ـــ إذ لا معنى للقول بـ«التخلّف»، إلا إذا كان تخلّفاً عما هو في «التقدم» النموذج. اتفقت المذاهب العربية، حسب مهدي عامل ،على ما يأتي:
أ‌ ـ إن بلادنا: متخلّفة»؛
ب‌ ـ وعليها أن «تتقدم» لتتماثل مع نموذج التقدم في هذا المجال (وهو، طبعاً، الغرب الرأسمالي). لكنّها، أي المذاهب تلك، اختلفت إزاء فكر ذلك «التقدم»، فانقسمت إلى:
ــ مذاهب تقدمية تقول بـ«تخلّف» العقل العربي. فلا بد له إذاً، من أن يتقدم ليتماثل مع «العقل» الغربي؛
ــ مذاهب سلفية ـــ قوموية ترى أنّ عقل الغرب فاسد، وأنّ التفوق في الروح، هو «لنا»، لا للغرب الرأسمالي. فلا بد لنا، إذاً، من العودة إلى «أصالتنا» إذا ما أردنا أن نتقدم.
ــ مذاهب توفيقية، تحاول التوفيق بين المذهبين.
ولا نريد أن ندخل، هنا، في مناقشة تفصيلية مع هذه المذاهب (11)، أو حولها، فالذي يهمنا، هنا، هو الإشارة فحسب، إلى طابع المناقشة الفكرية العربية، من حيث هي تجري في سياق حدده، أصلاً فكرُ الخصم ـــ الإمبريالية. لذا، توجّب عند مهدي عامل، نقض هذه المناقشة، بإنتاج النظرية العلمية في حركة التحرر الوطني.
لم يعش مهدي عامل، لكي يرى كيف انحلت المذاهب «التقدمية»، اعتباراً من التسعينيات، إلى ليبرالية صريحة تقترح النموذج النيوليبرالي كإطار للتقدم مرفقاً، خصوصاً عند اليساريين السابقين، بالتعددية السياسية والانتخابات الخ، كدواء شاف للتخلف العربي، ولم ير كيف انحلت المذاهب السلفية إلى مذهب إرهابي متوحش، ثم إنّه لم ير كيف اندمج الليبراليون والسلفيون الإرهابيون معاً، برعاية خليجية، في الخندق الكولونيالي نفسه، كما هو حادث في سوريا الآن.

(4) وضد العقل المطلق

افتراض وجود المنطق الموضوعي في التاريخ الاجتماعي، هو الأساس لإمكان إنتاج النظرية العلمية في حقل التاريخ الاجتماعي. فبوجود ذلك المنطق الموضوعي، تصبح مقاربته بالنظرية، وفقاً لمحدداتها العلمية، ممكنة. وربما كان ضرورياً أن نقف هنا لتبديد ما قد يكون التباساً بين المنطق الموضوعي في التاريخ، كما يفهمه مهدي عامل، و«العقل في التاريخ»، كما هو عند هيغل. فالعقل في التاريخ، عند مهدي عامل، ليس هيغلياً، بل هو عقل مادي، يحدد الفكر، ولا يتحدد بالفكر. فهو من الواقع الاجتماعي التاريخي معطى نعقله، فيكون عقلنا له انعكاساً للعقل في الواقع. ولو كان العقل في التاريخ، هيغلياً، أي مثالياً، لما أمكننا إنتاج المعرفة العلمية في التاريخ في نظرية علمية، شرط علميتها أن تكون نسبية، بينما شرط العقل ذاك، أن يكون مطلقاً. فالمعرفة لا تكون علمية إلا إذا كانت علماً بما هو نسبي، أي معين، وبالتالي مادي أو مشروط بالمادي. والعقل المطلق، عند هيغل، كالله، ليس مشروطاً بما هو خارج ذاته. بل هو شرط ذاته، معيّن بذاته ولذاته، مُنَزَّه عن النسبية، بينما العلم يتحدد بما هو نسبي. لذا، كانت معرفة المطلق إلهاماً؛ وكانت معرفة النسبي تنظيراً يستلزم استكشاف ما هو، في النسبي، منطق موضوعي؛ فيكون هذا المنطق نفسه، في وجوده الواقعي والنظري، نسبياً.
من هنا، قرّر مهدي عامل، علمية الفكر الخلدوني (12)، رافضاً في الوقت نفسه النظرية الخلدونية. فالفكر الخلدوني علمي، أولاً، لأنّه قطع مع التأريخ التجريبي السابق له. فبينما كان ذلك التأريخ، في تجريبيته، لا يرى من تتابع الأحداث إلا ظاهرها، فيفسر الحدث بالحدث؛ قرر ابن خلدون أنّ للتاريخ منطقاً، هو الذي يحكم، بالضرورة، حركة الأحداث التاريخية في تتابعها. وثانياً، لأنّ ابن خلدون، لم يذهب مذهب التأريخ المثالي السابق له، فيبحث في تاريخ «الخليقة» كله، بل قرر أن يستكشف منطق عصره؛ فلما اكتشف المنطق ذاك، صاغه في نظرية عامة في ضوئها ينقد الأخبار، ويفسر الأحداث، ويتنبأ بما سيأتي منها.
الفكر الخلدوني، إذاً، علميٌّ، عند مهدي عامل، في تحدده فكراً نظرياً في النسبي؛ وهذا هو شرط علمية كل فكر. ولكن، على الرغم من، بل بسبب «علمية الفكر الخلدوني»، فإنّ مهدي عامل يرفض الانطلاق من النظرية الخلدونية، لأنّها علم في تاريخ انتهى من التاريخ، لمّا وحدت الرأسماليةُ العالم. فصار منطقها ـــ الرأسمالية ـــ هو منطق التاريخ العالمي، وصارت النظرية العلمية في التاريخ، هي النظرية التي تستكشف المنطق ذاك، وتحدده في سياقها النظري. فصار دور ابن خلدون أن يقودنا إلى ماركس.

■ ■ ■


... غير أنّ مهدي نفسه يقول إنّ محدودية التوسع الكولونيالي تقود، بانتظام، إلى إعادة إنتاج الظواهر ما قبل الرأسمالية، ومنها العصبيّات. ومفهوم العصبية هو الأداة النظرية الأساسية عند ابن خلدون. وفي رأيي أنّ ابن خلدون يظل صالحاً لفهم صراع العصبيات في المشرق، طالما ظل المشرق كولونيالياً. ولا يعني ذلك تأبيد العصبيات، بل يعني الاعتراف بأنّ واقعنا الاجتماعي السياسي الثقافي، لا يزال مقيداً بالتحليل الخلدوني الذي ينبغي أن يجد له مكاناً في نظرية حركة التحرر الوطني العربية، يرنو إلى تجاوز الخلدونية، بمعنى أننا لا نستطيع اليوم أن نغفل العصبيات من تحليلنا واستراتيجيتنا إلا إذا كنا نقرر التعالي على واقعنا. لكنّنا، في الوقت نفسه، نسعى إلى تقويض العصبيات، لا بالتصادم معها، ولكن بالصدام مع الكولونيالية ـــ النيوليبرالية التي تنتجها، وبهزيمة الأخيرة، سوف تتحول الأولى إلى فولكلور.

الهوامش

(1) مهدي عامل، مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، ج 2: في نمط الإنتاج الكولونيالي، ط 2، بيروت، دار الفارابي، 1978، ص 203.
(2) مهدي عامل، أزمة الحضارة العربية أم أزمة البورجوازيات العربية، ط 3، بيروت، دار الفارابي، 1981، ص 155.
(3) المصدر نفسه.
(4) مهدي عامل، مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، ج 1: في التناقض، ط 2، بيروت، دار الفارابي، 1978، ص 16
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه، ص 17.
(8) المصدر نفسه، ص 18 – 19.
(9) المصدر نفسه، ص 22.
(10) المصدر نفسه.
(11) في مقدمة كتابه: «أزمة الحضارة العربية أم أزمة البورجوازيات العربية»، يعالج مهدي عامل التيارات الأساسية في الفكر العربي المعاصر، مظهراً تماسك هذا الفكر حول محور «التخلّف ـــ التقدم». ويناقش الكتاب، بخاصة، زكي نجيب محمود، شاكر مصطفى، أدونيس، فؤاد زكريا، أنور عبد الملك.
(12) خصص مهدي عامل كتيّباً ممتازاً للبحث «في علمية الفكر الخلدوني» بالاسم نفسه. انظر: عامل، في علمية الفكر الخلدوني، بيروت، دار الفارابي، 1986.