لطالما عظّم كتاب التاريخ لنا، ونحن تلاميذ صغار في المدارس الابتدائية، أمراء لبنان، وصيغ الوطن المفترض والمقبل. كان أكثر الأمراء حظوة بالتكبير هو الأمير بشير الثاني. كانت صورته مهيبة على غلاف الكتاب، وقصصه مرعبة وإنْ كانت ميّالة إلى العدالة، وكان أميراً كبيراً على إمارة جعلها الكتاب كبيرة أيضاً. كل الشعوب تبحث عن الانتماء إلى وطن كبير وقوي، تفتخر به، وتعتزّ بحمل هويته، وعن قائد بطل تنتمي إليه لأنّه تعبير عن قدرتها على البقاء في الصراع من أجل الحياة. كان هنيبعل بطلاً ملأ صدورنا فرحاً بأنّه من سلالتنا، ورؤوسنا بالبطولات، وربما كان لدى هنيبعل الكثير من البطولات.
أحببنا ونحن أطفال روايات البطولة الشهابية، والإمارة العظيمة الدور، رغم صغر الحجم، ولم نكن نستطيع المقارنة في هذه السن بين ما يقال لنا أو ما ندرسه في الصفحات الأولى وما يجري لاحقاً في الصفحات التالية. لذلك لم نشعر بالإحباط الكبير يوم درسنا أنّ أميرنا بشير الثاني الكبير وقف متلطّياً دون اتخاذ موقف مؤيّد أو معارض لمعركة عكا بين نابليون وواليها أحمد باشا. الأمير الكبير خاف على موقعه «الكبير» ودور إمارته «الكبيرة»، فإذا زجّها في موقف مع هذا ضد ذاك، وجاءت النتيجة معاكسة للمطلوب، انقلب الموقف على الأمير وإمارته، وارتدّت عليهما الأحداث بما لا تحمد عقباه، على غرار ما حدث مع سلفه فخر الدين الثاني.
ظلّ الأمير متلطياً دون اتخاذ موقف بانتظار جلاء الصورة التي طال تظهيرها، وكان الإحراج يزداد كلما طالت المعركة دون حسم بدخول نابليون إلى عكا، التي عصيت عليه فتراجع. يبدو أنّ طول المعركة كان في مصلحة الإمارة الصغيرة، وأميرها، وفي مصلحة الوطن ــ الكيان الذي سيشهد الولادة بعد نحو قرن.
تلطّي الأمير بشير أسّس لمفهوم ارتكزت عليه الأيديولوجيا اللبنانية عند تأسيس الكيان، الذي عرف بلبنان الكبير ــ لأنّه أكبر من الإمارة الشهابية «الكبيرة» أصلاً ــ ومفاده الصيغة التي لطالما تغنّى بها مؤسّس حزب الكتائب اللبنانية الشيخ بيار الجميّل والقادة المشاركون في توقيع الموافقة على تشكيلة الكيان، وهي أنّ «قوة لبنان في ضعفه»، وتستنسخ بالصيغة الدارجة اليوم المتمثّلة في صيغة «النأي بالنفس».
كم هما متشابهتان صيغة الإمارة الشهابية وصيغة كيان 1943، وهما على كبرهما المزعوم لم تكونا تستطيعان الصمود أمام الجيوش المحيطة، بهما والتابعة لإمارات وكيانات ودول المنطقة! فالإمارة الشهابية امتدّت من كسروان حتى مشارف الجنوب اللبناني، ويمكن تغطيتها، وإسقاطها عسكرياً اليوم بمدفع هاون 120. صيغة لا تحمل إمكانية صمود أمام أصغر جيوش العالم، لكنّنا، كتلاميذ، كان علينا أن نقبلها صيغة «كبيرة» بحجم أميرها «الكبير»، وإنْ كان يتلطى «نائياً بالنفس» عن اتخاذ موقف حيال قضية استراتيجية إقليمية يؤديها قادة كبار، وما لنا مصلحة بها إلا باسترضاء الأفرقاء وعدم إغضاب أي منهم منعاً لارتدادات الموقف علينا، نحن أبناء الإمارة الصغيرة، التي تصح كفيلم «الجميلة النائمة» (Sleeping Beauty) لوالت ديزني، لا تركيبة مناسبة لوطن.
كان الموقف يقتضي النأي بالنفس إذا سمح به، فتلك المرحلة كانت تحمل في طياتها بذور مفهوم قوة لبنان في ضعفه، وبالتالي على لبنان استرضاء كافة الفرقاء الإقليميين قبل أن يدفع الفاتورة الكبيرة عند اتخاذ موقف واضح وصريح من هذا الطرف أو ذاك.
قدم إلينا موقف بشير الشهابي على أنه ليس موقف ضعف وخوف وهزيمة مسبقة، وكذلك موقف الجميّل وصحبه في 1943 وما بعد وحتى اليوم، إنما موقف أرادوا لنا قبوله، موقف حكمة وقوة ورويّة وتفهّم. ولم تكن المشكلة اللبنانية، بنظرهم في يوم من الأيام، في الصيغة المعوّقة التي أسّست عليها الإمارة، ولا في صيغة 1943 الهزيلة التي ارتكز تأسيسها على صيغة سابقتها.
انتهى زمن الدراسة، ونسينا كتب التاريخ الابتدائي لأنّ سياسة الكيان جعلتنا ندفع الأثمان الباهظة لعلّة في الكيان، في ضعفه لصغر حجمه، وانقسام تركيبته، وكلاهما فرض على قادته سياسة استرضاء الآخرين لكي يبقوا في الحكم أولاً، ولكي لا ينهار الكيان عند أول استحقاق إقليمي داهم، ثانياً، وأيضاً كي لا نقع في الانكسار والإفلاس الاقتصادي، ثالثاً.
كانت قوتنا أن نسترضي الآخرين دائماً. فإذا أردنا استرضاء الانكليزي ضد الفرنسي، غضب الأخير، أو العكس، وانقلبت الأوضاع في البلاد كما جرى في نهاية ولاية الرئيس بشارة الخوري. وإذا أردنا استرضاء الأميركي، كما فعل الرئيس كميل شمعون مع حلف بغداد، غضب العرب، وانتفض نصف المتعاطفين مع الواقع العربي في الداخل، أي المسلمون، فتفكّك الكيان كما حصل في 1958. ولكي يعود الكيان ليتركّب من جديد، يفترض بنا استرضاء الأفرقاء الإقليميين والدوليين، القيّمين على تركيبة كياننا، لكي يعيدوا إلينا صياغة الكيان ــ القفص ــ الذي يؤوينا كدولة مزعومة بين الدول. وهكذا عقدت الصفقة الأميركية ــ المصرية لترمّم الكيان المتفكّك بعد انتهاء أحداث 1958.
درجت السلطة اللبنانية دائماً على العمل لاسترضاء مختلف الأفرقاء، مستخدمةً بعض إغراءات البلد كالمناخ الجميل، والسياحة والاصطياف، والدور الوسيط، والانحناء السياسي. قوة لبنان كانت في ضعفه، مثل جميلة ضعيفة قد تتمتع بقوة الاسترضاء للآخرين الذين يحبون ضعفها ونعومتها ولطفها.
كان على السلطات اللبنانية في مختلف المراحل استرضاء الخليجيين كي لا يمتنعوا عن المجيء إلى لبنان، خوفاً على الاصطياف، وصناعات المطاعم والفنادق وما شابه. وكم هو شبيه اليوم بالأمس، عندما نرى وزير السياحة يهرع إلى تبرير مواقف قد يتخذها الخليجيون، وإلى رتي المواقف إذا التمس تراجعاً في حضور المصطافين.
وإذا أغضب موقف لبناني سوريا، مثلاً، أغلقت الحدود وتوقفت حركة الوساطة والترانزيت وضرب الاقتصاد. لذلك، لم يكن من الضروري إغضاب السلطات السورية. تتعلّم سلطات لبنان ذلك بالبداهة والتوارث، كما تعلّم الأم ابنتها الطاعة لزوجها راضية مرضية.
ولا يجوز إغضاب الأميركي تحت أي ظرف، ليس لأنّه ينعم علينا بالخيرات، بل لأنّه السيد المتسلّط المتجبّر المطلوب استرضاؤه دائماً، على غرار الكثير من دول العالم.
لا يمكن حصر المواقف التي حاولت استرضاء مختلف الأطراف تحت شعار قوة لبنان في ضعفه، نظراً إلى كثرتها وتكرارها ووفرة التطورات الإقليمية التي كانت تلقي بثقلها على الكيان.
وتأتي الأزمة السورية لتستنسخ سياسة قوة لبنان في ضعفه بصيغة جديدة، وهي سياسة «النأي بالنفس» التي طرحتها قوة الوسط في تركيبة السلطة اللبنانية الأخيرة، المتمثّلة في تحالف رئيسي الجمهورية والحكومة والكتلة الجنبلاطية. ظننا أنّ سياسة النأي بالنفس هي في عدم زج لبنان بدعم أي طرف من الأطراف في الأحداث السورية. فلا الموالون للنظام يسمح لهم بالتدخل، ولا المعارضون له أيضاً، وهكذا قد يبقى البلد على الحياد، متجنباً ارتدادات الأحداث الإقليمية وتطوراتها.
ما جرى كان العكس تماماً. فسلطتنا لا تستطيع المنع، لئلا تغضب الأطراف المختلفة. وهكذا ترجم «النأي بالنفس» بإحجام الحكومة عن القيام بأي دور يمنع التدخل، ويحمي البلد من الارتدادات المحتملة. اختارت الحكومة أن تترك الامور سائبة، فاستراحت كل الأطراف في غياب السلطة. نأت الحكومة بنفسها بطريقة حقيقية عن اتخاذ أي إجراء يحيّد البلد. الأميركي، ومعه حليفه الخليجي، لا يغضب، لأنّه ليس ثمّة مَن يمنع تهريب السلاح والمسلحين إلى سوريا، ولا سوريا المسيطرة على الماء والهواء وكل ما يتعلق بحياة البلد، نظراً إلى علاقتها الطبيعية بالبلد، وإحاطتها به على غالبية مسافات الحدود، تغضب لأنّ السلطة حليفتها وترضيها في مجالات مختلفة.
هكذا أسّس بشير الثاني لسياسة «النأي بالنفس» مروراً بـ«قوة لبنان في ضعفه». هل من حكمة أعمق وأبعد نظراً تفي هزال كيان من التحلّل عند كل أزمة؟
* كاتب لبناني