شهدت دمشق، أخيراً، حراكاً سياسياً مكثفاً، تمثل في عقد مؤتمرين لقوى المعارضة الوطنية: «المؤتمر الوطني لإنقاذ سورية» في 23 أيلول، و«مؤتمر قوى التغيير الديموقراطي السلمي» في 26 أيلول 2012. وفي المؤتمرين، وعلى هامشهما، ظهرت مواقف متمايزة، ظهّرتها الخطابات والمقابلات والتصريحات.
ويمكننا القول إنّه توضحت، من الناحية الفكرية وليس التنظيمية، أربعة مواقف رئيسية، أحددها، هنا، انطلاقاً من تحليل النصوص، وليس من خلال أي انحياز سياسي أو شخصي، كالتالي:
(1) موقف «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي»، المشوّش نفسياً وفكرياً وسياسياً
(2) موقف هيثم مناع، الأخلاقي والمضطرب سياسياً
(3) موقف جبهة التغيير والتحرير، الواقعي العملي
(4) موقف فاتح جاموس، اللينيني بامتياز
وتلخّص هذه المواقف (التي سأتناولها في المقال أدناه) لوحة المعارضة الوطنية السورية، لكنّها لا تلخّص الحركة الوطنية السورية التي تضم أيضاً حزب البعث الحاكم وحلفاءه التقليديين فيما كان يُعرَف بـ«الجبهة الوطنية التقدمية»، وقوى مجتمعية ومهنية وعشائرية، ليس لها بعد تمثيل سياسي مستقل، ولكنها تعبّر عن حساسيات مستقلة، والعناصر الفنية والإدارية النظيفة من بيروقراطية الدولة السورية ومؤسساتها، بالإضافة إلى الجيش العربي السوري الذي لا يمكن النظر إليه كمؤسسة مهنية فقط. إذ هو بالأساس مؤسسة وطنية وعماد الدولة.
أعضاء شبكة النيوليبرالية والفساد في النظام، كما الإخوان المسلمون وحلفاؤهم من العناصر التكفيرية والإرهابية وسواهم من عملاء التحالف الغربي التركي الخليجي، ليسوا جزءاً من الحركة الوطنية السورية. كذلك الحال بالنسبة للأجهزة الأمنية التي لا بد من إعادة هيكلتها على أسس أمنية مهنية، ووقف تدخلها، نهائياً، في الحياة السياسية. ووفقاً لهذا التوضيح، فإنّني أدعو القوى اليسارية والقومية العربية إلى مبادرة تتضمن ما يلي:
أولاً، دعوة أطراف المعارضة الوطنية إلى الاصطفاف في إطار ديموقراطي واحد، يؤمّن التعددية الفكرية والسياسية، ولكنّه موحّد إزاء الغزو الغربي التركي الخليجي لسوريا،
ثانياً، وعلى هذا الأساس، الانتقال من مفهوم «المعارضة الوطنية» الفائت وغير المطابق للاحتياجات الوطنية السورية الراهنة والملتبس مع مفهوم «المعارضة» الخائنة، إلى مفهوم الحركة الوطنية السورية.
ليس للحركة الوطنية مضمون أيديولوجي أو سياسي حزبي أو فئوي، بل يتحدد مضمونها، بطبيعتها كحركة وطنية من حيث تمثيلها لكل مكونات المجتمع الوطنية التي لها مصلحة في، وترى أولوية الدفاع عن استقلال الوطن وسيادته وترابه ووحدته، وصيانة دولته الوطنية، وتحرير أراضيه المحتلة (الجولان والإسكندرون).
يتحمّل حزب البعث الحاكم، المسؤولية الرئيسية عن تدهور الوضع السوري، ذلك أنّ القمع المنظّم الطويل المدى للتعددية السياسية في سوريا، أدى إلى تكوين تشوّهات عميقة، فكرية ونفسية وسياسية، لدى الأحزاب والشخصيات المعارضة، وأتاح الفرصة الواقعية للنشاط الديني كملجأ وحيد للتعبير عن الذوات المسحوقة والممنوعة من التعبير السياسي في المجتمع. وقد رافق ذلك ــ على طول الخط ــ تعاظم قوة وانتشار مؤسسة الفساد التي استولت، في ظل الرئيس بشار الأسد، على مجالات القرار الاقتصادي ــ الاجتماعي، وفرضت على الدولة والمجتمع، سياسات نيوليبرالية متوحّشة كان من شأنها إفقار وتهميش الأغلبية الشعبية.
وكان من شأن كل ذلك أن ينفجر تحت تأثير الطاقة الجماهيرية التي ولّدتها حركة الانتفاضات العربية، ليكشف حجم الخراب الحاصل في المجتمع السوري من انشقاق طائفي ومذهبي وأحقاد ونزعات اجرامية وتفكك المعارضات، واستعداد بعضها للتورط في الخيانة، وهيمنة الإخوان المسلمين والتيارات الدينية على الحركة الشعبية. لكن المأساة الأكبر إنما تكمن في ما ظهر، علناً، من انهيار الروح الوطنية لدى أقسام من الجماهير السورية، بدا وكأنّها في حالة انتحار وطني، وهي تطالب بالتدخل العسكري الأجنبي في تظاهرات، أي في انزياح جماعي وليس فردياً عن الروح الوطنية. وقرنت هذه الأقسام من الجماهير (خصوصاً في الريف السني الذي تثقف على أنّ إفقاره وتهميشه ليسا سوى مظلمة مذهبية)، القول بالفعل، حين قدمت للجماعات المسلحة المدعومة من الغزاة الأجانب، الحاضنة الاجتماعية والمقاتلين. وعلى هامش الحركة، المشوّهة في تركيبها ووعيها، وأحياناً في قلبها، نشطت شبكات التهريب والمافيات وعصابات الإجرام، بوصفها «معارضة».
كل ذلك لم يهبط من السماء بالطبع، بل تكوّن نتيجة سياسات اتبعها النظام السوري، وهو يتلقى اليوم، مع المجتمع والدولة، نتائجها. لكن بالمقابل، لا بد من الاعتراف بحقيقتين، أولاهما أنّ نظام البعث، رغم كل شيء، حقق انجازات اقتصادية وتنموية لا مجال لإنكارها، خصوصا بالمقارنة مع مصر مثلا، وثانيتهما، أنّ نظام البعث لم يركع، حتى في أسوأ الظروف، أمام الولايات المتحدة وإسرائيل، وأنّه حافظ على سياسات خارجية مستقلة، وعظّم الدور الإقليمي السوري، وسار دائماً، في نهج دعم المقاومات العربية. ولذلك، من غير الممكن، موضوعياً، إخراج نظام البعث من إطار تجديد الحركة الوطنية السورية، على أن يكون جزءاً من هذه الحركة وليس «كلها».
يتطلب ذلك من «هيئة التنسيق»، التراجع عن برنامج اسقاط النظام، بالمقابل، على النظام أن يعترف، صراحة، بالمسؤولية عن أخطائه في إدارة الدولة والاقتصاد الوطني، والاعتذار عنها، وتحرير نفسه من العناصر الفاسدة، والمبادرة إلى إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، مهنياً، لمواجهة الاختراقات الاستخبارية الأجنبية والتنظيمات الإرهابية، وليس لمواجهة التعددية السياسية.
فقد النظام السوري، موضوعياً (بسبب أخطائه المتراكمة ونتائجها الكارثية) وفعلياً (بسبب تراجع قدرته على السيطرة والهيمنة)، شرعية التمثيل الأحادي للدولة السورية. وهذا يعني، بالمعنى التاريخي، أنّ ذلك النظام، بسيئاته وحسناته، أصبح من الماضي، وتالياً أصبحت المعارضة من الماضي أيضاً. اليوم، نحن في سوريا، أمام استحقاق وطني يتمثل في تجديد الحركة الوطنية السورية الجامعة القادرة، وحدها، على القيام بمهمات متداخلة ومركّبة لا يمكن تأجيلها، وهي:
ـ هزيمة الغزاة وأدواتهم من الجماعات الأصولية المسلحة المحلية والجماعات الإرهابية الوافدة،
ـ تأمين وحدة وسلامة الأراضي الوطنية وبسط سيادة الدولة على كل شبر فيها،
ـ المصالحة الوطنية الشعبية،
ـ وقف كافة أشكال العنف المسلح والقمعي في مواجهة المجتمع وقواه السياسية الوطنية، وإنهاء ظاهرة الاعتقال السياسي،
ـ إعادة المهجّرين إلى أحيائهم وبلداتهم وقراهم، وتقديم كل أشكال المساعدة للأسر لإعادة تأسيس حياتها الطبيعية،
ـ الشروع في إعادة البناء،
ـ تهيئة الظروف المناسبة لإجراء انتخابات حرة لجمعية تأسيسية، بإشراف مجموعة دول البريكس.
وقيام الحركة الوطنية السورية، عملية اجتماعية تاريخية موضوعية، تفرض وستفرض نفسها من خلال الفرز الحاصل والمتعاظم على أساس الموقف من الغزو الأجنبي للبلاد، ومن المصالحة الوطنية. فلا انتصار على الغزاة من دون مصالحة وطنية، ولا مصالحة وطنية من دون التوافق على أولوية صدّ الغزاة.
في رأيي أنّ انعقاد مؤتَمرَي دمشق المعارضين الوطنيين، على رغم الخلافات والتباينات، يشكّل خطوة تأسيسية في طريق تكوّن الحركة الوطنية السورية الجديدة التي حالما تتبلور فكرياً وسياسياً وتنظيمياً، فإنّها ستضع النظام أمام خيار تاريخي لا مناص منه، سوف يعمل، بدوره، على الفرز داخله.
هل يمكننا تكوين مبادرة يسارية ـ قومية من بلدان الهلال الخصيب، للسير في هذا السيناريو إلى مؤتمر عام للحركة الوطنية السورية، يتحدد المشاركون فيه وفق معايير موضوعية تتصل بالحركة وروحها ومهماتها، وتنبذ كل التحيّزات الفائتة والنزعات الإقصائية، وتنتهي بإعلان حكومة ائتلافية تمثّل كل أطراف الحركة الوطنية، وتتمتع بالصلاحيات اللازمة لتنفيذ المهمات المعرّفة أعلاه؟
في رأيي أنّنا في لحظة متحركة بالفعل، بحيث يمكن أن يكون هناك وزن جدي لمبادرة تقترحها قوى يسارية وقومية بشأن سوريا. لقد آن الأوان لكي تخرج تلك القوى من دائرة الرأي إلى دائرة الفعل السياسي. وسوريا، اليوم، هي قلب السياسة العربية، وسيتوقف على مآل الصراع فيها مصير المشرق كله، فإذا مضت التطورات باتجاه هزيمة الغزاة وانتصار الحل الوطني الاجتماعي الديموقراطي في هذا البلد، فإن الفرصة ستكون مهيأة لولادة المرحلة الثانية من حركة التحرر الوطني العربية، وبالمقابل، فإنّ انتصار الغزاة أو حتى الوقوع في براثن الستاتيكو التدميري الحاصل، سيقود إلى دمار المشرق كله.



أوراق أردنية: عاشق الحوريات

يبرر زعيم السلفية الجهادية في الأردن، أبو محمد الطحاوي، أولوية الجهاد ضد الدولة السورية بكونها تمنع المجاهدين من القتال ضد إسرائيل، لكن السلفيّ الجهادي، منتصر بيروتي، المعروف بعاشق الحوريات، لم يكن بحاجة إلى موافقة السوريين أو الأردنيين أو المصريين أو اللبنانيين، للقتال ضد الإسرائيليين، لأنّه جاء أصلاً من فلسطين؛ درس الشريعة في جامعة اليرموك في شمالي الأردن، وترك رام الله للاستقرار في المملكة، ومن ثم واتته الفرصة للجهاد في سبيل اسقاط النظام «النصيري»، الذي يمنع مروره للجهاد في فلسطين. بيد أنّه قُتل في الطريق. والأرجح أنّه لم يُقتل برصاص «النصيريين»، بل برصاص الجيش الحر الذي يتنافس، أحياناً، مع «جبهة نصرة أهل الشام» المرتبطة بالقاعدة.
مشوار ملتو وطويل جداً قطعه عاشق الحوريات؛ كان يمكن اختصاره ببقائه في أو عودته إلى فلسطين والجهاد فيها، لكن لا. فالخطة تقتضي مغادرة الأراضي المحتلة والعودة الجهادية إليها من سوريا بعد التخلّص من «النصيرية»! راية الجهاد اليوم منصوبة لمواجهة أعداء التحالف الأميركي ـ الخليجي (النظام السوري وحزب الله في لبنان وإيران وروسيا) بينما تعلن تل أبيب، رسمياً، ولأول مرة منذ 1967، أنه لا يوجد اليوم مطلوب أمني واحد في الضفة الغربية المحتلة. وضع الطحاوي منهجاً يتعلق بمقاتلة الدول التي تحيط بإسرائيل، بما يسمح للسلفيين الجهاديين، في النهاية، مقاتلة الإسرائيليين، لكن، ماذا لو قلب الطحاوي منهجه، ورأى أن الجهاد يبدأ من فلسطين؟ هل كان سُمحَ له بالنشاط العلني والتجنيد والتسلّح والتصريحات الجهادية؟
هناك شيء غير مفهوم في السياسة الأمنية الأردنية، التي تتعقّب نشطاء ديموقراطيين سلميين وتعتقلهم لمجرد ارتفاع سقف شعاراتهم، بينما تسمح، في الوقت نفسه، للسلفيين الجهاديين بالنشاط العلني، ومن ثم تقوم، بين حين وآخر، بالتصدي لمجموعات منهم في طريقها إلى سوريا. لعبة القط والفأر هذه خطرة جداً.
«العرس» الجماهيري الذي أقامه السلفيون الجهاديون لـ«عاشق الحوريات» في مخيم البقعة، لم يكن فقط لقبول التبريكات بمقتل بيروتي، لكنه دعوة صريحة إلى تجنيد سواه، وللتحريض غير المستتر ضد الدولة الأردنية، التي تحول هي الأخرى بين المجاهدين وفلسطين.
خلال النصف الثاني من أيلول الفائت، توسع فجأة حضور السلفيين الجهاديين سياسياً وإعلامياً، في الأردن. أعلن الرجل الثاني في التنظيم، أبو سياف، أنه أرسل مجموعة قتالية من أربعة مجاهدين نجحت بالمرور إلى درعا، بينما أعلن مصدر حكومي عن اعتقال مجموعة رباعية (أخرى؟) من بينها أحد أقرباء أبو مصعب الزرقاوي. فما هي الحكاية؟ هل خرج السلفيون الجهاديون عن الرقابة والوصاية الأمنية المعتادة؟ أم هو اصطراع مراكز نفوذ؟ أحد قادة الإخوان المسلمين، أحمد الزرقان، دافع عن استنكاف جماعته عن المشاركة في اعتصام احتجاجي على الفيلم المسيء إلى الرسول (ص) أمام السفارة الأميركية بعمان، بـ«كشفه» معلومات لدى الجماعة تقول إنّ الاستخبارات الأردنية هي التي طلبت أو شجعت السلفيين الجهاديين على الاعتصام أمام السفارة. معنى ذلك أنّ النشاط الاحتجاجي ذاك كان نشاطاً أمنياً. لكن، بأي هدف؟ لم يقل الزرقان شيئاً، إلا أنه يمكننا أن نتصوّره وهو يضع النقاط على الحروف: أرادت الاستخبارات استدراجنا للتصادم مع الأميركيين! إذاً أصبح لا بد من التآمر لدفع «الإخوان» إلى التصادم مع واشنطن! بالطبع، ذلك أنّ ثلاثة أرباع القوة الإخوانية مصدرها السفارة الأميركية. ردّ الطحاوي على الزرقان بأقذع العبارات، وعيّره بالقول إنّه بينما لا يوجد معتقل إخواني واحد، فإنّ المعتقلين من السلفية الجهادية في السجون الأردنية، يعدّون بالعشرات. وهذا صحيح، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ إخوتهم خارج السجون يتمتعون اليوم بحرية النشاط السياسي. لدى الجهات الأمنية الأردنية، الكثير من الغموض والثقة بالنفس حول القدرة على ضبط حركة السلفيين الجهاديين، إلا أنّ التجربة السورية الماثلة، لا تسمح بمثل ذلك الغرور. فحالما تتشكل ظروف الفوضى، ينبت «عشاق الحوريات» كالفطر. هذا النوع من التحذيرات يجري التغاضي عن مناقشته رسمياً، بما يزيد حالة الغموض.
يحظى السلفيون الجهاديون في الأردن، منذ شهور، بمساحة من الحرية السياسية، دون الجهادية؛ فكأن عمان تريد إرضاء السعودية، وفي الوقت نفسه، تلافي الفلتان الأمني على الحدود الأردنية ـ السورية أو في الداخل، لكن الخطر يظل ماثلاً بالطبع، فسواء اتجهت التطورات في سوريا نحو التسوية أم نحو الحسم لمصلحة أي من الفريقين، فسوف ينتهي الطلب على خدمات السلفيين الجهاديين في البلد الجار، وسيواجه الأردن، عندها، مشكلة أمنية جدية صنعتها سياسة أمنية لا تلتفت إلى أنّه يجري الآن انتشار الفكرة وتوسع الحاضنة الاجتماعية.
كان القياديّ الإخواني يعاتب سفيراً أوروبياً على تراجع الاتحاد عن دعم برنامج الإصلاحات السياسية في الأردن، فردّ عليه السفير بالقول: لكنكم لم تتمكنوا حتى الآن من تسيير تظاهرات كبرى، 50000 مثلاً. ابتلع القياديّ الإخوانيّ الإهانة، لكن «المجلس الأعلى للإصلاح» المكوّن من إخوان الجماعة وإخوان ذراعها السياسي (الحزب) أطلق الدعوة إلى مسيرة الـ50000 في عمان في 28 أيلول المضي، ثم، بعد استنكاف جميع القوى السياسية عن المشاركة فيها، جرى تأجيلها أسبوعاً إلى 5 تشرين الأول الحالي، بحيث يكون لدى المنظمين وقت كافٍ لإنجاحها.
الماكينة الإخوانية تعمل بكامل طاقتها، ووفقاً لتعميم داخلي تسرّب دُعي كل إخواني وإخوانية ـ بمن فيهم المرضى ـ إلى التحشيد والمشاركة. وبالموازاة، اشتغلت ماكينات الجمعيات الخيرية وتوزيع المعونات. إنّه التحدي الذي يواجه «الإخوان» إنجاحه تعويضاً عن هزيمتهم في عملية مقاطعة التسجيل للانتخابات البرلمانية المقبلة. أصبحوا خارج الانتخابات الآن، ولم يعد أمامهم سوى تفعيل شارعهم. وتقول التقديرات المتفائلة إنّهم يستطيعون تحشيد 25 ألفاً معظمهم من جمهور المخيمات غير المشارك تقليدياً في نشاطات الحراك الشعبي. ولتلافي الانكشاف السياسي لمسيرة 5 تشرين الأول، سعى الإخوان إلى اجتذاب عدد من لجان الحراك الشعبي في المحافظات واللجان العشائرية، إلى نشاطهم المزمع.
وتسود أوساط الحراك الأردني الآن حالة من الغضب، أولاً، بسبب حملة الاعتقالات في صفوف النشطاء الراديكاليين، وثانياً، بسبب تجاهل المطالب الشعبية، كمحاكمة الفساد ومراجعة الخصخصة وتنمية المحافظات المفقرة، وثالثاً، بسبب جملة من إجراءات حكومية استفزازية، منها اصدار لائحة تعيينات استنسابية للوظائف العليا في الدولة، بما في ذلك تعيين أحد الليبراليين الجدد المشتبه بعلاقاته مع شبكات البزنس، هنري عزام، مديراً للصندوق الاستثماري للمؤسسة العامة للضمان الاجتماعي. وما يجري تداوله بشأن هذا التعيين خطير جداً، لجهة أنه يأتي في سياق خطة لبيع حصص الضمان في مصرفين رئيسيين، هما البنك العربي وبنك الإسكان، لمستثمرين قطريين. كل ذلك لا يهمّ «الإخوان» المهتمين، فقط، باستصدار قانون انتخابات يكفل لهم الأغلبية البرلمانية، لكنّهم يفيدون من أجواء الغضب، لتغطية مسيرتهم المقبلة بالغاضبين غير المؤطرين سياسياً.
وقعت 55 لجنة حراكية من أصل حوالى 150 بياناً للمشاركة في مسيرة 5 تشرين الأول المقبل. إلا أنّ ذلك لا يعدو كونه لقاء مؤقتاً، ولا يعني أن الحراك الشعبي قد انتقل إلى موقع إخواني، أولاً، لأنّ البرنامج الأساسي للحركة الشعبية الأردنية، بمضمونه الوطني الاجتماعي، مختلف جذرياً عن برنامج الإخوان المرتكز إلى نقطة واحدة هي تمكينهم من صيغة انتخابية ودستورية للمشاركة في الحكم، وثانياً، لأن اللجان الموقعة على بيان المسيرة، هي، في معظمها، لجان ضعيفة التأثير، يمثل بعضها واجهات إخوانية، ويمثّل بعضها الآخر، نزعات فردية، ويمثل بعضها الثالث حالات مطلبية خاصة. ولا يعني ذلك أنها غير مشروعة، وخصوصاً اللجان التي تمثّل أصدقاء وأهالي المعتقلين السياسيين.



معارضو الداخل: أربعة مواقف



تمكنت «هيئة التنسيق» من جمع عشرين حزباً وتياراً من المعارضة السلمية السورية، في مؤتمر علني في فندق أمية في دمشق، الأحد 23 أيلول 2012، دعا إلى ما يمكن تلخيصه بإسقاط النظام السوري سلمياً. وهو هدف يفتقر إلى الواقعية، ليس فقط من زاوية احتساب موازين القوى، بل، بالأساس، من زاوية عدم تطابقه مع الواقع الماثل، وجوهره عملية الغزو الأجنبي للبلاد بأدوات محلية وإرهابية عربية ودولية.
تقترح «هيئة التنسيق» تنظيم استسلام النظام من خلال مفاوضات، لكنّها تشترط أولاً «سحب الجيش». والمعنى الفعلي الوحيد لهذا المطلب هو استسلام النظام و«الهيئة» معاً للمسلحين الأصوليين والإرهابيين المدعومين من الخارج، والتمكين خصوصاً للاحتلال التركي، وإغراق البلد في حرب أهلية بين ميليشيات المذاهب والطوائف والاتنيات إلخ. برنامج «هيئة التنسيق» مؤداه الفعلي هو الطلب من القوات المسلحة الانسحاب من المعركة، وخيانة الوطن. وهذا كله، إذا حسُنت النوايا، ليس سوى سذاجة سياسية، لكن لا يعدم أنّ قادة في الهيئة ـ مثل حسن عبد العظيم ورجاء الناصر ـ يميلون، بالفعل، إلى انتصار الجماعات الإسلامية المسلحة، بل إنّ عبد العظيم والناصر، لم يصدرا يوماً أية إدانة للتفجيرات الإرهابية حتى عندما استهدفت مؤسسات مدنية وإعلامية، وأعادانا، دائماً إلى «مسؤولية النظام»! حسناً... النظام مسؤول في الأساس عن تخليق الظروف الملائمة لولادة الإرهاب، أمعنى ذلك ألا ندين الإرهابيين؟
من الواضح أنّ تحوّلاً ديموقراطياً غير مؤطر قانونياً، قد حدث فعلاً في سوريا، التي ربما كانت البلد العربي الوحيد الذي يمكن أن يُعقَد فيه، وعلى أرضه، وفي فندق بعاصمته، مؤتمر معارض ينادي بإسقاط النظام الحاكم. ولم تأذن دمشق بمؤتمر كهذا، بالطبع، إلا تحت ضغوط حلفائها في روسيا والصين وإيران، لكن هناك، في الأساس، سبب داخلي هو أنّ استراتيجية النظام السوري تقوم اليوم على كسب الحرب الفعلية مع المجموعات المسلحة والمنظمات الإرهابية المدعومة من التحالف الأميركي التركي الخليجي. وهو ما يجعل من المعارضين السلميين، حتى أولئك ممن يطالبون بإسقاط النظام، حلفاء موضوعيين في الحرب ضد التدخل الخارجي.
المؤسف أنّ «هيئة التنسيق» لم تتمتع بسعة الأفق الديموقراطية، وبقيت متمترسة في ثنائية النظام/ المعارضة، بحيث رفضت مشاركة «جبهة التغيير والتحرير» وحلفائها في «المؤتمر الوطني لإنقاذ سوريا»، في تناقض مع عنوان المؤتمر نفسه من حيث أنّه وطني، أي من حيث يفترض أنه يتسع لجميع الوطنيين، أي لجميع الذين يرفضون التدخل الخارجي والغزو الأجنبي المتعدد الأشكال.
حجة «هيئة التنسيق» لاستبعاد «الجبهة» (المكونة رئيسياً من حزب الإرادة الشعبية والحزب السوري القومي الاجتماعي) هي أنها ممثلة بوزيرين في الحكومة السورية (قدري جميل وعلي حيدر). ولا بد للمرء أن يتوقف أمام هذه التطهّرية السياسية الإقصائية التي يمارسها سياسيون سبق لهم التفاوض مع ما يسمى «المجلس الوطني السوري» في إسطنبول، وعماده كما هو معروف مزيج من مندوبي الاستخبارات الغربية والإخوان المسلمين، الذين تحوّلوا إلى كتائب مسلحة إرهابية تعمل بإمرة الاستخبارات التركية وشريكاتها الدوليات والعربيات.
وفيما ترفض «هيئة التنسيق» التدخل الخارجي (المباشر) فإنها لم تُدن، لا هي ولا مؤتمرها، بكلمة واحدة، التدخل الخارجي غير المباشر القائم فعلياً، من خلال الإدارة الاستخبارية والتدريب والتمويل والتسليح وتأمين المقاتلين الأجانب إلى الداخل السوري. وقد أصبح هذا التدخل الإجرامي، الحقيقة البارزة في المشهد السوري اليوم، ما حدا بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلى الإعلان الصريح عن أنّ الغرب هو السبب الرئيسي للفوضى والعنف في سوريا.
لكن، من غير الممكن لـ«هيئة التنسيق» أن تعترف بهذه الحقيقة، لأنّها تنسف مطلبها بانسحاب الجيش من المعركة مع الغزاة. في المقابل، فإن دعوة «الهيئة» إلى التزام «المعارضة المسلحة» بوقف النار، هي دعوة بلا قيمة، ذلك أن عماد تلك «المعارضة المسلحة» جماعات لا تصغي إلى الهيئة، بل إلى أوامر الاستخبارات الغربية والتركية والخليجية.
لو كان أولئك الإرهابيون مسيطرين في دمشق، فهل كان ممكناً لمؤتمر «هيئة التنسيق» أن يُعقد فيها؟ وهل يظن أولئك المناضلون الديموقراطيون أنّهم سيحكمون أو يشاركون في الحياة السياسية؟ سيكون مصير أولئك «العلمانيين»، الذبح الحلال بسكاكين «الثوّار» أو الهرب من سوريا ـ بالآلاف ـ إلى المنافي الدائمة.
كان بإمكان «المؤتمر الوطني لإنقاذ سوريا» أن يستوعب كل قوى المعارضة الوطنية، وانتزاع الكثير من النظام السوري، لو أنّ «الهيئة» انطلقت من موقع وطني صريح، وتعاملت بحكمة وواقعية مع موازين القوى القائمة؛ كان بإمكانها انتزاع حكومة وحدة وطنية تتولى، هي بنفسها، التصدي للإرهاب والتدخل الخارجي، المباشر وغير المباشر، وتعيد هيكلة الدولة السورية كجمهورية ديموقراطية تعددية. وهو الخيار الوطني والواقعي والذكي والمقدام الذي أخذه قدري جميل وعلي حيدر.
ورغم أنّني أؤيد الخط العام لـ«جبهة التغيير والتحرير»، واعتبرها متفوّقة على «هيئة التنسيق» من جهة وضوح موقفها الوطني، كما من جهة تأكيدها بخلاف «الهيئة»، على البعد الاجتماعي التحرري المعادي للنيوليبرالية، فإنّني لمستُ تراجعاً في الأداء والخطاب السياسي لرموزها في قيادة «مؤتمر قوى التغيير الديموقراطي السلمي»، الذي افترضت به أن يشن هجوماً سياسياً معاكساً وواضحاً وصلباً ينطلق من أولوية إسقاط الغزو أولاً، بدلاً من تقديم التبريرات والاعتذارات ومدّ يد التفاهم بلا شروط.
في سلسلة من التصريحات والمقابلات حول «المؤتمر الوطني لإنقاذ سوريا»، ميّز هيثم مناع نفسه عن «هيئة التنسيق» ومؤتمرها. ورغم أنّه أكد، مراراً، على شروط «هيئة التنسيق» غير الواقعية للتفاوض مع النظام، فإنّه هاجم، مراراً أيضاً، جماعة إسطنبول وعلاقاتها الدولية والإقليمية المشبوهة، وهاجم الإرهابيين بحس وطني وانساني مرهف، لكنّه، ويا للأسف، لا يتحلى بالنضج السياسي الكافي، ويظل يقبع وراء حجب التطهرية التي قد تخدمه شخصياً، لكنّها لا تخدم مشروعه السياسي للجمهورية الديموقراطية.
شيء آخر يغيب عن هذا المناضل المحترف في مجال حقوق الإنسان، هو حقوق المجتمعات في مواجهة النيوليبرالية والكمبرادورية، حيث الصراع الاجتماعي معقد وشرس بأكثر مما يمكن تجاهله، أو الدعوة إلى معالجته بعبارات مطاطة مثل «العدالة الاجتماعية». يلوم هيثم منّاع ـ الذي لا يكل من القول إنّ «الحقيقة ثورية دائماً»، وسائل الإعلام لأنّها لم تعد تتحدث عن «الثورة» في سوريا، بل عن «الحرب». لكنها، بالفعل حرب. وحرب شاملة تشنها قوى دولية وإقليمية على الوطن السوري والدولة السورية بأدوات إرهابية. وفي سعير هذه الحرب الوجودية، ليس هناك مجال للمساواة بين طرفي الحرب؛ الجيش العربي السوري المعبر عن سيادة الدولة الوطنية في مقابل المجموعات المسلحة والإرهابية المدارة من قبل الغزاة الأجانب. وبنتيجة الحرب ـ لا بنتيجة المناقشات ـ سوف يتقرر مصير سوريا والمشرق.
وحده، فاتح جاموس، باسم «تيار طريق التغيير السلمي»، نهج نهجاً لينينياً «بالتحليل الملموس للوقائع الملموسة» ووضع النقاط على الحروف، وحدد المهمات الملقاة على عاتق الوطنيين السوريين، بروح ثورية لا تعرف العُصابات النفسية أو الخوف من الاتهامات أو مغازلة العدو من تحت الطاولة. المناضل الشيوعي الذي قضى في سجون النظام السوري ما يقرب من عقدين، لم يتلعثم، وهو يعلن البند الأول في بيانه المقتضب والدسم: «نعتقد أن مستوى التدخل الخارجي التركي قد وصل حد التدخل العسكري المباشر في الكثير من التفاصيل على مساحات واسعة من محافظتي إدلب وحلب، وكذلك في غابات اللاذقية، ما يطرح على المؤتمرين ضرورة التفكير الجاد في خلق جبهة مقاومة سياسية وشعبية لمواجهة هذا التدخل وأدواته، ومساندة عمليات الجيش العربي السوري في ذلك».
نعم. هذا هو المدخل الوحيد الصحيح لتناول القضية السورية الآن: المقاومة، لكن، بقيت خطوتان أمامه وأمامنا لولوج هذا الطريق، هما: التوضيح بأن المقصود بالمقاومة الشعبية تحديداً المقاومة المسلحة، ثم لماذا يجب أن تقتصر على السوريين؟ المعركة هي معركة وجود بالنسبة إلى المشرق كله، معركة اليساريين والقوميين المخلصين لحركة التحرر الوطني الاجتماعي، ولا شيء يمنع، سياسياً وأخلاقياً، من مشاركة الرفاق العرب في جبهة للمقاومة السورية ضد الغزو التركي، وغداً ضد الاحتلال الإسرائيلي.
الغزو الاستعماري التركي غدا مكشوفاً، وهو يستهدف، مستخدماً أدوات الإسلام السياسي المسلح والغطاء الخليجي الغربي، السيطرة على المحافظتين اللتين يطمع، تقليدياً، في ضمهما إلى «الدولة التركية». الوقت، إذاً، ليس وقت المماحكة حول المسؤول عن وصول البلاد إلى هذه الحافة، بل هو وقت المقاومة، وليس وقت «التفكير الجاد» في إنشاء جبهة للمقاومة، بل هو وقت إنشائها فعلاً. وهذا لا يتعارض مع جهود التغيير الديموقراطي السلمي. فهذه الجهود تعني الداخل، أي تعني التوافق بين الوطنيين على تجديد الدولة السورية، لكن مع الغزاة والإرهابيين، لا مصالحة ولا مفاوضات، بل المقاومة.
وأتابع مع فاتح جاموس، «ثانياً، إنّ هناك صفاً دولياً وسياسياً صديقاً بالفعل للشعب السوري يقف إلى جانبه في أزمته السياسية الوطنية، وفي كارثته الإنسانية وتفاصيلها المخيفة، وعلى رأس ذلك الصف يقف الأصدقاء الروس والصينيون ومجموعة دول البريكس، وعدد من دول المنطقة على رأسها إيران». ويطالب جاموس هؤلاء الأصدقاء بتفعيل «التضامن والإغاثة الانسانية، والمساهمة في إطلاق الحوار الوطني»، في مقابل دعوة «هيئة التنسيق» لمؤتمر دولي حول سوريا يحضره أعداؤها من ممثلي الإمبريالية والرجعية. و«ثالثاً، حان الوقت لتقوم النخب السياسية والفكرية السورية بعملية مراجعة جادة في ما يتعلق بالأحداث وحقيقتها، وأنها تحولت إلى أزمة وطنية شاملة تفترض حلولاً خاصة» مبتكرة، انطلاقاً من ضرورة الانتباه إلى «خطورة تلك الجبهة الممتدة من الولايات المتحدة إلى دول الخليج وتركيا، والعاملة على إيصال أكثر القوى الدينية تطرفاً وتكفيريةً وطائفيةً ودمويةً، إلى الحكم»، بما يستوجب التقاء «القوى والفعاليات الديموقراطية والوطنية العلمانية والمستنيرة لأداء دور فاعل في الأحداث والاحتمالات والسياقات الخطرة التي تُدفَع إليها سوريا».
الأرجح أنّ خط فاتح جاموس لا يمثّل، حتى الآن، تياراً أساسياً في الحركة الوطنية السورية، لكنّه، مع ذلك، يرسم لها الطريق الصحيح، محلياً وإقليمياً ودولياً.