في 1890، وفي مناسبة سقوط قرار بسمارك الصادر في 1878 بحظر نشاط الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني، كتب فريدريك إنجلز: «إنّ الخسارة هي مصير أية حكومة تسمح لحركة معادية تتطلع إلى إسقاطها بالعمل في إطار القوانين». كان إنجلز يفكر آنذاك بالتأكيد في مصير لويس السادس عشر بعد ثورة 14 تموز 1789، عندما وافق على مبدأ الانتخابات، وهو الملك المطلق لفرنسا قبل ذلك اليوم. على الأرجح أنّ الجنرال الجزائري خالد نزار في انقلابه على الرئيس الشاذلي بن جديد في11 كانون الثاني 1992، مطيحاً إياه وفوز الإسلاميين في البرلمان المنتخب بجولته الأولى، والثانية التي كانت مقررة بعد أيام قليلة من يوم الانقلاب، كان يفكر مثل إنجلز بعد أن أسس بن جديد إثر اضطرابات أكتوبر/تشرين الأول 1988 دستوراً جديداً سمح بالتعددية الحزبية. كذلك يبدو أنّ معاني ذاك القول لإنجلز كانت مستوعبة عند الزعيم الصيني دينغ سياو بينغ في 3 حزيران 1989، لما أمر باجتياح الجيش لساحة تيان آن مين وقمع الاعتصام الطلابي الذي كان يؤيده الأمين العام للحزب الشيوعي زهاو زيانغ، الذي على الأرجح أنّه كان مشروعاً كامناً لطبعة صينية عن ميخائيل غورباتشوف.في فرنسا ما بعد 14 تموز 1789، لم تسمح القاعدة الاجتماعية الضيقة لأنصار النظام القديم في التأقلم مع المتغيّرات الجديدة التي فرضتها ثورة الشارع على البنى الدولتية ــ السلطوية، وهذا ما أدى خلال ثلاث سنوات إلى إطاحتهم وتأسيس الجمهورية الأولى التي تلاها إعدام الملك وزوجته. هنا كانت البنية الدولتية ــ السلطوية ذات قاعدة ضيقة لا تسمح لها بالمبادرة إلى اصلاحات، بل كانت ترغم الحاكم بحكم ضغط الشارع على استجابات كانت تؤدي إلى تغييرات تراكمت في النهاية كمّياً خلال ثلاث سنوات لتؤدي للحظة كيفية تمثلت في إطاحة كامل النظام القديم. هذا ما حصل لشاه ايران بين عامي 1951 و1953 قبل أن ينقذه انقلاب عسكري مدعوم من واشنطن، ضد رئيس الوزراء آنذاك محمد مصدق. ثم أدت استجاباته الإصلاحية التدريجية أمام ثورة 1978 ــ 1979 إلى إطاحة مجمل البناء القديم لما لم يكن هناك أي واقٍ من سقوط مجمل النظام أمام السيل المجتمعي لا في الجيش ولا عند واشنطن ولا عند تركيبة بين الاثنين الأخيرين، وجزء من المعارضة الليبرالية متمثلة في حكومة شاهبور بختيار، قبل شهر من سقوط مجمل النظام القديم في 11 شباط 1979. عند غورباتشوف وتجربته في البيريسترويكا كان هناك شيء قريب من تجربة لويس السادس عشر، وهذه مفارقة لما كان البلاشفة، وغورباتشوف وريثهم، بين عامي 1905 و1917، يفكرون في الاقتداء بيعاقبة الثورة الفرنسية: بناء فوقي دولتي ــ سلطوي، ممثلاً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي. غورباتشوف بادر في نيسان 1985 إلى اصلاحات إدارية ــ اقتصادية ــ ثقافية ــ اعلامية، ثم سياسية جزئية في 1990، أمام انهيار منظومة الردع المتبادل النووية مع واشنطن، إثر ما أطلقه الرئيس الأميركي ريغان (أي مبادرة الدفاع الاستراتيجي ــ حرب النجوم) في آذار 1983، لتحصين الوضع السوفياتي الذي بدأ التوازن الدولي يختل ضده من خلال اصلاحات داخلية. لم يحصل هذا وإنما أنتج تراكم مفاعيل انكشاف الوضع الدولي للقطب السوفياتي. محصلة أدت إلى انهيار كتلته الاقليمية في أوروبا الشرقية والوسطى، أي أدى ذاك العامل الدولي في 1983 إلى ما حصل في خريف 1989، قبل أن يؤدي هذا وذاك إلى تفكك الاتحاد السوفياتي ومجمل البناء الداخلي في الأسبوع الأخير من 1991. عملياً خلال ست سنوات كان غورباتشوف لا يملك المبادرة للإصلاح الداخلي ولا يستطيعها (وكان أيضاً كذلك في مجالات السياسة الخارجية)، بل مجرد سياسي كانت سياساته تبنى على استجابات لخارجه الدولي ــ الإقليمي ــ الداخلي، وهي مجرد رد فعل أو انعكاس. ويعود كل ذلك إلى أنه لم يملك قاعدة اجتماعية كافية لكي تجعله يستطيع الوقوف في وجه انهيار منظومة من التوازن الدولي جعلت الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية أحد قطبي العالم. وهذا كان أيضاً سبباً لانهيار انقلاب 19 آب 1991 الذي كان يظن القائمون به من المحافظين الشيوعيين أنّهم يستطيعون عبره إنقاذ المركب الشيوعي السوفياتي من الغرق، محملين غورباتشوف المسؤولية عما وصلت الأمور إليه.
في بكين في 3 حزيران 1989، كان الوضع مختلفاً عن موسكو في 19 آب 1991: نظام صيني يملك قاعدة اجتماعية قوية أتاحتها له اصلاحات ادخال نموذج «اقتصاد السوق» إلى القطاع الزراعي منذ 1980، ثم منذ 1987 ادخال هذا النموذج إلى قطاعات التجارة والصناعة، مع السماح بدخول الاستثمارات الأجنبية. جعل ذلك الحزب الشيوعي، مع احتفاظه بالقطاعات الاستراتيجية كالبنوك والمناجم والنفط والصناعات العسكرية ضمن قطاع الدولة الاقتصادي، يقود أكبر عملية نمو رأسمالية شهدها القرن العشرون. هذه القاعدة الاقتصادية القوية لم تكن متوافرة للشيوعيين السوفيات في زمن غورباتشوف، وهذا ما أتاح لدينغ سياو بينغ أن يقود تعددية في الاقتصاد، مرفقة بوحدانية ديكتاتورية لحزب واحد، مع غطاء دولي وفرته عملية لعب واشنطن منذ الانفتاح الأميركي على بكين في 1971، مع زيارة هنري كيسنجر، على تناقضات الشيوعيين الصينيين مع الكرملين ثم مع انتهاء الحرب الباردة، التي كانت نذرها تلوح لمصلحة الأميركيين ضد السوفيات. كل ذلك عززه اتجاه بكين للتماشي مع سلطة «القطب الواحد» الجديد للعالم مقابل استيراد التكنولوجيا العالية من الغرب الأميركي ــ الأوروبي، في تفكير صيني بأنّ العملقة الاقتصادية هي الطريق نحو العملقة السياسية العالمية.
أتاح ذلك نجاح الإصلاح الصيني، إذ هناك قاعدة اجتماعية قوية للقائم بالاصلاح أتاحت له الاستناد إلى جدار داخلي، لم يسمح له فقط بمواجهة (وحتى قمع) خصومه المحليين، وإنما أيضاً بتحديد سقوف الاصلاح ومجالاته التي شملت الاقتصاد من دون المجال السياسي. هذا لم يكن متوافراً للويس السادس عشر وميخائيل غورباتشوف. وبالتأكيد لم يكن متوافراً للشاه محمد رضا بهلوي في مواجهة ثورة 1978 ــ 1979، وإذا توافر له مجال العودة والبقاء بعد انقلاب آب 1953، فقد كان ذلك بسبب الخوف الأميركي من وقوع طهران تحت نفوذ حزب توده الشيوعي (الذي ساد الساحة السياسية زمن محمد مصدق) في ذروة الحرب الباردة، ثم داخلياً بسبب ما توافر له من قاعدة اجتماعية جديدة بتأثير الاصلاح الزراعي في 1963، واجراءات التحديث التي تبعته، قبل أن تتحول عملية ارتدادات هذه العوامل الثلاثة إلى أسباب للثورة. في جزائر 11 كانون الثاني 1992، كان نجاح الانقلاب العسكري بسبب الغطاء الفرنسي وبعامل الغطاء الداخلي من العلمانيين والنساء والبربر، ضد الاسلاميين، وبستارة اقليمية من القاهرة وتونس والرياض، إلا أنّه لم يكن أكثر من طريق إلى حرب أهلية سقط فيها 100 ألف قتيل. لم يستطع عسكر الجزائر الاصلاح رغم انتصارهم في الحل العسكري ــ الأمني على الإسلاميين. في نيسان 1999، عندما تسلم الرئيس بوتفليقة الرئاسة كان العسكر والإسلاميون في حالة إنهاك، ما أتاح له تجاوز طرفي الحرب الأهلية، ثم القيام بالإصلاح، عبر قاعدة اجتماعية قوية. وهو ما كانت انتخابات برلمان 10 أيار 2012 من المؤشرات الكبرى عليها، بسبب تراجع قوة الإسلاميين إلى عشر المقاعد، وكذلك حزب العسكر أي «حزب التجمع الوطني الديموقراطي» بقيادة رئيس الوزراء السابق أحمد أويحيى، لمصلحة حزب الرئيس، أي «حزب جبهة التحرير»، الذي كان بين انقلاب 19 حزيران 1965، وحتى نيسان 1999 واجهة حزبية مدنية للمؤسسة العسكرية.
* كاتب سوري