نشر الكاتب مارك بودن، في مجلّة "فانيتي فير"، مقالاً "يفضح" فيه دونالد ترامب وسوء أخلاقه ودناءة شخصيته، عبر سرد تجربته معه حين قضى، عام 1996، نهاية أسبوعٍ مع الملياردير الأميركي ليكتب قصّة مطولة عنه لصالح مجلّة "بلاي بوي" (هناك شيء طريف في أن يقوم كاتب في "بلاي بوي" بمحاكمة دونالد ترامب أخلاقياً، ولكن هذه مسألة أخرى). يقول بودن، باختصار، إن الصّورة الوقحة، الذكورية، العدائية، المغترّة بالنفس، والتي يظهر بها ترامب في الساحة العامّة ليست مجرّد شخصية تلفزيونية، مصممة للتسلية وجذب الانتباه، يختبىء خلفها انسانٌ عادي أو ممثّلٌ بارع، بل هي، بالفعل، انعكاسٌ وفيّ لدونالد ترامب "الحقيقي"، كما يتصرّف مع عائلته وموظّفيه ومن هم حوله.
يسرد بودن بضع حوادثٍ من معايشته للمرشّح الجمهوري، كان قد نشرها في مقاله الأصلي الذي ظهر في عدد أيار 1997 من "بلاي بوي" (كانت كلوديا شيفر على الغلاف)، ولا ينسى، بينما هو منشغلٌ في شرح الطبيعة الانتهازية لدونالد ترامب، أن يحشر في المقال دعايةً لأحد كتبه. الّا أنّ هناك نقطةً مهمة في شهادته يجدر أن يقرأها من صار يعتبر ترامب رمزاً للعنصرية ضد المسلمين، أو مصدر الخطر على جالياتهم في الغرب، اذ يقول إن "ترامب لا يملك أي فلسفة سياسية متسقة، لذا، فإن مقارنته بالقادة الفاشيين غير جائزة".
المسألة ليست، فقط، في أن ترامب ليس مرشّحاً جدياً، ومن شبه المستحيل أن يفوز بمنصب الرئاسة (بالمناسبة، كل استطلاعات الرأي التي تجري قبل الانتخابات بأشهر، وتطلب من الجمهور أن يختار بين مرشحين مفترضين، لا قيمة لها على الإطلاق)، بل هي في أنّ الذين يخافون من الرجل ويشيطنونه، خاصة في بلادنا، لا يعرفون مقدار "البراءة الايديولوجية" لدونالب ترامب، وأنّه لا يحمل انحيازات سياسية حقيقية (حتى أن تمثيله للحزب الجمهوري ظلّ، الى وقتٍ قريب، موضع شك). الرّجل، ببساطة، يستمع الى "المزاج" من حوله، كالرادار، ويعكسه. وهو، لولا أنه يعلم أن قسماً مهماً من الجمهور يتقبّل كلامه ضد المسلمين والمهاجرين، وقد صار مهيئاً، فكرياً ونفسياً، لدعم أي اجراءات ضدهم، لما قال هذا الكلام، ولما استمرّت شعبيته على حالها من بعده.
هذا يشبه، الى حدّ ما، الإهانات الذكورية والتحقيرية التي وجهها ترامب الى روزان اودونل وغيرها من النساء، على طول مسيرته الترفيهية في التلفزيون: ترامب يعرف، ولو بشكلٍ غير واعٍ، أنّ خطابه هذا يتماشى مع ثقافة راسخة لدى قسمٍ كبير من الجمهور، تجده في تعامل الرجال مع النساء في تلفزيون الواقع، وتجده في العلاقة بين الذكور والاناث في المدارس والجامعات. يدرك ترامب أنّ تعابيره الفظّة ستكسبه كراهية المثقفين والصحافة النخبوية والوجه "المحترم" من هوليوود، ولكن هؤلاء سيكرهونه على أيّ حال،وهذا يماثل سياسته في الحملة الانتخابية.
الأمر نفسه يمكن أن يقال عن فرنسا، حيث سيتمّ تقديم فشل "الجبهة الوطنية" في انتخابات المناطق كـ "هزيمة للعنصريّة" وتبديد لشبحها، ورمزه هنا مارين لوبين. الانتخابات كانت، بالفعل، اختباراً مهمّاً لـ "الجبهة"، فمن السهل نسبياً أن تفوز بمقعد نيابي هنا أو هناك، أو أن تظفر بحكم مدينة صغيرة، وهي الحدود السياسية التي لم تتجاوزها "الجبهة الوطنية" في تاريخها؛ ولكن المنافسة على دوائر انتخابية ضخمة، بعضها بحجم بلاد (المنطقة التي ترشحت فيها مارين لوبين، مثلاً، تعدّ أكثر من 6 ملايين مواطن)، هو أقرب اختبارٍ للانتخابات الرئاسية، واثباتٌ لشرعية "وطنية" واسعة للحزب.
المشكلة هي أنّ مارين لوبين، وان قدّمتها المؤسسة السياسية على أنّها "السرطان" الذي يشفى الجسد باستئصاله، تشكّل خطراً على نظام الحزبين في فرنسا أكثر من خطرها على المسلمين والمهاجرين. منذ أن قرّرت لوبين تحويل حزبها الى حزبٍ "جمهوري" تقليدي، يسعى الى السلطة ولا يكتفي بإهداء أصواته الى اليمين في انتخابات الرئاسة، خسر الحزب الكثير من الملامح "الفاشية" التي كانت تطبع عهد والدها. ما زالت "الجبهة الوطنية" تقوم، أساساً، على العداء للمهاجرين وعلى قومية فرنسية محافظة، الّا أن هذه، تقريباً، هي أجندة اليمين الجمهوري نفسها هذه الأيام (مع فارق انّه نيوليبرالي واوروبي، في حين تتخذ "الجبهة"، بحلّتها الجديدة، مواقف أكثر "اشتراكية" وتعاطفاً مع الطبقة العاملة الفرنسية؛ وهي، كما في كاليه، تسحب كتل التصويت أساساً من قواعد الحزب الاشتراكي، الذي كان الخاسر الأكبر في انتخابات البارحة).
الضّرر الأساسي الذي يسبّبه صعود قوىً كـ "الجبهة الوطنية" ودونالد ترامب هو ليس في وصولهم الى الحكم، بل في التغيير الذي ينبئون بحدوثه في سياسات المؤسسة، على حد قول خبير فرنسي أعطى كمثالٍ إرسال هولاند، بعد هجوم باريس، لحاملة طائراته الى سواحل سوريا وهو يعلم أن ذلك لن يكون له أي أثرٍ عسكري وليس جزءاً من خطّة، لمجرّد أن الناخبين يتوقّعون أن يُقصف مسلمون انتقاماً، بغض النظر عن الكيفية والمسؤولية (تمّ سحب الحاملة الى الخليج بعد أيّامٍ من الاستعراض الفارغ).
المشكلة الأزلية في تكثيف الظواهر الاجتماعية (كالعنصرية والطائفية) في شخصيات متطرّفة ومكروهة هي أنّ ذلك يُخفي أن محض ظهور هؤلاء الناس ورواجهم هو المشكلة، وليس شخصياتهم أو أحزابهم بالذات. هذا ينطبق على اوروبا واميركا كما ينطبق على أحمد الأسير أو حالة الطائفية في بلادنا. القاعدة القديمة هي أن أحمد الأسير ودونالد ترامب وأمثالهم سيظهرون، دوماً، في كلّ مجتمع. هذا ما لا يمكن تجنّبه. السّؤال هو في ما يجعل هؤلاء الناس يلاقون، بدلاً من أن يُسجنوا في الهوامش، أرضاً خصبة بين الناخبين، واعلاماً ينظّر لحججهم، وجمهوراً يتقبّل ما يقولون. العنصرية التي تخيف هي ليست في الكاريكاتور الذي يلعبه ترامب وأمثاله، بل في الحكّام الفعليين كأوباما وساركوزي، وفي دواخلهم وأفعالهم ما هو أخطر.