هل يمكن توظيف العامل الثقافي، وتحديداً ما تعلق منه بالتراث الديني الإسلامي، بوصفه من الثوابت المشتركة التي تربط بين دول ومجتمعات منطقة الشرق الأوسط، خلال عملية البحث عن حل لمشاكل المياه والصراع عليها؟ وهل يمكن طرفاً من أطراف هذا الصراع، وهو الطرف المتضرر هنا، أي العراق كدولة مصب، أن يستمد الدعم والعون في صراعه عبر تحريك واستثمار هذا العامل في بناء دفاع متماسك عن نهريه الكبيرين دجلة والفرات؟يناقش الباحث العراقي فؤاد قاسم الأمير في كتابه المهم «الموازنة المائية في العراق وأزمة المياه في العالم» وجهة نظر، قال إنّه سمعها ممن تحدث معهم حول إمكانية حلّ مشكلة المياه بين العراق والدول المجاورة له، وفق مبادئ «الشريعة الإسلامية»، ولكن ضمن توجه خاص، يمكن أن يدخل ضمن إشكالات علاقة الدين والسياسة وتوظيف العامل الثقافي في الصراعات السياسية. وإذا ما علمنا أنّ الدولة التركية شيّدت على الأنهار المشتركة بينها وبين العراق وسوريا عدداً يمكن اعتباره هائلاً من السدود، بلغ المنجز فعلاً منها 759 سداً، من بينها 208 سدود كبيرة، إضافة إلى 210 سدود تحت الإنشاء والتخطيط والدراسة، وإذا أضفنا إلى ذلك أنّ إيران قطعت عن العراق أكثر من أربعين رافداً قادماً من أراضيها إلى العراق، عرفنا حجم المشكلة الكبيرة التي تواجه الباحثين والشعوب والدول المعنية.
مفاد وجهة النظر التي تطرق إليها الباحث العراقي، يمكن تلخيصه بالكلمات الآتية: طالما وجِدت حكومة تركية «إسلامية» مستقرة، تحاول التقرب إلى شعوب ودول محيطها الجغرافي السياسي، وطالما وجدت حكومة «إسلامية» في إيران، لها امتدادات في العلاقات والتأثير في العراق، وطالما أنّ الحكم في العراق «إسلامي»، لذا يمكن حلّ الأمر وفق «الشريعة الإسلامية».
يرفض الباحث وجهة النظر هذه بقوة قائلاً «إنّ الأمر لا يحل بتاتاً بهذه الطريقة، ومن يعتقد ذلك فإنّه يعيش في وهم». وحجته في ذلك هي أنّ التفاسير والتأويلات والتخريجات الفقهية قد تختلف تماماً عمّا أريد لها أصلاً بالأحاديث الشريفة الداخلة في هذا الباب كـ«المسلمون شركاء في ثلاث، الماء والكلأ والنار»، أو «ثلاثة لا يُمنعن: الماء والكلأ والنار»، وحديث: «لا ضرر ولا ضرار»، ويضيف موضحاً «إذ إنّ الملكية الخاصة للترع والجداول والعيون والآبار أوّلت الأحاديث، وعلى لسان فقهاء عصور «الازدهار»، لتراعي مصالح الملاك الكبار. والأهم أنّ مفاهيم الإسلام السياسي قد تختلف اختلافاً كبيراً عما جاء في روحية الدين، من محاربة الظلم والفساد وإيذاء الآخرين، والعدل والمساواة والإنصاف، وأنّ التاريخ مليء بمثل هذه المواقف» والواقع، فإنّ رفض الباحث لوجهة النظر موضوع النقاش لا يخلو من التسرع، رغم أنّه لا يخلو من قوة الحجة التاريخية في الوقت عينه، في ما يتعلق بالأحاديث النبوية المذكورة، ولكنّ لدينا عليه عدّة مآخذ.
فأولاً، ينبغي تصويب الأساس المضموني الذي تقوم عليه وجهة النظر ذاتها، وهي أنّ الحكومة التركية القائمة الآن لم تعد تعتمد استراتيجية المصالحة وتصفير المشاكل مع دول الجوار باعتراف المعارضة التركية نفسها، وثانياً هي ليست حكومة «إسلامية» بالمعنى السائد لهذه الصفة السياسية، إلا إذا اعتبرنا أنّ المملكة السعودية تطبق القرآن وهو الذي لعن الملوك لعنة أبدية في الآية 33 من سورة النمل. إذ إنّ القانون العلماني التركي يُحرّم تشكيل أي حزب سياسي ديني أو قائم على أساس الدين، وقد حُلَّت عدة أحزاب جاهرت بمبادئ إسلامية أو لمحت لها تلميحاً، أو أنّها أقدمت على تصرفات سياسية. وقد أحيل رئيس الوزراء التركي الراحل نجم الدين أربكان، مؤسس وزعيم حزب الرفاه، وأحزاب ذات خلفية إسلامية أخرى، وأستاذ الثنائي الحاكم اليوم في تركيا غول وأردوغان، بتهمة معاداة وتهديد علمانية الدولة، بعدما حُلّ حزبه، الى القضاء وحكم عليه بهذه «التهمة». والحكومة التركية يقودها حزب ذو خلفية ثقافية ذات منحى إسلامي عام ومخفف جداً، يتعلق حصراً بماضي بعض قادته وليس ببرنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. أما في إيران، فثمة دولة دينية طائفية ثيوقراطية صريحة، يتقاسم السلطة فيها مرشد روحي ورئيس جمهورية وبرلمان «مُفَلْتَر» بواسطة مؤسسة أيديولوجية دينية هي «مجمع تشخيص مصلحة النظام» التي تتوسط، خلال قيامها بمهمة الحَكَم، موضعاً وسطاً بين «مجلس صيانة الدستور» من جهة، و«مجلس شورى النظام»، أي البرلمان من جهة أخرى. أما في العراق، فثمة تحالف سياسي حاكم يتقاسم السلطات بموجب قاعدة المحاصصة الطائفية والعرقية من قبل مجموعة أحزاب وشخصيات علمانية وإسلامية وقومية ـــ مع وجود غلبة نيابية للأحزاب الإسلامية الشيعية المتحالفة مع الأحزاب القومية الكردية ـــ والحَكَمُ الأخير وصاحب الكلمة الفصل بين مكونات هذا التحالف هو دولة الاحتلال أو سفيرها في بغداد، ولا يمكن، بالتالي، تحكيم القناعات الإسلامية في توجهات الحكم وممارساته السياسية.
ومع ذلك، يمكن أن نأخذ بوجهة النظر هذه ولكن بعموم القول، وبكثير من التحفظ، فنقرر أنّ هذه الحكومات الثلاث هي ذات خلفيات وتوجهات «إسلامية» عامة، تحكم ثلاثة بلدان يشكل المسلمون الغالبية الساحقة من سكانها، وبنسبة تفوق التسعين بالمئة. إنّ التعويل، هنا، ليس على مدى التزام الحكومات الثلاث وقادتها بالتعاليم والقيم الإسلامية، بل على فاعلية ومردودية العامل الثقافي ذاته، وهو، في حالتنا، من طبيعة دينية في الميدان الجماهيري والتثقيفي العام. بكلمات أخرى، إنّ التأثير الإيجابي سيكون لصالح العراق حتماً، ويتأتى من تحريك العامل الديني لوعي جماهير الشعب التركي على سبيل المثال، حين تبلغ المأساة ذروتها في العراق، وبزوال أنهاره من الوجود وتحل كارثة كبرى فيه، أو حين تنهار السدود التركية وتطلق طوفاناً مرعباً في المنطقة.
نعتقد، وبثقة، أنّ عموم الناس العاديين، والنخب المثقفة في تركيا وفي إيران، ستتحرك فوراً وبقوة قد تجبر السلطات الحكومية في البلدين على إيقاف عدوانها على شعب العراق حتى قبل تفاقم الكارثة وحدوث المأساة، وإنّ ذلك يمكن أن يتحقق من خلال إدارة عراقية جيدة وجريئة لهذا العامل.
الأمر الثاني، الذي لا يخلو من الأهمية، هو أنّ الباحث استشهد بثلاثة أحاديث للنبي العربي الكريم، سلف ذكرها، ولا نستطيع، في هذه العجالة، مناقشتها من حيث المتن والسند «العنعنة» والمحمول، لتبيان مدى انطباقها على واقع الحال من عدمه، لكنّه ـــ للأسف ـــ أغفل آية قرآنية صريحة وبليغة في حكمها الذي ورد بصيغة الأمر، وكأنها لم تنزل إلا لإنقاذ الرافدين وشعب الرافدين. عنينا الآيةَ الثامنةَ والعشرين من سورة القمر ونصها «وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ». فهل هناك نص قرآني أو غير قرآني أكثر وضوحاً وآمرية موجِبة من هذه الآية الكريمة التي تمنع وتحرم المتاجرة بالماء وتأمر باعتباره مشاعاً يقتسم بين الناس؟ وكيف سيكون موقف المسلمين في إيران وتركيا، لو رفع ملايين العراقيين، المحتضرين عطشاً وجوعاً، هذه الآية الكريمة شعاراً إنقاذياً لهم في مواجهة قرارات الحكام الأتراك والإيرانيين، سواء كانوا إسلاميين أو ماسونيين أو غير ذلك؟
لنتأمل مضمون الفكرة السالفة في ضوء الحادثة الموثقة الآتية: في 1993 أقدمت الحكومة التركية على صفقة خطيرة مع بلغاريا، اشترت بموجبها من الأخيرة كميات من مياه نهر «مريج»، ودفعت ثمنها نقداً، وقد بلغ أربعة ملايين و300 ألف دولار، في محاولة منها «لنشر مبدأ بيع المياه بشكل أكبر في التجارة الدولية»، كما يعتقد باحث عراقي آخر هو د. سليمان عبد الله إسماعيل. وكنا قد أشرنا في مناسبة سابقة إلى تصريحات الوزير التركي محمد جولهان عند التوقيع على هذه الصفقة مع بلغاريا وقوله بأنّ «تركيا قد تطلب من سوريا دفع قيمة المياه المتروكة لها من نهر الفرات». ولا ندري إن كان السيد جولهان على علم بأنّ العراقيين القدماء من أكاديين وآراميين هم من أطلق اسم «الفرات» على هذا النهر، وشقوا منه القنوات وأنشأوا عليه الجسور والخزانات قبل وصول الأتراك إلى أعالي الفرات بأكثر من أربعة آلاف عام؟ وأخيراً، وبهذا الخصوص يورد علماء الآثار والنبشيات وجود أنقاض لبعض الترع الكبرى، مثل شط الحي والنهروان التي أنشئت قبل 4200 سنة، وفي مقبرة الملكة الآشورية «سميرا ميس» عثر على كتابة منقوشة تقول فيها «أنا سميرا ميس استطعت كبح جماح النهر القوي ليجري وفق رغبتي وسُقْتُ ماءه لأخصِّب الأراضي التي كانت قبل ذلك بوراً غير مسكونة». نشك في أنّ الوزير التركي جولهان يعرف هذه الحقائق التاريخية القديمة، لكننا لا نشك في أنّه سيؤكد وجود الآية الثامنة والعشرين من سورة القمر في القرآن والآمرة بـ«وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ»!
*كاتب عراقي