عاش السوريون عقوداً خمسة، تحت ديكتاتورية «وطنية»، ليس للأفراد فيها أيّة حقوق، سوى ما يتكرم به النظام عليهم، من أجور وعطل أعياد وأمور أخرى... وكلها من أموال الدولة، لكنّها تصبح بقدرة قادر من أعطيات النظام! لا ضرورة لشرح القول، إنّ النظام احتكر بجوفه المظلم، كل البنية الاجتماعية بكافة مستوياتها، وأعاد صياغتها بطريقته الاحتكارية بحلّة جديدة تنضح بالفساد والنهب والكذب والضيق. الشعب، الذي عاش طويلاً في الجوف المظلم، قرّر بعدما أنهكته الظلمة الاقتصادية، حيث الفقر، والاجتماعية، حيث غياب الأفق، والسياسية، حيث الاستبداد والتسلط و«التسلبط» المستمر من السلطة، قرّر إنهاء فصل الموت والبدء بفصل الحياة، وفتح ذاك الجوف لأشعة الثورة، كي تتطهر سوريا من أسباب الإفقار والانغلاق والتسلط، والوطنية المبتذلة.إذن، لم يعد بمقدور الشعب تحمّل وطنية يفصّلها النظام له، فهو بثورته يريد وطنية جديدة، تدمج مفهوم الوطن بمفهوم المواطن؛ ولا شيء أكثر من ذلك، فقول «سوريا بدّا حرية» و«بدنا إسقاط النظام»، كلّها دلالاتها واضحة تقول: نريد بلداً لكلّ السوريين، بلا وطنية مبتذلة ولا مواطنين في جوف عفن مفتوح على تفتت مستقبلي قابل للانفجار.
يطل علينا كتّاب متعددو المشارب؛ علمانيون وليبراليون ويساريون، بل وماركسيون، وينتقدون الثورة، واصفين إياها، بإلاسلامية والطائفية والمسلحة، بدأت كذلك ولا تزال كذلك! وبالطبع هي للبعض مؤامرة كونية قدرية، كما يقول النظام تماماً. كل ذلك يخفي أمرين، أنّهم يستنجدون بوطنية مبتذلة، تتكثف برغبة تستجدي إعادة النظام إلى إكمال إطباقه على المجتمع، أو بوطنية جديدة من تخيلاتهم المريضة، تربط الثورة بمعيار فكري مغلق؛ إن لم تكن الثورة على مقاساته، فهي ليست بثورة. وباعتبار الثورة السورية، بل والثورات العربية كذلك ثورات شعبية بامتياز، فإنّها دون أدنى شك، ليست ثورات بالنسبة إليهم؛ فلا هي حازت وطنيتهم ونددت بالمؤامرة الماوراء كونية، ولا أبرزت الطابع العلماني وفصل الدين عن الدولة، ولا قالت بمطالب شعبية واضحة.
يتجاهل هؤلاء المثقفون، أنّ الثورة أتت بعد موت محقق في جوف مظلم، وحالما بدأت، أعلن النظام أنّه لا حل سياسياً ولا حوار على طاولة مفترضة. وهناك فقط خيار سياسي هو الخيار الأمني العسكري، ولم يتوانَ منذ 15ــ 18 آذار 2011 عن متابعة وقتل كل الثوار، وكيفما وصل إليهم. هذا النظام أيها السادة، منع تطور الثورة نحو قيمكم ومعاييركم الواضحة جداً والمكتوبة بلغة عربية متقنة، وأدخلها في عناوين محددة، كنتيجة للقتل اليومي، للتعذيب المستمر، للمجازر المتنقلة. لكل هذه الأسباب، تجمّد تطور الثورة، بين ثلاثة مكونات، مكوّن مدني مستغرق في إغاثة متعددة الأشكال، ومكوّن تظاهري، محدد الشعارات كما أشرنا إليه، ومكوّن عسكري، يتطلب تنظيماً وضبطاً، ومؤشرات ذلك تتزايد كل يوم، بما ينسجم وقيمكم الرشيدة.
يحضرني، رغم كل ما يقال عن افتقاد الوطنية الحقة كهدف في الثورة، شعار تكرّر في معظم مدن سوريا، يقول إنّ الجيش مكانه الحدود لا داخل المدن السورية، وكلامٌ عن الجولان، بصيغة تظهر انهزامية النظام أمام إسرائيل. وبالتالي، من يُرد قولاً صادقاً، فعليه أن يؤكد أنّ الثورة طرحت وطنية مستقيمة. نعم، الثوار يقولون بوضوح شديد: لنا حقوق ونحن نثور من أجل الوصول إليها، ولنا أراضٍ محتلة: أرسلوا الجيش نحوها، أو أعدوه لمحاربة مغتصب الأرض، ولا تذهبوا به نحو المدن والسكان، وتعيثوا دماراً لم تتوقفوا عن إحداثه منذ اللحظة الأولى للثورة.
يخشى السوريون كثيراً ضياع سوريا، لكنهم يخشون أكثر إعادة سيطرة النظام عليهم، فهو لن يترك حينها أحداً ثار ضده، إلا سيعمل على ملاحقته وسجنه أو قتله؛ هذه خلاصة تفكير الشعب الذي خبِر النظام على مدار عقود، لذلك لن يتراجعوا، لكن هل الثوار، ولا سيما المكون العسكري منهم، من يهدد سوريا؟ هل هم من يمنع أية تسوية وانتقال للسلطة، أم من أمعن في الخيار الأمني العسكري منذ اللحظات الاولى للثورة؟
طبعاً من يمتلك أدنى حس أخلاقي للاعتراف بالوقائع، سيقول إنّ النظام هو من بادر إلى تصفية الثورة عبر الخيار الأمني العسكري، وبالتالي هو من يرفض كل المبادرات الداخلية والإقليمية والدولية، لانتقال سوريا نحو بلد بنظام ديموقراطي.
ادعاء بعض قوى المعارضة الداخلية «الطهارة والوطنية» والتأكيد المرة تلو الأخرى على إيقاف العنف ورفض التدخل الخارجي وتجاهل الدور الإيراني والروسي والصيني، كأنّهم أولاد عم السوريين، دون تحميل النظام مسؤولية ما يحدث في سوريا بلا أي التباس، هو وطنية مبتذلة كلية، لأنّ انتكاب سوريا، بكل هذا الدمار، لن يكون ممكناً الخلاص منه، دون رحيل هذا النظام؛ حينها وحينها فقط سيكون بالإمكان البدء بتأسيس دولة وطنية تحمي الوطن والمواطنين، بلا قهر للشعب، وفق مُثل مفترضة، أو معايير أخلاقية كاذبة.
هذه القضية تفترض بالقوى السياسية السورية، الابتعاد والتخلص من الوطنية المبتذلة والعويل على سوريا، هذا الأمر غير ممكن عبر دعوات إلى حوار سياسي أو حل سياسي أو مؤتمر في داخل البلاد، بوجود هذا النظام، ما لم يقدم هو بالذات على إجراءات عملية يقوم وحده بها؛ وهو ما قالت به تنسيقيات الثورة منذ لحظة تشكلها، كإعادة الجيش إلى ثكنه، وإعادة هيكلة أجهزة الأمن، والسماح للإعلام العربي والعالمي بالدخول إلى سوريا، وغيرها. نقول ما لم يتحقق ذلك، فلن يكون هناك سوى كلام عن وطنية مبتذلة وعويل مجاني عن وطن يذبح ويدمر.
سوريا تفترض حلاً إنقاذياً، وهذا غير ممكن دون إسقاط النظام، وكذلك عبر برنامج حقيقي لقوى الثورة، يخلق رأياً عاماً ويتيح المجال للالتفاف الشعبي الوطني حول الثورة، وذلك ما يقلل المخاطر على السوريين وبلدهم.
وطنية دون مواطنين أحرار ومتساوين مع رجال السلطة، أولاً وأخيراً، ومن أجل التفاوض على نقل السلطة، هي وطنية مبتذلة. فهل تفهم معارضة الداخل والخارج، وكل معارضة سوريا، ضرورة تجاوز المفاهيم المسبّقة، وقراءة الثورة بمعطياتها الصراعية ضد النظام؟
* كاتب سوري