الحرب ليست بسيطة. يقول نيتشه انّها تنشط الذاكرة او تقويها، ورغم قسوتها وآمالها تثبت اننا لسنا وحدنا. انتهت الثورة اذن الى حرب يكتشف فيها كل فرد كم يحتاج إلى ان يخرج من القطيع. تحكم مصر جماعة تحوّلت بفعل قوانين الحركة واسلوب تربية الزبائن الى قبيلة، لم يبق منها غير عاطفة الانتماء الى هذه الرابطة البديلة لكل الروابط. وكل المنشقين عنها فعلوا ذلك تقريباً عندما اكتشفوا عالماً خارج روابطهم التنظيمية، خارج حدود السمع والطاعة والفرقة الناجية. في ايام الثورة انكشفت خدعة انّ القبيلة وطن امن، وليس صدفة انّ اغلب الخارجين شباب تركوا القبيلة لأزمة منتصف عمرها. الاخوان اذن يحكمون وهم في ازمتهم الوجودية، بينما القوى التي خرجت من قوقعاتها الشخصية تشعر بالاحباط لانّ الفضاء العام اصبح خطراً كما كان ايام مبارك واكثر. القبيلة المأزومة تسعى الى احتلال الفضاء العام حلاً لازمتها، واعلاناً لسيطرتها بعد رحلة غادرت فيها اغلب افكارها وتركتها وديعة عند السلفيين والجهاديين والتكفيريين. كلهم خرجوا من عباءة تلك المجموعة التي اعلنت انها لن تعيش في الحداثة. شطارة قبيلة الاخوان تكمن في اللعب على الهامش الذي تركته الدولة الحديثة بمرحلتيها الليبرالية والقومية ليكون صيداً سهلاً قابلاً للسيطرة. الهامش لم يعد للقبيلة وحدها، تشاركها فيه فرق اخرى تنافسها في نقاء الفكرة (السلفيين) او في قدرتهم على خوض حروب اهلية (الجهاديين والتكفيريين)، وهم جميعاً يعيشون في بحبوحة انتصار القبيلة الاخوانية، ويفرضون شروط «ما قبل الدولة» على لحظة اعادة بناء «الدولة». هم جميعاً في حرب هوية، لكن قبيلة الاخوان تمسك العصا من منتصفها. نصفها حداثي يتفاهم مع الغرب واصول سلطة الاستبداد الوطني، يتبعهم في ذلك قطاع من السلفية (السياسية) يرون انفسهم شطاراً في الانتصار بدون دماء ولا سلاح. انتصار على الحداثة بتقنياتها، لكن بعد ان نقضي على افكارها بشيطنتها. الدعاة يكفرون الآن كل ما هو «حديث»، ويسفهون الحوار الى درجة يقول فيها احدهم «تعرف ليبرالية يعني ايه؟ يعني امك تقلع الحجاب».قبيلة الاخوان وحدها التي تمتلك القدرات على الاستفادة من هذه التفاهة في تقديم صورة اخرى، عاقلة، معتدلة، مفارقة لهذه الاستعراضات المثيرة للسخرية والرعب. وحدها قبيلة الاخوان تمتلك عقلية «التاجر» الشاطر الذي يبيع من كل بضاعة ما يؤكد انّه يحتكر «السوق» في لحظته الراهنة. انها الرحلة الطويلة في الحياة بجوار انظمة استطاعت ترويض شعوبها بتأكيد كل العناصر الذي تجعلهم مجرد «قطيع» لا اكثر.
لكنها ليست لعبة مضمونة دائماً، فالمزايدة على الاقرب الى انّه يحمل الكتالوغ الاصيل ستضغط على القبيلة، وتجعلها تسير الى توازنات مضطربة. كيف تكون حديثاً وما زالت الاقليات (المرأة والاقباط) تشعر بالرعب؟ كيف تكون «خليفة المسلمين» وانت تقبل بفوائد البنوك؟ المرسي هنا مضطر الى «تلفيق» الاجابات على الاسئلة، وبدلاً من فتح المجال امام خيال جديد يعاد فيه النظر في معضلة فوائد البنوك، يؤكد انّه لن يطعم المصريين بالربا. وبعد ان يحصل على تصفيق جمهور القبيلة المحشود في «استاد القاهرة» يفعل ما لم يكن مبارك بكل جبروته قادراً عليه وهو مدح سياسات صندوق النقد الدولي.
لا يمكن امام هذه المراوغات المتعددة قياس اداء الرئيس القادم من القبيلة ولا التعرف على سياساته، فالقياس بمقاييس حرب الهوية تذهب لصالح الاكثر تطرفاً وربما يجرب الغاضبون من الاخوان في المرة القادمة مرشحاً اكثر صدامية وشعبوية ولا تثقله توازنات وجود القبيلة الاخوانية (مثل حازم ابو اسماعيل مثلاً)، ام القياس باساسات المراعاة الاجتماعية للدولة كما كان يطبقها مبارك فيذهب الى انه لم يعد هناك حام لشرائح اجتماعية الا الفراغ الكبير الذي ستنشر فيه القبيلة رسل الخير لتحول الحقوق الاجتماعية الى حسنات وهبات من الاغنياء. ولهذا فالمشكلة ليست فقط انّ المرسي لم يقدر على الوفاء بوعود الـ١٠٠ يوم، ولا انّه لم يحقق منها الا الافراط في كل ما ينتمي الى عملية تسويق شخصي لرئيس مؤمن جديد. السادات كان اول رئيس يستخدم علاقته بالله في صناعة شعبية يواجه بها عبد الناصر المعتمد على كاريزما ابطال التحرر من الاستعمار. المرسي يسير على الطريق نفسه مستخدماً هذه المرة فكرة صدمات القادم من عالم مختلف الى عالم الاضواء الرئاسية، فتخرج «الافيهات» الناتجة من هذا الصدام وسط صياح المعارضين له: «كسفتنا والله»، وصيحات اعجاب فرق التشجيع: «انظروا الى عفويته وتلقائيته». وهنا المشكلة.
مر ١٠٠ يوم ولم نر ملامح عقد جديد بين الحاكم والشعب، ولا تغيير في بنية النظام، ولا اشارات الى انّ العقل الذي يركب السلطة بعد الثورة يختلف في شيء عن راكبها في سنوات حكم الجنرالات. الجنرالات كانوا يرتدون بدلات مدنية لكنّهم لا يخفون عسكريتهم الملتصقة بالعظم. شرعيتهم هي غلبة القوي والمسيطر مهما كانت نسبتهم في الاستفتاء والانتخاب تفوق الـ99،9٪. هم يدركون انّ شرعيتهم هي قوة ارتباطهم بمؤسسة السلاح. والمرسي يتصرف كما لو كان تحت بدلته المدنية جلابية عضو ناشط من جماعة الاخوان المسلمين هي التي تمنحه الشرعية، وعليه طول الوقت ان يعلي من سيطرة هذه الجماعة، في نفس الوقت الذي يخفي الجلابية بأزرار الجاكيت المدني. لم يحدث في الـ100 يوم شيء اكبر من ازاحة الديناصورات العسكرية وتدعيم سلطة الرئيس كما لم تكن من قبل.
لكن ما يزال الرئيس هو مركز الكون السلطوي، والاجهزة تدور حوله، وحملة التسويق من اجل ترسيخ صورته كرئيس مخلص. لا يزال الرئيس يقيم حوله سحب دخان يهندس من خلفها دعائم حكم جماعته. وهنا لا مانع من التنصل الواضح من الوعود التي منحها لحلفاء معركته الانتخابية، بداية من تغيير الجمعية التأسيسية إلى الافراج عن الثوار في السجون العسكرية، وصولاً الى اعادة بناء مؤسسات الدولة لتستوعب انّها لم تعد دولة رعاية، بل دولة مواطنين. المرسي لم يتنصل فقط من وعوده، بل بدا كما لو كان حجر العثرة امام تأسيس مفهوم المواطنة.
لا يكفي هنا ما قاله المستشار محمود مكي، نائب الرئيس، عن الايادي النظيفة لمن في السلطة، لأنّ تأسيس علاقة جديدة بين الحاكم والسلطة لا تقوم على الدعاية لنظافة اليد ولكن على بناء مؤسسات حكم لا تجعل الدولة عزبة يملكها من يجلس على الكرسي. فالرؤساء يبدأون بالايدي النظيفة ثم يتحول فسادهم الى سياسة عادية. الحل ليس في الرئيس المؤمن، بل في دولة مواطنة تحترم كل فرد فيها، وتقدس حريته وتجعله نداً للدولة كلّها. تهمة ازدراء الاديان هي لعبة، بداية من اسم التهمة الذي لا يحدد معنى الازدراء. هل هو كفر ام الحاد ام مجرد «سب الدين»؟
المرسي يبحث عن شعبية، ويقود بنفسه عملية تسويق لذاته وقبيلته. انتظر المرسي حتى اصبحت ورقة الافراج عن المعتقلين قادرة على التغطية على ملفات مثل «التوازن في اللجنة التأسيسية» او «محاكمة القتلة في ماسبيرو»، او غيرها من ملفات لا يمكنه الاقتراب منها لأنّها تتعلق بأساس النظام لا بشعبية من يجلس على رأسه. وما المانع في ان يبحث الرئيس عن شعبية؟ المانع في ان هذه الشعبية تسير على خطى كل رئيس سابق يرى انّ مهمته ترويض الشعب واللعب على عواطفه لا تأسيس علاقة جديدة تقوم على المواطنة. المرسي ينظر الى الشعب مثل غيره كـ«قطيع» لا بد من ترويضه. والفارق الوحيد هنا انّ لدى المرسي «قبيلة» تريد ان تحكم. وهذه هي المسافة الشاسعة التي يشعر بها حتى من منح المرسي صوته من خارج «قبيلته». القبيلة المتحركة بشهوة السلطة.
لا يرى المرسي من الثورة الا انّها الجسر الى السلطة وليس اكثر، ولهذا فلن ينزعج ابداً من عودة التعذيب في الاقسام، ولن يسأل نفسه لماذا تستطيع فرق الحرس الضخمة المحيطة به حمايته ولا تستطيع الشرطة توفير الحماية لخالد، الرجل الشهم الذي اراد الدفاع عن سيدة من البلطجية فقتلوه رجماً بالطوب. لم يسأل نفسه هذا الذي كاد ان يبكي على المنصة من هول المسؤولية لماذا يموت الناس في الاقسام بينما تبرع فرق حراسته في ملاحقته اينما ذهب واثناء صلاته. لا يتذكر المرسي طبعاً جنازات ماسبيرو ولا ضحكة مينا دانيال وهو يدافع عن حق المواطنة، لأنّه وقتها كان مشغولاً هو وقبيلته بالتوافق مع العسكر الذين اصدروا اوامر بالقتل والدهس بالمدرعات. وماسبيرو ليست مناسبة تصلح للمزايدة لأنّ تذكرها يعني الاعتراف بأنّ المصريين ودعوا زمن البقاء في قطعان الرعايا المنتظرين عطف الرئيس. مواطنون لا رعايا، تلك الصيحة التي قالها خالد محمد خالد لعبد الناصر ومجموعات الضباط الذين حكموا مصر، هي سر الثورة التي قامت بعد اكثر من٦٠ سنة. هي ربما سرها الوحيد. كيف يشعر المصري بأنّه فرد له حقوق المواطنة الكاملة بدون النظر الى دينه او لونه او جنسه او حسابه في البنك؟ وهذا ما يعمل المرسي وقبيلته ضده. يحشدون القطعان العسكرية والحزبية في الملعب ليصفقوا للرئيس، ويعيدون الهتافات نفسها التي قيلت لكل ديكتاتور اذاق الشعب مر الاستبداد والفساد. هذا ماعرفناه في ١٠٠ يوم فقط، فماذا عن الايام التالية؟ كيف سننجو من الهبو الطائفي، والارهاب الفكري والجسدي، وخطف الدستور، والسيطرة على مفاصل الدولة، ونسيان كل مطالب العدالة الاجتماعية؟ الى اين تقودنا النزعات التسلطية عند المرسي وقبيلته التي يظهر فيها الرئيس مبتسماً في الصباح بينما فرق قبيلته تفرض سلطتها في مقار المحليات لتضع لافتة حزب «الحرية والعدالة» مكان لافتات الحزب الوطني؟ انّها الحرب. اذا لم يدافع كل فرد عن قيمة مواطنته في مواجهة كل محاولات التسلط فستصبح الـ١٠٠ يوم اعواماً ويرث الشاطر المرسي، وتدور الماكينة لتنتج طغاة صغاراً من انتاج مصانع تعليب الدين وبيعه لخدمة البقاء في السلطة. اذا لم يدافع كل فرد عن حقه في حياة محترمة فانّه يستحق اهانات ضباط الشرطة وانتهاكهم لآدميته، وسيضاف اليهم الغزاة القادمون من الكهوف ليفرضوا سلطتهم باسم الدين.
انّها الحرب. اذا اكتفيت منها بالشكوى والعض على الشفاه واعلان اليأس فستنتصر اسراب القبيلة، وتغطي رياح الخماسين كل التفاصيل المرتبطة بالحياة... وتبلعنا الصحراء.



سقوط ماسبيرو

سارت المسيرة في طريق الآلام. دموع اختلطت مع فرح شخصي يقول فيه كل فرد: لست وحدي في هذه الصحراء... كل هؤلاء معي بحثاً عن شيء طمسته رمال المرحلة الانتقالية واستعراضات الغزاة الخارجين من كهوفهم لاحتلال الفضاء العام. مسيرة ضد الخوف، تحتفل باستمرار حضور ضحكة مينا دانيال، رغم غياب صاحبها برصاصات الجيش المصري.
والمفارقة هنا ان احتفالات انتصار اكتوبر خفتت مقابل تحويلها من قبل المرسي والقبيلة الى استعراض لانتصاراتهم. وخفتت ايضاً مقابل الاصرار على سماع صوت الضحايا الذين عبرت عليهم مدرعات الجيش في تلك الليلة المرعبة. المرسي غيب انتصار الجيش على اسرائيل في انتصاره. والسائرون على طريق الالم رفضوا نسيان المذبحة، ورفضوا استمرار افكار ترى الوطنية سجل انتصارات السلطة وامجادها العسكرية، واعتمدوا نظرة ترى انّ حياة وكرامة وحقوق الفرد هي جوهر الوطنية. الوطن ليس ذلك الكيان الغامض المائع الهيولي الذي نغني له ونتحدث عنه، بل الكيان الذي يحقق السعادة للساكنين فيه، ويضمن الحقوق لافراده، ويكون ملعباً للحرية، لا وكراً للخفافيش وكل الوحوش القذرة. الوطنية ليست امجاد الابطال العسكرية، لكنها القدرة على بناء دولة محترمة تضمن الحياة الكريمة لكل فرد على ارضها. هذه الملاحم عن عظمة الجنود المصريين تتحوّل الى انشائيات فارغة اذا عاد الجندي من الجبهة ولم يجد عملاً او مستشفى او مدرسة، او سار في الشارع فوجده تحت سطوة قطّاع طرق برعاية حكومية، او دخل قسم بوليس فاضطر الى ان يحمد ربه على انّه خرج حياً يرزق.
كل انتصارات الجيوش بلا قيمة اذا لم نشعر بأننا في بلد يحترم كل فرد فيه بعيداً عن اللون والدين والجنس. دول فاشية هي التي تربت على انّ الامجاد لونها كاكي. المجد او الاحترام لمن ساهم في بناء دولة لا تقهر مواطنيها باسم «حب مصر»، ولا تعدّ المطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية تنفيذاً لاجندات خارجية.
هكذا تذكّر الثوار المذبحة ونسيها المرسي في خطابه، الذي قال «دراوشه» انّه لم يكن موجهاً إلى النخبة. خطاب شعبوي يسوّق الرئيس نفسه فيه للشعب. لم يتحدث عن سياسات، واعتمد فقط على استمرار نظرية الترويض، بداية من دورانه في السيارة المكشوفة وسط حراسة غليظة، وحتى هتافات الجماهير المختارة بـ «الحياة للرئيس». نسي المرسي في خطبته ماسبيرو. وهذه ليست هفوة عابرة،
لأنّ ماسبيرو لم يكن حدثاً عابراً. انّها لحظة فارقة في وعي عمّدته الدماء التي اهدرها ضباط قتلة، عندما اصدروا اوامر بقتل المتظاهرين ودهسهم بالمدرعات.
عندما ينسى المرسي الاشارة الى ماسبيرو في خطابه، بينما يرسل تحيات الى الجيش حامي الثورة، ويعيد انتاج مشهد الجنود الذين يصفقون له في مدرجات الملعب، فإنّه ينحاز الى النظرة نفسها التي تعادي المطالبة بالحقوق، وتنظر إلى الشعب على انّه خلفية مثيرة في استعراضات تذكرنا بكل طغاة العالم.
سقطت ماسبيرو من خطاب لم ينقصه الملل، بينما هي المذبحة الكاشفة عن احتقار وطائفية «النواة الصلبة» للاقباط، الى درجة انّ التلفزيون الرسمي يومها لم يجد حرجاً في تحريض الاهالي على المتظاهرين، ولم يحاسبه احد. الرئيس اسقط من وعوده محاكمة القتلة. اسقطها لأنّ معناها تغيير بنية السلطة، وربما يكتفي بتقديم كبش فداء، لا مانع ان يكون المشير طنطاوي.



ازدراء الأديان في جمهورية المانغو



أضحوكة هي تهمة ازدراء الاديان. المفتشون ينطلقون خلف بلاغات عن تهم لا يمكن الامساك بها. تهم مطاطة لا تحديد فيها لمعنى الازدراء: هل يعني الكفر؟ الالحاد؟ ام سب الدين؟ ما هي هذه التهمة التي تحولت فجأة الى موضة يستخدمها كل من يريد ان «يجرجر» احداً إلى المحاكم؟ موضة يرتقي فيها المسلم درجة ليحتل موضوع من له حق الرقابة على الاخرين، ليصبح اسلامياً، وله سلطة في النظام الجديد. النيابات العامة تفرغت لبلاغات ازدراء الاديان في الـ١٠٠ يوم، وخرجت بمعجزات لم يكن من الممكن الكشف عنها الا في ظل حكم رئيس هوايته الخطابة في المساجد.
ولأنّ هواية المرسي لم تؤهله الا لمواقع في اللجنة السياسية والاعلامية في الجماعة، فإنّه كان متعهد تصريحات عن الصفقات مع الحزب الوطني والامن. كما كان مسؤولاً عن الكيانات الاعلامية للاخوان، التي تعدّ مدرسة من مدارس التوجيه المعنوي، لا اكثر ولا اقل.
المرسي اذاً متوسط الموهبة، يضعونه في المقدمة لأنّه مخلص للجماعة وللتعليمات، ولا يزعج احداً لأنّه لا يفكر خارج المنهج، وخياله على مقاس القوالب الجامدة. ووصول المرسي هو مكافأة هذا النوع من السياسيين الذين لا يزعجون احداً بخيالهم الجديد، ولا يمثلون خطراً بافكار عن تجديد الجماعة، كما حدث مع الدكتور عبد المنعم ابو الفتوح، او الدكتور محمد حبيب، او غيرهما. المرسي في الـ١٠٠ يوم فتح كتالوغ الرؤساء في ايامهم الاولى، وسار عليه، حتى وصل الى السيارة المكشوفة في الملعب. الكتالوغ قال للمرسي: اهتم بصناعة صورتك الى الدرجة التي يُشغل فيها الناس بهذه الصورة عن كل التفاصيل المرعبة تحتها. المرسي مشغول بترويج صورته كرئيس مؤمن، عفوي وتلقائي. وهي صور لعب عليها من قبله السادات (المؤمن) ومبارك (التلقائي)، وفي كل مرة كان هذا يحتاج الى طوفان من الغوغائية ليكون في خلفية هذه الصورة. وفي كل مرة تنتهي هذه الصورة الى مزيد من الاستبداد والقهر. وهذا ما يحدث الآن وبسرعة مذهلة تختصر ما كان يفعله السادات ومبارك في سنوات الى ١٠٠ يوم فقط. في ١٠٠ يوم، ومن اجل ترسيخ صورة المرسي خرجت كل الغوغائية النائمة لتصنع محاكم تفتيش وصلت الى قمة الابتذال في محاكمة طفلين مسيحيين لم يتعدّ عمرهما عشر سنوات. ما هي ادوات النيابة في التفتيش داخل عقل طفلين؟ وما هي التهمة؟ كيف ستكون الادلة والقرائن؟ هذا ليس الا عبثاً معتاداً عليه في اطار صناعة صورة الرئيس. وهو العبث الذي ينقلب الى تراجيديا كاملة على من صنعه. فالرئىس الذي اخرج غوغائية يكرس بها صورته الايمانية قتل على يد من اخرجهم ليساعدوه. ومبارك العفوي والتلقائي تفاعلت الحركة المطالبة باسقاطه عندما عرفت خبر البدلة التي صنع قماشها خصيصاً له، والتي حُفر عليها اسمه آلاف المرات، اضافة الى خبر ثروته الخرافية. السادات راح ضحية اخراجه الوحش المتطرف، ومبارك راح ضحية تغييب العقل وتحويل السياسة الى نميمة وتسلية. والآن المرسي بدأ مبكراً محاكم تفتيش تطاوله هو شخصياً، وليس بعيداً جداً ذلك الرجل الذي اهدر دمه من مرسى مطروح. فما دام هناك من يرى نفسه سلطة تحاكم افكار احد، سيوجد على ارض ما من يراك لا تناسب كتالوغه الديني. وهذا ما حدث عندما افتى عبد الصبور شاهين بأنّ نصر حامد ابو زيد مرتد، وبعدها بسنوات وجد من يتهمه بالتهمة نفسها. هذا هو العبث القاتل، والبالوعة التي ستسقط فيها قيم كبيرة من بينها احترام العقل المتديّن اصلاً. فالنصوص المقدسة لها مستويات في التفسير وحمّالة اوجه، والسلطة تختار أحدها، وتحرم بقية الاوجه. وهذا ما يجعل التدين سلاحاً في يد السلطة تعاقب به المختلفين معها، وتصنع لنفسها الحضور المخيف والمتوحش. ليس من حق اية سلطة التفتيش في العقول، ولا احد يحاسَب على رأيه في الدول القوية. المحاسبة تقتصر على تحويل الافكار الى كيانات منظمة باسم هذه الافكار، تهدد الامن الشخصي والعام. وما حدث في الـ١٠٠ يوم لم يكن سوى مطاردة افراد بهذه التهم وانتهاك حريتهم. وفي المقابل عجز عن مواجهة تنظيمات تحمل السلاح وتثير الذعر في سيناء مثلاً. هل محاكم التفتيش الفردية تبرير للعجز والتغاضي عن ملاحقة الإرهاب المسلح؟ لماذا يتفاوض المرسي مع جماعات تفرض سطوتها وارهابها، بينما تلاحق اجهزته افراداً عاديين يحملون افكاراً خارج الجماعات المغلقة؟ من الذي فتح البلاعة الكبيرة التي تخرج منها بلاغات ازدراء الاديان؟ إنّها بلاعة فعلاً لانّه من المعروف مثلاً انّ كل دين يبنى في الاساس على نقد الدين الآخر. والوهم الكبير هو انّ كل دين ينطوي على احترام الدين الآخر، وهذا يعني انّنا سنحبس جميع المتدينين بتهمة ازدراء الاديان الاخرى، كما انّه من خلال تجارب مفكرين ارتبطوا بوصف المفكر الاسلامي مثل الدكتور مصطفى محمود، يبدأ الايمان بالشك. والدكتور له رحلة مكتوبة وكاملة وصل فيها للايمان عبر التفكير والعقلانية، حسبما كتب، لا عبر الاكتفاء بأن يكون في القطيع. وهذا يعني انّه كان لا بد من عقاب المفكر الاسلامي وحبسه، على افكاره في مرحلة الشك، وساعتها لن يصل الى مرحلة الايمان، لأنّ السجن كما نتعلم «عمره ما غيّر
فكرة».
هذه موجة نهايتها التراجيديا اذا لم يكن هناك عاقل في هذا النظام يوقف العبث المصاحب لصناعة صورة الرئيس المؤمن الثاني، ويذكرهم انّه حتى في جمهورية المانغو يحترم الدستور حرية العقيدة، ولا يفتش البوليس في الافكار. نعم محاكم التفتيش لا تليق حتى بجمهورية تفخر برخص اسعار المانغو. ازدراء الاديان اضحوكة، لكنّها تصنع مأساة تحويل الفضاء العام الى حلبات مصارعة مفتوحة.