لم تكد تتجلى الإرهاصات الأولى للحراك الثوري في سوريا حتى تعالت الأصوات المعارضة للنظام في الأروقة الدولية للمطالبة بمحاصرته حتى إسقاطه، بما في ذلك إمكانية اللجوء إلى كل الخيارات الممكنة في المواجهة المفتوحة. وقد تعاقبت الأحداث بشكل دراماتيكي، ودفعت باتجاه التدويل حتى أصبح العامل السوري في قلب الصراع الدولي، إن لم نقل من أبرز القضايا التي من شأنها تهديد السلم والأمن الدوليين. المسألة لم تعد مجرد نزاع داخلي حول السلطة، لقد أصبحت بلا شك محدداً حاسماً لملامح المرحلة القادمة من تاريخ المنطقة والعالم. فما هي علاقة ما يجري في سوريا بالتمهيد والإعداد لقيام النظام العالمي الجديد؟ وما هي مدلولات اللحظة التاريخية الراهنة في التكييف السياسي والزمني للحدث السوري داخل المنظومة الدولية؟ وما هي محددات التحرك الفاعل لمنظومة القوى الدولية والإقليمية المناهضة للمشاريع الأميركية والغربية في المنطقة، كما على الساحة العالمية؟ترتكز فرضية الربط بين مجريات الأحداث في سوريا ومخاض ولادة النظام العالمي الجديد على الملاحظة العلمية لموقع الأزمة السورية في المحادثات الدولية والمكانة المتقدمة التي يحتلها الملف السوري بكافة مندرجاته لدى مراجعة التطورات الدولية وتحليلها. لقد أبرزت شراسة الهجمة الدولية، ولا سيما الغربية، على النظام في سوريا خطورة ما يجري فيها، ليس فقط على المستوى الوطني، بل الدولي أيضاً، في ما يتعلق بإعادة بناء التوازنات ومعها صورة المشهد المرتقب للنظام الدولي قيد التشكل. فالمنطقة على وجه العموم تحظى بمتابعة القوى الدولية العظمى للملفات الساخنة فيها لما لها من أهمية جيوسياسية واستراتيجية. والمعطى السياسي والأمني على كامل الأراضي السورية في كل يوم وفي كل لحظة بات حاسماً في تحديد وجهة الأمور ومرتكزات المعادلة التي ستستقر عليها الحال في نهاية المطاف. فالأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات حتى اللحظة الأخيرة في خضم العراك الذي يبقى فيه مفتاح الحل رهينة التسوية السياسية التي كثر الحديث حولها. والأطراف الضالعة في المعركة والمعنية بإيجاد المخرج من المأزق تحاول استخدام كل الأوراق التي بحوزتها لتحصيل ما يمكن قبل أن تضع الحرب أوزارها بنية تحسين شروط التفاوض لحظة الجلوس على طاولة المباحثات التي لم تنقطع.
يجري كل ذلك بالتزامن مع التحوّل الاستراتيجي في موازين القوى العالمية، الأمر الذي يثبت صحة ما يقال بأنّ تدويل الأزمة يقع في إطار العمل لتعديل وربما تغيير قواعد الشراكة الدولية وكذلك الإدارة الدولية للقضايا المعاصرة أو المستجدة. في هذا الموضوع، لا يمكن أحداً أن ينكر واقع الحال لجهة انكسار القطب الأميركي الأوحد الذي حاول أن يحكم سيطرته بالكامل على مفاصل القرار ومواقعه في العالم. بهذا المعنى، لم تعد الولايات المتحدة الأميركية قادرة على التفرد بإدارة القضايا العالمية من دون مراعاة توجهات القوى الصاعدة على المسرح الدولي ومصالحها، ومن دون التنبه تالياً إلى تبدل الظروف الموضوعية الدولية من حولها. لقد قامت القوات الأميركية بغزو العراق في 2003 واحتلاله من دون أن تجهد واشنطن في استصدار قرار دولي يجيز التدخل العسكري فيه. لقد ضربت حينذاك عرض الحائط بما بات يعرف بالشرعية الدولية، ولكنها اليوم لم تجرؤ على تحدي إرادة بقية الأطراف الدولية التي تسعى إلى مراجعة قواعد اللعبة وتعديلها مع اندلاع الأزمة السورية وتفاقمها. فهي لم تبادر إلى فرض خيار التدخل العسكري ضد النظام في سوريا، أو حتى لم تستطع ذلك لعدم توافر الإجماع الدولي بل انقسام المجموعة الدولية إزاء الملف السوري. كذلك فإنّها لم تعمد إلى تخطي دائرة التزام العمل المشترك داخل مجلس الأمن الدولي، ولم تفلح أيضاً في الوصول من خلاله إلى اتفاق دولي يعبر عن إرادة الجميع فيه بضرب نظام الأسد أو تركه لمصيره. يأتي ذلك بعد إنجاز خطوة الخروج العسكري الأميركي من العراق تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية في 2011. يضاف إلى ذلك الواقع الاقتصادي والمالي المتردي في ظل العجز الحاد في الميزان التجاري وتفاقم الفقر وانتشار البطالة في الداخل الأميركي، فضلاً عن الأزمات المالية التي تتهدد قطاع المصارف كما سائر المرافق والقطاعات الاستثمارية والإنتاجية. لقد اكتفت الولايات المتحدة في موضوع الأزمة السياسية والأمنية في سوريا، وفي مواجهة الجبهة المتنامية والمناوئة لها، بممارسة الضغوط الدبلوماسية وإلى جانبها الأطراف الأوروبية والدول العربية، وبإجراء الاتصالات السياسية لمحاصرة النظام السوري وتضييق الخناق عليه، وانخرطت في المؤامرات لتسليح المعارضة وتأليبها عليه. إذاً، لم تنهزم الولايات المتحدة بالكامل أو تنهر تماماً، لكنها لم تعد في ذروة المجد والقوة، فالتراجع الانحداري في مقدار قدرتها على الاستئثار بالنفوذ الدولي بات حقيقة واقعة لا شك فيها.
هذا الكلام باندثار طور الهيمنة الأميركية، وإن لم يُعلَن صراحةً ومباشرة، يدفع إلى التفكر في مدى إمكانية بل قرب تشكل النظام العالمي من جديد بطريقة مغايرة للمفهوم السائد في إدارة العالم. هذه المسألة التي تدركها مراكز القرار في أميركا وأوروبا، تحتل حيّزاً هاماً في قراءات النخب الفكرية والمؤسسات المالية والدوائر الصحافية في الغرب وفي العالم كله. فالإرهاصات المتصاعدة لقيام نظام دولي متعدد الأقطاب تدلّ على تطور العلاقات الدولية المالية والاقتصادية، وبالتالي المواقف السياسية والاستراتيجية، باتجاه التشديد على حضور العديد من الدول التي تصبو إلى دور أكثر تأثيراً في الحاكمية العالمية المرتقبة. هكذا يمكن أن نضع تلاقي دول البريكس في 2009 ومن ثم تطور الاتصال والتعاون بينها في إطار الشروع فعلاً في التحضير لما بعد الأحادية الأميركية على أرضية الصعود التدريجي لتلك الدول الناشئة. وقد انسحب هذا المعطى على مسار تفاعل الأزمة في سوريا، وكان له بالغ الأثر في تحديد سبل التعاطي من قبل المجتمع الدولي مع الملف. لقد راكمت هذه الدول في معدلات النمو الاستثماري والإنتاجي طوال السنوات الماضية حتى بلغ النمو الاقتصادي فيها مستويات متقدمة وكذلك التطوّر العلمي والتكنولوجي في مختلف مجالات الصناعة الوطنية، فضلاً عن الفوائض المالية والنقدية المتراكمة. وعمدت بموازاة ذلك إلى تعزيز العمل المشترك في ميادين الطاقة والأمن والبيئة والتبادل التجاري لمواجهة التحديات المشتركة وترسيخ ركائز التعاضد والتحالف. انطلاقاً من تلك المؤشرات، خرجت دول الحلف الجديد عن صمتها المعهود في الماضي، وأخذت تعمل في الأروقة الدبلوماسية لمضاعفة مشاركتها في آليات صناعة القرار العالمي، بل تنادي في المحافل الدولية بضرورة الإقرار بالمتغيرات المستجدة في السياسة الدولية. فهي تؤكد أنّها لن تسمح بعد الآن لواشنطن بإحكام سيطرتها على العالم والمنطقة متجاوزة المحددات المتعلقة بمصالح بقية الدول الكبرى. من هذا المنظار، تتصدى كل من روسيا والصين، ومعهما دول المجموعة، لمحاولات الغرب المضي في المشروع في سوريا من زاوية الرفض لنظرية مد النفوذ الأميركي والغربي على كامل الشرق الأوسط، وهي تسعى إلى إخراجه منه أو أقله إعادة النظر فيه، كي لا تكون هذه المنطقة الحيوية، بما تنطوي عليه من ثروات طبيعية ومصادر للطاقة، وبما تمثله من مجالات استثمارية ومواصلات استراتيجية، خاضعة للمصالح الأميركية والأوروبية. فالدول الصاعدة ترى في حدود القارة الآسيوية مجالها الحيوي الكبير بالنظر إلى حجمها الجغرافي والديموغرافي الذي يلائم قدرة اقتصاداتها الهائلة، ولا سيما روسيا والصين والهند. وهي معنية بتطهير مجالها القاري للحراك الاستراتيجي كقاعدة انطلاق وارتكاز على الساحة الدولية. هذا التوجه ينسجم مع المقولة التي برزت حديثاً في العلاقات الدولية، والتي تلحظ انتقال مركز الثقل في المجال الدولي من الأطلسي في الغرب إلى شرق آسيا وبالتالي التحول في تاريخ التمركز السياسي والجغرافي للقرار الدولي.
ما يجري في سوريا حرب عالمية بكل معنى الكلمة، وهي لا تزال محصورة في نطاق إقليم الدولة السورية، لكنها تمثل نموذجاً لما ستكون عليه الحروب في المستقبل. من الواضح أنّ النظام لم يعد قادراً على ممارسة الحكم كما كان قبل بدء الحراك، ولكن المعارضة المسلحة في المقلب الآخر ليست قادرة على الحسم أو الإمساك بزمام المبادرة. فاستقرت المعادلة على شاكلة الميزان الدقيق الذي ندركه في المعارك بين طرفي النزاع وفي المواقف الدولية التي تدلّ على عجز المجتمع الدولي عن إيجاد حل ما لم تأخذ الأمور وجهة محددة. فإما أن يستطيع النظام والحلف الدولي المتبلور فرض التسوية على قاعدة القبول بما لا يقل عن جعل سوريا مركزاً للنفوذ الروسي في المنطقة، وإما أن تجنح الأمور إلى المزيد من التصعيد الذي قد يؤدي إلى الانفجار. فالجبهة التي تكتلت في مواجهة الهجمة على سوريا على خلفية المصالح المشتركة تدرك أنّ الوقت حان للمواجهة، وهي ماضية فيها حتى الأخير. فثمة من يرى أنّ الحرب ستقع لا محالة، وهو يتصرف كما لو أنّها نصب عينيه. على أي حال، قد يفضي النظام الدولي المتعدد الأقطاب إلى تحفيز التعاطي بطريقة مختلفة مع القضايا العالقة بمعنى التزام مراعاة أكثر جدية للقانون الدولي، ليس من قبيل الاحتكام إلى الشرعية الدولية، لكن من زاوية العمل بالواقعية السياسية التي يفرضها المناخ الدولي.
* باحث لبناني