التوترات السياسية المتصاعدة جعلت العديدين يعتقدون أنّنا انتقلنا من حرب الكلام إلى كلام الحرب. عزز من ذلك أنّ جهة عربية أساسية هي التي تولت صبّ الزيت على النار، عبر إعلان «وثائق سورية» تشير إلى مسؤولية ما لـ«حزب الله» في جريمة اغتيال الصحافي والسياسي اللبناني جبران التويني. اشتعال النار اللبنانية، بسبب تفاقم انقسامات الداخل، وصبّ الزيت عليها بسبب صراعات الخارج، الإقليمية والدولية، هما الشرطان الكافيان، تقليدياً، لإحداث نقلة نوعية، باتجاه الحرب الأهلية اللبنانية. هذا ما كان يحصل في السابق، فهل نحن أمام «نقلة نوعية» جديدة نضج أوانها وحان اندلاعها؟بالتأكيد، الحدث السوري هو الذي لا يزال الأكثر تأثيراً في تصاعد التوترات في لبنان. وهذا الحدث يشهد مزيداً من العنف الأمني والانسداد السياسي. وترجمة ذلك، في لبنان، انخراط للأطراف يصبح، أكبر وأخطر، بحيث تغدو سياسة «النأي بالنفس» شعاراً لا يلتزمه، نسبياً، ووسط معاناة هائلة، إلا الجيش اللبناني!
نشير بسرعة إلى أنّ لا شيء يدل قريباً على حدوث تحوّل كبير في الوضع السوري. سياسة الاستنزاف هي التي ما زالت توجه مواقف خصومه وسلوكهم. وسياسة الحسم الأمني هي التي لا تزال تقرر خطوات النظام نفسه وعلاقاته ومواقفه. والاستنزاف سياسة عامة لا تشمل النظام السوري وحده، إنّها تستهدف أيضاً النظام الإيراني المحاصر بالعقوبات والاتهامات والمقاطعة... وهي تستهدف، بالنتيجة المباشرة وغير المباشرة، حلفاء سوريا وإيران، وخصوصاً منهم «حزب الله» في لبنان، وصولاً إلى موسكو وبكين ومن تبنى سياساتهما أو شيئاً منها.
وفي نطاق الاستنزاف، تنشط وسائل تحتل الأولوية، منذ مدة، وأبرزها وأخطرها الفتنة الطائفية عموماً، والمذهبية على وجه الخصوص. والفتنة في لبنان سلاح مجرّب، وينبغي تعزيزه باستمرار، تمهيداً لإحداث «النقلة النوعية»، أي إحداث تحول في الوضع اللبناني يزج به في أتون حرب ساخنة، لا في مجرد مناوشات أمنية محدودة وقابلة للضبط والسيطرة، كما هو عليه الوضع حالياً.
ويتصل قرار الاكتفاء بسياسة الاستنزاف بمجموعة من العوامل والتوازنات الدولية والإقليمية. فقد سعت إسرائيل إلى تطوير هذه السياسة باتجاه المجابهة والمبادرة إلى شن حرب على الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لكن الولايات المتحدة، وهي التي تدير وتخطط وتوجه، رفضت الوجهة الإسرائيلية بشدة ووضوح. وقد قدم وزير الدفاع الأميركي خطة بديلة، لتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران، عبر سيناريو عرضه أثناء زيارته إسرائيل في أواخر شهر تموز الماضي. وهو سيناريو ذكرت صحيفة «يديعوت أحرنوت»، أنّه ينفذ على مراحل بعد سنة ونصف سنة ويستهدف البرنامج النووي والنظام الإيراني في وقت واحد!
ليس من المتوقع أن يتبدل هذا السيناريو إذا ما عاد أوباما إلى البيت الأبيض، وليس متوقعاً ذلك حتى إذا خسر أمام منافسه الجمهوري. فهذا الأخير قد اضطر، رغم مزايداته المبتذلة أحياناً الخطيرة غالباً على أوباما، إلى التأكيد أنّ العقوبات هي الأفضل، لا الهجوم العسكري.
لا يحتاج المراقب إلى كثير عناء ليستنتج، حسب التصور الأميركي أن فترة السنة ونصف سنة القادمة هي الفترة الضرورية لكي تأتي سياسة الاستنزاف كامل نتائجها في سوريا، ولكي تبدأ نتائجها بالظهور في إيران، وبشكل أكثر بكثير مما حصل في شوارع طهران أخيراً احتجاجاً على الانهيار الكبير في سعر صرف العملة الإيرانية. وفقاً للخطط الراهنة، أو استناداً إلى التوازنات القائمة، سقطت إمكانية الربح أو الخسارة، بالضربة القاضية. وليس من المتوقع، كما ذكرنا سابقاً، حصول مفاجآت «تقليدية» في المدى القريب. إلا أنّ بعض المفاجآت ممكن الحصول طبعاً، وذلك على صورة انهيارات داخلية، لن يكون حصولها، هي أيضاً، إن حصلت، محض صدفة أو لعنة أو سوء طالع. أما في توازنات الوضع اللبناني، فلم يحدث ما يشجع أو يسمح بأن ينتقل أحد الأطراف إلى اعتماد سياسة جديدة، غير ما اعتمد من سياسات في الأشهر الطويلة والثقيلة والباهظة التكاليف على بدء الأزمة السورية.
لكن هل يجيب ذلك عن سبب إقدام قناة «العربية» السعودية على نشر «وثائق» تتهم «حزب الله» بالمشاركة (أو بالمسؤولية) في عملية اغتيال النائب والصحافي جبران التويني؟ الواقع أنّ المملكة تعاني مآزق متعددة في أدوارها وعلاقاتها ومشاركاتها. فهي قد ذهبت بعيداً في التحريض على النظام السوري وفي السعي إلى إسقاطه كما لم تفعل حيال أي أزمة سابقة. وهي رغم ذلك قد وجدت نفسها محجَّمة التأثير لمصلحة تركيا في مرحلة، ثم لمصلحة القيادة «الإخوانية» في مصر في المرحلة الراهنة. كانت، من قبلُ، قد فقدت زمام المبادرة لمصلحة إمارة قطر: وهي الآن مطالبة بالجلوس مع ممثلي خصومها الإيرانيين للبحث في حل سياسي للأزمة السورية. في كلتا الحالتين، وفي حالات عديدة سابقة ولاحقة، لن يتعدى الدور السعودي وظيفة أمين الصندوق يدفع فقط، ومن جيبه، ما يقرره سواه! في خبر «العربية» شيء أيضاً من السبق الصحافي. وفيه شيء من نتائج التحولات على الأرض في سوريا التي لم تعد أجهزتها قادرة على إحكام السيطرة على كل مقارها وشبكاتها ومستنداتها. لذلك، يمكن القول بشيء من التحفظ إنّ صبّ الزيت السعودي على نار الفتنة في لبنان هو أمر يدخل في نطاق الكمّ لا النوع. وإنّه يستهدف لفت النظر إلى أمر، أكثر مما يشكل إعادة النظر في أمر سابق.
هذا لا يعني أبداً أنّ الأمور لا تزال تحت السيطرة كما يحاول إقناعنا رسميون وسياسيون لبنانيون. ثمة لاعبون كبار وصغار يمكن أن يدفعوا الأمور نحو خطر التصعيد والاحتراب. في مقدمة هؤلاء تقف إسرائيل وشبكاتها وعملاؤها. وفي صفوف هؤلاء طامحون كثر يحلمون بأن يصبحوا أغنياء حرب وموت ودمار وتشريد وضياع، وخصوصاً أنّ أمراء الحرب السابقة، التقليديين والطارئين، هم من يحكم لبنان حالياً.
المشكلة لا تزال في غياب الصيغ الضامنة للاستقرار. والمشكلة لا تزال في الانقسام. والمشكلة لا تزال في التبعية للخارج. والمشكلة أيضاً لا تزال في غياب الموقع الوطني الذي يستدرك، عبر البرنامج والجهد والدينامية، ما يتعرض له لبنان وشعب لبنان من مخاطر قد تكون قاتلة تماماً، هذه المرة!
* كاتب وسياسي لبناني