لست على ثقة بأنّ الجماهير تخرج بشكل عفوي ومن تلقاء نفسها إلى الشارع، فقد ثبت تاريخياً وجود دور مؤثر وفاعل لقيادات ونخب سياسية، ذات مكونات، دينية _ ثقافية واقتصادية، تقف وراء تعبئتها والنزول بها إلى الشارع، بقصد تحقيق مطالبها المهمّشة. فيما الحقيقة لا تعدو سوى ركوب النخب لهذه المطالب، بغية الوصول إلى مراكز صنع القرار والهيمنة عليها. في قضية الفيلم المسيء إلى الرسول محمد، «براءة المسلمين»، قامت الدنيا ولم تقعد. الفيلم سيئ بكل المقاييس، بدءاً من السيناريو، وصولاً إلى الإخراج، مروراً بالأداء المبتذل للممثلين. باختصار، لا يرقى إلى مستوى العمل الفني، وهو ما يضعه في خانة العمل السياسي الفج والتحريضي، شكلاً ومضموناً، إذ المراد منه استفزاز مشاعر المسلمين، والدفع بهم نحو مزيد من التطرف والعنف، وهذا ما حدث.
لقد تم تصميم العمل وتقديمه خدمةً للتيارات السلفية الجهادية، بغية تعميق الشرخ مع القوى المعتدلة والإخوان المسلمين، الذين تبوّأوا مقاليد الحكم، بعد ما عرف بالربيع العربي. إذ إنّ الحكم يحتم المسؤولية، في احترام المعاهدات والمواثيق والبعثات الدولية ورعاياها. في هذا السياق، جاء وصف راشد الغنوشي للحركة السلفية الجهادية في تونس بأنها تشكل خطراً _ قبل أن يتراجع عن كلامه _ في أول امتحان حقيقي، إذ حتى وقت قريب كان الغنوشي يثني عليها. وفي اليمن، حاول حزب الإصلاح الإخواني منع الناس من التظاهر ضد الفيلم، كما امتنع الإخوان في مصر عن النزول إلى الشارع، بينما أدانت قوى الثورة وإخوان ليبيا الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، والذي ذهب ضحيته السفير مع اثنين من مرافقيه. المحزن في الأمر، أنّ الفيلم تحول إلى منصة للمزايدة السياسية والدينية، قبل أن يراه الغاضبون! كما حدث مع روايات «أولاد حارتنا» و«وليمة لأعشاب البحر» وغيرها كثير. وبدل الرد بالتي هي أحسن، نرد بالتي هي أسوأ، فحضرت أعلام القاعدة وغاب العقل والمنطق، مكتفين بتحميل الغرب وأميركا ومعها إسرائيل المسؤولية.
هل تتحمل الإدارة الأميركية مسؤولية ما في الموضوع؟ الرئيس الأميركي باراك أوباما ومعه وزيرة الخارجية السيدة هيلاري كلينتون أدانا الفيلم ووصفوه بالمسيء والمخزي. وكباقي المحللين الأميركيين الذين ظهروا على الإعلام، حاولا تبرير الموقف، بحجة أنّ الولايات المتحدة دولة حريات. هذا الكلام من حيث الشكل سليم، لكن الحرية في جزء كبير منها تقوم على المسؤولية، وإلا تحولت إلى فوضى. وهنا نعود إلى الفيلم لنسأل أنفسنا هل كان عملاً مسؤولاً، بمعنى توخي الدقة التاريخية والبحث العلمي، القائم على الوعي والحس النقدي، في تعاطيه لشخصية الرسول. فلو قال الفيلم عن الرسول ما له وما عليه بطريقة وأسلوب بعيد عن التهكم والتهريج، لأمكن هذا العملَ أن يدافع عن نفسه، من بوابة الحرية الفكرية التي تحرّض على السجال والخلاف «كي يبان الرأي الصحيح». وحينها لأمكن النخبَ المثقفةَ في عالمنا العربي والإسلامي إعادة النظر في كثير مما كتب في تراثنا الإسلامي. وإذا كانت الولايات المتحدة جادة في مكافحة الإرهاب، فكان حرياً بها الوقوف عند هذه الأعمال التي تغذي التطرف، أما التنصل من المسؤولية تحت أعذار واهية يجعلها شريكة، إن لم تكن راعية لمثل هذه الظواهر، والتي تهدف بشكل أساسي إلى إبقاء العالم العربي والإسلامي مشغولاً في فضائه الرمزي، كي يسهل عليها إعادة رسم خريطة أرضهم بما ينسجم ومصالحها الجيوستراتيجية. بطبيعة الحال، فإن هذا الواقع لا يعفي النخب الدينية من القيام بدورها، لجهة إعادة قراءة النص والتراث بما يتماشى مع التطور التاريخي للمعرفة البشرية، بعيداً عن الأسطرة والمخيال الجمعي. إذ من غير المعقول والمقبول منع كل الناس على وجه البسيطة من التعبير عن آرائهم، في ظل عالم متغير ومتحول، لا يمكن ضبطه والتحكم به. ثمة جزء كبير من المشكلة يقع على كاهل المرجعيات الإسلامية، التي تغض النظر عن الخطاب الإقصائي والاستعلائي، لكثير من الدعاة والأئمة، بمن فيهم الموجودون في الغرب. هؤلاء يطالبون «الفرنجة» بدفع الجزية، فضلاً عن بعض الأحزاب التي تشكلت حديثاً، والتي تطالب بعودة العبيد والجواري! الحل لن يكون في تظاهرات التخريب والتكسير وقتل الأبرياء، مهما كانت الذرائع، إذ ثمة طرق للرد أكثر حضارية، تجعل العقل الغربي الذي أنسن خطابه الكنسي، يتفهمنا بطريقة تخدم مصالحنا ومصالحه معاً. علينا النظر نحو المستقبل بعيون فاعلة لا منفعلة. ثم هل فكّر الذين يريدون الاعتداء على الرعايا الأجانب بمصير المسلمين الذين يعيشون في الغرب! فإذا كان الإسلام دين سلام، علينا أن نحتج بشكل سلمي، وإلا أثبتنا بغضبنا هذا ما بات يعرف لديهم بالإسلاموفوبيا.
المسلمون معنيون اليوم، أكثر مما مضى، بالعمل على التصالح مع ذواتهم المتعددة، كمقدمة للتصالح مع الآخر، من ثم المبادرة إلى الدفاع عن معتقدات الآخرين في الخطاب والسلوك، كي ينالوا احترام الآخرين لهم، فيرفضوا بشدة هدم الأضرحة الصوفية والاعتداء على الأديرة والكنائس، كخطوة أولى لتبديد الهواجس ومد الجسور مع العالم، وغير ذلك يعني الخروج من الحضارة والتاريخ.
* كاتب سوري