حين تدبّ الفوضى في المجتمعات، ويختلط حابل التسلّح بنابل الاستقطاب الأهلي، لا يعود ممكناً كثيراً تنظيم تلك الفوضى، ولا تصريفها لاحقاً في قنوات تزعم أنّها ثورية، أو أنّها في صدد القطيعة مع نظم متآكلة. الثورات لا تولد غالباً من رحم الفوضى، وإذا حصل ذلك استثنائياً فلسبب واحد هو أنّها وقعت بدينامية عكسية. في الأغلب الأعمّ من الحالات تكون الفوضى نتاجاً لعملية الهدم التي يمارسها العمل الثوري داخل المجتمع لا العكس. بكلام آخر، لا تأتي الفوضى إلّا مسبوقة بتثوير ينظّمها ويضبط إيقاعها المنفلت. كانت هذه هي القاعدة في كلّ الثورات التي نهضت على مبدأ القطيعة مع النّظم والتكوينات الطبقية المهيمنة. لا نتحدث هنا طبعاً عن القطيعة بالمعنى الصّوري، أي على شاكلة ما حصل في أوروبا الشرقية والقوقاز في أواخر القرن الماضي ومطلع هذا القرن. لنقل إنّ القطيعة الجذرية لم تحدث هناك لسبب بسيط هو أنّها لم تكن على الأجندة أصلاً. ولو كان السياق الذي حدث وقتها سياقاً ثورياً بحقّ، لكنا شهدنا تصدّعات فعلية في البنية الطبقية لتلك المجتمعات، ولما كان الأمر اقتصر على نقل الامتيازات الطبقية من ضفّة إلى أخرى. لنلق نظرة مثلاً على التحوّلات التي تشهدها هذه المجتمعات الآن. البارحة فقط لفظت «الطبقات الشعبية» التي شكّلت الحامل الاجتماعي «لثورة الورود» طفلها المدلّل ميخائيل ساكاشفيللي، عبر عدم الاقتراع لمن يدعمه في الانتخابات التشريعية، وأتت بملياردير (بيدزينا ايفانشفيلي) يعد بتطبيع العلاقات مع روسيا. التحوّل هنا أتى «مطابقاً لما وقع منذ عقد من الزمن». لا جديد في ما يحدث اليوم في جورجيا سوى إعادة صياغة التشكيلات الطبقية القديمة بما يتناسب مع الظرف الراهن. والظرف هنا هو استتاب الهيمنة للرأسمالية الحاكمة في روسيا، وهذا يعني ميكانيكياً عودة الكومبرادور في جورجيا إلى بيت الطاعة بعد إخفاقه على جبهتين متوازيتين: جبهة فكّ الارتباط عن الطبقة المافياوية الروسية، وجبهة تحويل جورجيا إلى سوق طرفية لفائض الإنتاج الرأسمالي الغربي. كلّ ذلك من دون أن تحدث تصدّعات فعلية في بنية المجتمع، ومن دون أن يترافق الانتقال من طبقة مافياوية حاكمة إلى أخرى بأيّ «أعمال شغب» تذكر. ظاهرياً تبدو السلاسة هنا مطابقة للحساسية النيوليبرالية التي تتصنّع مواكبة «الثورات» في المنطقة، فتهلّل لغياب البعد الطبقي عن بعضها، وتأسف لحضوره في بعضها الآخر. ثمّة رغبة عارمة لدى هؤلاء في إسقاط تجربة «الثورات» الأميركية الملوّنة ميكانيكياً على الحراك الحاصل اليوم. وتتفاقم الرغبة تلك مع تزايد المؤشّرات على نضوج الوعي الطبقي وتمفصله عضويّاً في شكل حراك اجتماعي جذري وغير مهادن بالمرّة. ولأنهم لا يحتملون فكرة تجذير الثورات وإيصالها إلى خواتيمها تراهم يعملون ما بوسعهم لتغليب الطابع «الليبرالي» الشكلي لها على ما عداه. لكنهم ينسون أنّه طابع شكلي في النهاية، ولأنّه كذلك لم يصمد طويلاً أمام الموجة الثورية الثانية التي تهدّد اليوم باقتلاعه من الجذور، هو ومن ينظّر له. بهذا المعنى لا يعود ممكناً كثيراً التعويل على الطابع السلمي لهذه الموجة الجديدة من الإضرابات والاعتصامات ضدّ السلطة الطبقية. حتى الفوضى باتت احتمالاً ممكناً الآن، ويجب بالتالي التعامل معها بجدية وبواقعية أيضاً، أي بوصفها جزءاً لا يتجزّأ من فعل الاحتجاج الجديد والجذري. لا خوف على مجتمعاتنا منها ما دامت الانقسامات الطبقية آخذة في التبلور شيئاً فشيئاً. إضرابات سيدي بو زيد في تونس تقول ذلك، وكذا إضرابات الطلّاب والمعلمين والسائقين في مصر.لقد شارف العمل بالقناع الملوّن للثورات على الانتهاء، وبدأت ملامح الحقبة الجديدة بالتكوّن. حقبة لا يبدو أنّها ستحمل للنيوليبراليين وسادتهم في مستعمرات الخليج ما يسرّهم. بالكاد خرج هؤلاء أصلاً من صفعة سقوط ساكاشفيللي وزوال منطق التثوير بالواسطة أو بنقل السلطة شكلياً. عليهم أن يستعدّوا من الآن وصاعداً للكابوس الذي ظنّوا أّنّه زال بزوال الطبعة السوفياتية (الرديئة جداً) من الماركسية: الثورة الاجتماعية. كلّ ما نعرفه الآن أنّ هنالك ملامح لهذه الثورة قد بدأت بالتبلور جدّياً وفي أكثر من مكان. وما يؤكّد ذلك هو العنف الشديد الذي ووجهت به طلائع الإضرابات هنا وهناك. لا يبدو أن السلطات الطبقية الجديدة ستتساهل مع الأمر هذه المرّة، بخلاف ما جرى إبّان الموجة الأولى الملوّنة. حينها تساهلوا قليلاً لأنّهم كانوا جزءا من الاحتجاجات. لكن مهلاً. هل كانوا فعلاً كذلك وقتها؟ هنالك أكثر من وجهة نظر حول الموضوع، والأكثر منطقية بينها ترجّح ركوبهم للموجة بالتوافق مع العكسريتاريا الفاشية العميلة للامبريالية. الركوب هنا كان ضرورياً حتى يصبحوا أكثر قدرة على احتواء الامتدادات الطبقية لما حدث. وهم باتوا كذلك فعلاً لأنّ القدرة على الاحتواء هي من مهمّات السلطة حصراً، والإخوان المسلمون (كتكوين طبقي منحاز ضد الثورة الاجتماعية وقواها) بعد إطاحتهم بالعسكر أنجزوا المهمّة على أكمل وجه. بالمناسبة، صناعة الفوضى هي مهمّة لا تقل أهميّة عن مهمة الاحتواء، لا بل تتقدّم عليها في سلّم أولويات السلطة الفاشية. واصطناع الفوضى من جانب السّلطة ضروري أيضاً لمواجهة نسق آخر من الفوضى. نسق غير مصطنع بالمرّة وناجم عن عملية الهدم التي باشرتها الثورة الاجتماعية بقواها المختلفة. سيشعر كثيرون بالقلق إزاء هذا الكلام، لكنه قلق مؤقّت وسيزول حالما يتوضّح أنّ الفوضى التي ستنجم عنه لن تكون على حساب المجتمع أو في مواجهته. ما سيكون كذلك فقط هو الفوضى التي سيحدثها النظام عندما يبدأ بمقاومة عملية هدمه وبناء نظام جديد أكثر عدالة على أنقاضه. ثمّة من سيستحضر الآن المثال السوري للتدليل على فداحة خيارات مماثلة. ولهؤلاء نقول: التحلّل الاجتماعي في سوريا مختلف وأكثر خطورة من نظيره في مصر، والسبب في ذلك أن القوى التي تمارس الهدم هناك ليست منقسمة طبقياً، ولا تفعل ما تفعله بناء على انحيازات اجتماعية محددة. وهذا ما عنيته بالضبط عندما تكلّمت آنفا عن أسبقية الفوضى على التثوير في «النموذج السوري». لو كانت الغاية ممّا يحصل في سوريا هي التثوير الاجتماعي فعلاً لما عمّت الفوضى هناك على هذا النحو المدمّر، ولكانت أكثر قابلية للضبط من جانب القوى التي أحدثتها. لذلك يبدو من العبث الحديث عن ثورة اجتماعية في سوريا. في المقابل لا يبدو عبثياً أبداً الكلام عن ملامح ملموسة لها في كلّ من تونس ومصر. ذلك أنّ الفوضى هناك وخلافاً لسوريا، أتت في سياق معيّن هو سياق الحفاظ على وحدة المجتمع بعد عزل الجيش للمؤسّستين الأمنية والرئاسية. لم ينفرط عقد المؤسّسات في ذينك البلدين، لكن المجتمع لم يكن قد وصل بعد إلى مرحلة الانتهاء من الحزازات الأهلية الموضعية التي تهدّد وحدته. وما فعله الجيش في المرحلة الانتقالية هو أنّه حاول إدارة الفوضى ونقلها إلى داخل المؤسّسات الباقية من النظام القديم. كلّ ما يعيشه البلدان اليوم هو نتاج هذا النّسق من إدارة الفوضى حصراً. طبعاً حين نتحدّث عن تنظيم للفوضى وإن في مرحلة انتقالية فهذا يعني أنّنا إزاء طرف لا يكتفي بإحداث توازنات داخل المجتمع فحسب، بل يسعى أيضاً إلى تثبيت هذه التوازنات وطمس أيّ انقسامات تعوق أداءها لوظيفتها الزجرية. كان بالإمكان مجاراة العسكريتاريا في مسعاها ذاك لولا أنّنا نعرف طبيعة المجتمعات التي فرض عليها هذا الشكل من الوصاية الفوقية. صحيح أنّ الانقسامات التي حاول العسكر طمسها لم تتبلور بعد بما فيه الكفاية، وصحيح أيضاً أنّ خروج هؤلاء من السلطة لم يكن نتاجاً مباشراً لتفعيل تلك الانقسامات وتجذيرها اجتماعياً، إلا أنّ الأمرين يصبّان في النهاية في سياق واحد هو سياق التمهيد للثورة الاجتماعية الآتية لا محالة. وهي آتية لأسباب متعدّدة منها مثلاً أنّ الصيرورة التاريخية في بلدين كمصر وتونس تفرض ذلك. إذ لا يمكن الاستمرار إلى الأبد في إفقار الطبقات الشعبية هناك وسحقها، من دون أن تلد هذه الدينامية القمعية نقيضها. ويمكن القول اليوم إنّ ولادته (أي النقيض) قد بدأت. مع كلّ يوم يمرّ تقريباً يكتشف المصريون والتونسيون أنّهم يزدادون فقراً وبطالة وأنّ مكتسباتهم الموروثة عن حقبتي عبد الناصر وبورقيبة آخذة بالتآكل تدريجياً. كانوا دوماً يعرفون ذلك، لكنّ الجديد الآن أنّهم يعون فداحته تماماً. وعيهم ذاك هو بالتحديد المعطى الذي سيغيّر المعادلة جذرياً. لقد كسرت الموجة الأولى من الاحتجاجات حاجز الصمت لديهم، وفتحت لهم أفقاً للتعبير. هذا جلّ ما فعلته بخلاف ما يعتقد كثيرون. الآن حان وقت العمل، وبالتالي الانتقال من الوعي بالثورة أو برطانتها إلى عيشها فعلياً. ثورتهم اليوم باتت ممكنة أكثر من أيّ وقت مضى. ومن ممكناتها الكبرى حالياً تجذير الوعي الطبقي محليّاً، والانتقال به من حيّز التنظير إلى حيّز الفعل. مصر في هذه الأيام تشتعل بالإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات، وكذا تونس. وكما نعلم فانّ الإضرابات العمّالية والقطاعية تعتبر تاريخياً وقود الثورات التي تضع القطيعة مع التكوينات الطبقية للنظم القديمة (وليس النظم فحسب) نصب أعينها. وبما أنّ القطيعة مع التكوينات تلك ونظمها في تونس ومصر لم تحدث، فإنّ الثورة لم تعد ممكنة فحسب، بل باتت قاب قوسين أو أدنى. في الحقيقة هي لم تعد قريبة فقط... لقد بدأت فعلاً.
* كاتب عربي