وإذا الحربُ أعرضتْ زَعَمَ الهولُ لعينيه أنه تهويلُ
أبو الطيب المتنبي


لم يحصل حسن نصر الله على تكليف من موسكو أو بكين أو طهران أو بغداد أو دمشق، لكي يكون الناطق الرسمي باسم الحلف الجديد المتكوّن، في السياسة الدولية، على نار الحرب في سوريا، لكنه احتلّ، من الناحية التاريخية، هذا الموقع الكوني. سأشرح، تواً، هذه الخلاصة غير المجازية، لكنني، قبل ذلك، أود أن أقول إنني أشعر بالخجل ــ هكذا بالضبط ــ لأن لبنانيين عديدين يماحكون رجلهم الكبير بالصغائر، ولأنّ عرباً كثيرين تعميهم المذهبية عن اكتشاف «ناصرهم» الجديد. لبناني؟ ولمَ لا؟ لبنان فعالية وليس حجماً. مَن يمكنه أن يتصوّر تاريخ المشرق من دون جبل لبنان؟ ومَن يمكنه أن يرى العروبة ناقصةً فيروز؟ ومن يمكنه ــ من الوطنيين العرب ــ أن يتصوّر السنوات العجاف منذ اكتمال الهزيمة في 1982 من دون حزب الله؟ «شيعي»؟ وماذا يعني ذلك، عنده، سوى التمثّل بفدائية الحسين؟ سيف الدولة كان شيعياً ومقاتلاً ــ انطلاقاً من إمارة حلب الصغيرة ــ في زمن سابق من النكوص القوميّ، حين كان المشرق ممزقاً ومصر ترزح تحت حكم العبد كافور الإخشيدي! بينما كانت خيول الحمدانيين تصهل دفاعاً عن الإقليم العربي كله. و«زعيم حركة مقاومة، لا رئيس دولة»؟ لكن ذلك هو، بالذات، ما يمنحه قدسية الحضور وحرية الطليعة في اقتحام بوّابة التاريخ.
ولا يتعلّق هذا التقدير بطائرة «أيوب» التي أطلقها حزب الله في سماء فلسطين المحتلة (ليست الأولى وليست الأخيرة) ولا بتفاصيل عملية «أيوب» الصغرى وكيلومتراتها ومخطط سيرها وأهدافها ونتائجها وصدمة الإسرائيليين بها إلخ، بل يتعلّق بعملية أيوب الكبرى في السياسة الدولية. تعالوا نتابع.
حين دخل القيصر فلاديمير بوتين، الكرملين، لأول مرة، في 2000، كان نصر الله يوقّع هزيمة الاحتلال الإسرائيلي وفراره من جنوب لبنان. يعني ذلك أنّ عقد الفراغ الاستراتيجي الناجم عن هزيمة العراق وتفكك الاتحاد السوفياتي، في 1990، لم يكن فارغاً تماماً. كان هنالك حزب الله ينحت في الصخر ويحافظ على الربيئة الأمامية وسط الانهيارات السياسية وما تبعها من انهيارات نفسية عمّت المنطقة، وشلّت القوى الوطنية والتقدمية عن الفعل التاريخي، بينما كان أيّوب متحصناً بصبره الاستراتيجيّ، يقاتل في جنوب لبنان، مؤمناً، في عزّ الهزائم، بالنصر المبين مرتين في 2000 و2006!
«دمشق وطهران وراء المقاومة»؟ نعم. لكن ذلك لا يخفض أصالة التجربة الكفاحية لحزب الله درجةً واحدة: أعطى السوفيات لمصر عشرة أضعاف ما أعطوه لفييتنام، ولم تحصل حركة مقاومة في التاريخ على ما حصلت عليه «فتح» من مساعدات وتسليح ودعم شعبي وسياسي ومالي، وبعدها «حماس»...
علينا، إذاً، أن ندقق، هنا، لكي نكتشف سرّ حزب الله. ليس ذلك السر في البطولات، فعسكريو الجيوش ومناضلو المقاومات، لم يفتقروا إلى البطولة قطّ. السرّ في أمثولة أيوب مرفوعةً من الفردي إلى العام، أي في الصبر الاستراتيجيّ المتمحور على إرادة الصراع والنصر. هنا، لا تذهب التضحيات سدى، ولا تتحوّل البطولات أشعاراً، بل تتراكم لتتجلّى في مستوى نوعي غير مسبوق، تلك التجليات المسماة شعبياً «مفاجآت حزب الله»! في المشهد الجيوستراتيجي المتكوّن الآن من بكين إلى جنوب لبنان، لم يعد حزب الله، «إيرانياً» أو «سورياً»، لكنّه غدا، مع إيران وسوريا والعراق وروسيا والصين، أطراف حلف دولي، باسمه، وعلى خلفيته، جرت عملية أيوب الصُغرى. ودعونا نلاحظ، هنا، أنّ طرفي مثلث الممانعة، دمشق وطهران، في حالة دفاعية، بينما الطرف الثالث، حزب الله، كالرّوس، في حالة هجومية. ولا تهمّ الأحجام في هذا السياق، وإنما المصادفات وإرادة التحدي والقدرة على الفعل.
حسناً! الأهمّ من الإعلان عن طلعات طائرة أيوب التجسسية فوق فلسطين المحتلة ــ على أهميته الاستثنائية ــ هو إعلان نصر الله الصريح القاطع استعداد المقاومة للقتال، في الوقت الذي تفرضه الضرورة، إلى جانب الجيش العربي السوري. هذا الوعيد ليس موجهاً، بالطبع، إلى المعارضة السورية، بل إلى غزاة سوريا من البرّ التركي، إلى تركيا التي تواجه اليوم، أيضاً، عقابيل عدوانها على هيبة القيصر في عملية اختطاف الطائرة السورية ــ الروسية (على متنها مواطنون روس ومعدات روسية). موسكو ستردّ، في حينه، على رسالة حلف الأطلسي الأردوغانية بقطع الطريق على تواصل أطراف الحلف الصاعد المضادّ، وحزب الله سيرد، في حينه، على الغزو التركي؛ هكذا، يسمح التاريخ لحزب لبناني مقاوم بالوقوف في الميدان الاستراتيجي مع قيصر الكرملين! بالخلاصة، فإن تكوُّن الحلف الروسي الإيراني المشرقي، حرّر حزب الله من موقع الأخ الأصغر ووضعه على قدم المساواة مع حلفائه، سوى أنّه أقدر على الاقتحام.
لا معنى، بعد اليوم، لمخاوف حزب الله ــ اللبنانية والمذهبية ــ ولا للغرق في السجالات الداخلية. لقد كلّف التاريخُ، المقاومةَ، بالاقتحام، فهل تصغي، بعد، إلى حساسيات نجيب ميقاتي أو تتحسّب لسعد الحريري أو تأخذ وليد جنبلاط في الاعتبار أو تواصل الابتسام لتذاكي سمير جعجع أو تستمر بسياسة التسامح مع مهربي السلاح والفتنة الوهابية؟
سيف الدولة المعاصر، نصر الله، يواجه الاستحقاقات الكبرى: قتال الإسرائيليين في فلسطين، وقتال حلفائهم في شماليّ سوريا، فهل يمكنه ذلك من دون تطهير الداخل؟
سؤال ليس برسم حزب الله وحده، بل برسم جميع الوطنيين اللبنانيين، سؤال آن أوانه، بينما تمتدّ عملية أيوب الكبرى لتشمل العراق في لحظة تحوّل نوعي إضافية. ففي ما يمكن وصفه بالاختراق الاستراتيجي، حل رئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، ضيفاً استثنائياً على بوتين (لا أعرف لماذا رأيت نصر الله ثالثاً؟). جاء للبحث في أسس شراكة عميقة وواسعة النطاق، من السلاح إلى النفط إلى التبادل التجاري ومشاريع إعادة البناء، إلى التعليم الجامعي وتأهيل الكوادر. ماذا يعني ذلك سوى الإعلان الصريح للهزيمة الأميركية في العراق؟ سنتذكّر الآن أنّه لم يمض شهران بعد على ما أعلنه نصر الله من حسرة على الجيش الوطني العراقي الذي فككه الغزاة الأميركيون في 2003، فهل نحن في عشية الشروع في تجديده؟
منذ انسحاب قوات الاحتلال الأميركية من العراق، ظهرت مؤشرات متتابعة على المضمون الانهزامي لذلك الانسحاب؛ صحيح أن السفير الأميركي لم يفرّ ــ كما تمنينا بطائرة مروحية ــ لكن الاحتلال انتهى من دون قواعد أميركية، ومن دون نفوذ أميركي صريح، بل خيمت على العراق صيغة غامضة من التفاهم بين واشنطن وطهران، مع ترجيح للنفوذ الإيراني. الأزمة السورية هي التي ظهّرت مدى استقلالية القرار العراقي إزاء واشنطن؛ وقفت بغداد إلى جانب دمشق، ليس فقط كممر إيراني للمساعدات، وإنما، أيضاً، كشريك في الدعم، وكحليف في مواجهة الخليج.
وعلى هذه الخلفية، تفاقمت الضغوط على حكومة المالكي، وأسوأ أوجهها هو تصاعد العمليات الإرهابية المكثفة لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، المدعوم من السعودية التي رعت، على العموم، التحوُّل السياسي لقوى في المقاومة العراقية السابقة من العداء للأميركيين إلى العمل لهم.
ربما كان المالكي ــ رجل العراق القويّ المتشبه بأداء صدام حسين ــ ينتظر الفرصة لكي يظهّر مدى استقلالية بغداد إزاء واشنطن وطهران معاً، فما إن تبلور الوضع السياسي، الإقليمي والدولي، عن المشهد الدامي لولادة التعددية القطبية، حتى بادر الرجل إلى الحركة السريعة من موقع جديد. بادر فدمشق لم تعد تلك القوة الباحثة عن النفوذ في العراق، ولكن عن الدعم والمساندة، وطهران لم تعد الحليف الأكبر، بل تحولت إلى موقع دفاعي والرقم 3 في حلف تترأسه موسكو. وفي فضاء هذا الحلف ترسخت حقائق استراتيجية ملائمة لبغداد؛ لا استخذاء أمام تركيا «الوقحة»، ولا قبول بالتدخلات في سوريا، ولا تسامح ولا مصالحة مع الإخوان والسلفيين والقاعدة، وأية تسوية في البلد الجار، حتى لو كانت تشتمل على تغييرات عميقة، لن تضم أياً من تلك القوى، وينطبق ذلك، بالطبع، على العراق، المستفيد، أيضاً، من الخطوط الاستراتيجية الآخذة في التحدُّد مع الخليج. فالتسوية الممكنة في آسيا العربية، هي الحلف الروسي الإيراني المشرقي في مقابل الحلف الأميركي التركي الخليجي.
خارج هذا الترسيم الجيوسياسي يقبع الإسرائيليون والفلسطينيون والأردنيون. مصير إسرائيل أصبحت ملامحه واضحة: الانكفاء. وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فإنّ المطروح عليهم، في سياق الربيع العربي، غزة ونصف الضفة الغربية والمحاصصة في الأردن في إطار كونفدرالية أو من دونها. وليس هناك أي اقتراح بالنسبة إلى الأردنيين سوى القبول بحصيلة الصراعات والتسويات.
هل هنالك بديل، أيها الفلسطينيون والأردنيون سوى المقاومة؟ هل هنالك بديل من الاندراج في عملية أيوب الكبرى؟

تغطية الأردن: صورة نمطية بالأسود والأبيض



حتى قبل «الربيع العربي» وافتضاح أمر «الجزيرة» على الملأ، كانت تغطية الفضائية القَطرية للأردن قد كرّست الصورة النمطية المعطاة في الأدب الاستشراقي للبلد، المفرَغ من ميكانزمات الدولة والمؤسسات والقوى الاجتماعية الوطنية، وحيث الملك والملَكية والاستخبارات يقابلهم الإخوان المسلمون، وحيث مكان بلا هوية تقطنه أغلبية فلسطينية مظلومة ومهددة. لقد استعادت «الجزيرة» وكوّنت، بالصورة، لوحة رسمتها الصحافة الغربية الوثيقة الصلة بالسردية الصهيونية حول الأردن بوصفه «الجزء العربي من فلسطين» و«كياناً مصطنعاً» إلخ.
في حلقات عديدة من برنامج «الاتجاه المعاكس» وبرامج حوارية أخرى ووثائقيات، سعت «الجزيرة» إلى استخدام عناصر منتقاة من تاريخ النظام الأردني المعادي لحركة التحرر الوطني العربية، لكن في سياق لئيم من المماهاة بين صورة النظام وصورة الأردن، بحيث تكون النتيجة دفع الأردني إلى الخجل من انتمائه الوطني وفقدانه الثقة بالذات، في حرب نفسية مثابرة لمنع تكوّن الحركة الوطنية الأردنية، المستقلة عن الإخوان المسلمين وعن النظام في آن واحد.
كوّنت «الجزيرة» فريقها للحوارات من مؤيدين للنظام، جرى اختيار أخفّهم وزناً وأثقلهم حضوراً، ومعارضيه الإسلاميين، بما يكرّس الثنائية في صورة تستثني القوى الاجتماعية السياسية الأخرى، وتخرجها من السجال. وفي نشرات الأخبار، ينقل فريق «الجزيرة» النشاطات الإخوانية حتى تلك الثانوية، لكنّه لن ينقل إضراباً عمالياً ضخماً يقوده يساريون، إلا إذا وقع صدام عنيف بين الأمن والمضربين، لا يمكن تجاهله. لكن حتى هنا سيجري تجاهل التوجهات الأيديولوجية لقيادات الإضراب.
بقرار، وليس اتفاقاً، طمست «الجزيرة» لوحة الصراعات والخلافات والاختلافات ووجهات النظر في البلد. وكثيراً ما شنّت، قبل انكشافها في 2011، حملات مضادة للحركات الوطنية الاجتماعية الجديدة. في الأول من أيار 2010، حين أعلن المتقاعدون العسكريون الأردنيون حركتهم ــ وكانت وقتها الأكثر راديكالية في توجهاتها ومطالبها، سواء على الصعيد الديموقراطي الاجتماعي أو على الصعيد الوطني، وخصوصاً لجهة إعادة تعريف إسرائيل كعدو في إطار سياسة دفاعية جديدة ــ خصصت «الجزيرة» سلسلة من التغطيات، بينها يوم تلفزيوني كامل، للهجوم على الحركة الوليدة، وتشويه صورتها وكأنّها معادية للوجود الفلسطيني في الأردن. بينما عمل مراسل «الجزيرة» في عمّان، مستخدماً علاقات القناة وجهازها، على جمع تواقيع الإخوان والنيوليبراليين ودُعاة المحاصصة وأنصار التطبيع مع إسرائيل على بيان مضاد للمتقاعدين العسكريين. وقد حظي هذا النشاط الإعلامي ــ السياسي، بتقدير النظام الذي هادنته «الجزيرة»، زمناً، للتفرّغ لمجابهة ولادة القوة الثالثة.
مع الربيع العربي الإخواني الأميركي، انكشفت «الجزيرة» كأداة قَطرية ــ إسرائيلية، وفقدت تأثيرها الساحر الذي حازته ما يقارب عقداً كاملاً، لكن الكثير مما رسّخته من صورة تلفزيونية للأردن، تسرّب، مثلاً، إلى فضائية نشأت مضادّة «للجزيرة»، هي فضائية «الميادين» التي لا تزال تغطياتها الأردنية مرتكزة على داتا «الجزيرة» وإعادة إنتاج الصورة النمطية للبلد بالأسود والأبيض.
منذ سنوات، وأنا أبذل، مع آخرين، جهوداً متواصلة لكسر الحلقة النمطية للتغطية الإعلامية والكتابات والمداخلات حول الأردن، لكن سرعان ما يتلاشى أثر تلك الجهود، حالما تشتغل ماكينة التغطية حول حدث ساخن. حسناً! هنالك قدرية ما تُقفل العقل العربي عن رؤية البلد وفهمه. ومع ذلك لن ندير ظهرنا للتفاعلات العربية؛ نريد التواصل مع فضائنا الممكن للاندماج في نهضة مشرقية وتفعيلها. ويأتي التفاهم، الضروري هنا، في مرتبة تالية. المهم الآن هو الفهم. ومقاربتنا بسيطة، لكنها أساسية: لا يمكن اختصار الأردن بالملك أو بالنظام أو بالإخوان المسلمين أو بالفلسطينيين. الأردن، كسواه، بنية اجتماعية سياسية تاريخية، أي ماديّة، تتمفصل على صراعات داخلية، وتشغل حيّزاً جيوسياسياً، وتتأثر بصراعاته وتؤثّر فيها. هل ينبغي التذكير دائماً بهذه الحقيقة الأولية؟ الإجابة ــ للأسف ــ هي نعم. ذلك أنّ معظم التغطيات عن الأردن، تغفلها. وليس المطلوب، بالطبع، الانحياز إلى جانب هذه القوة أو تلك من القوى الأردنية المتصارعة، بل ملاحظة ذلك الصراع وفهمه.
محرر عبقري في قناة «الإخبارية السورية»، أعدّ تقريراً هجائياً للنظام الأردني. حسناً. ولمَ لا؟ لكن أن يكون التقرير ذاك ــ المنقول بتصرّف عن «رويترز» ــ مؤيداً لوجهة نظر الإخوان المسلمين ضد العشائر وبيروقراطية الدولة، فأظن أنّ هذه ــ من وجهة النظر السورية تحديداً ــ بلاهة. فعلى امتداد عمر الأزمة السورية، كان «الإخوان» هم الذين يحرّضون للتدخل في سوريا، بينما كان الفريق الذي تهاجمه «الإخبارية» هو الذي يعرقل ويمنع ذلك التدخل، ويحشره في أضيق الحدود.
لا ينتظر المرء أن يعثر على الذكاء في الإعلام السوري، بل سيتوقع، مثلاً، للردّ على إعلان وزير الدفاع الأميركي، ليون بانيتا، وجود 150 عسكرياً أميركياً في شمال الأردن، استضافة النائب خالد عبّود لكي يهذر بأي كلام عن «جغرافيا» بلا ذاتية، «تتلقى أوامرها من الخارج، وتنفّذ المطلوب منها». هكذا؟ فماذا عن التصدّي الأردني المثابر للضغوط الخليجية الغربية التركية، لمساومة البلد المفلس على فتح حدوده أمام تهريب الأسلحة والمسلحين إلى سوريا؟ وماذا عن مطاردة واعتقال السلفيين الجهاديين المتجهين للمشاركة في الحرب السورية؟ وماذا عن المواجهة الداخلية مع الإخوان المسلمين التي كان يمكن تلافيها ببساطة من خلال منحهم حرية الحركة لمساندة الجهاد ضد النظام السوري؟
ولم يخطر في بال «المحلل الاستراتيجي»، عبود، سؤال بسيط: لماذا تعمّد بانيتا، في هذا الوقت تحديداً، إحراج النظام الأردني؟ ألا يكون قد دخل على خط الصراع الداخلي لتعزيز الأجنحة الراغبة بالتدخل في سوريا؟ لم يعد ممكناً، بعد، تجاهل قوة الحركة الوطنية الأردنية، القوة الثالثة ــ غير التقليدية وفق المساطر المعهودة ــ وغدا التذكير بوقفاتها ملحّاً. وقفتها مع المقاومة العراقية في 2003 ــ 2007 ومع دمشق في 2005 في مواجهة الهجمة الغربية السعودية في قضية مقتل رفيق الحريري وما سمي ثورة الأرز إلخ، ووقفتها الشجاعة التالية مع حزب الله في حرب تموز 2006، التي تحولت صراعاً داخلياً في البلد، وأخيراً وقفتها مع حماس في مواجهة العدوان في 2009 وضد حماس حين غادرت المعسكر السوري.
لقد مضى أكثر من 18 شهراً على اندلاع المواجهات في سوريا. ونستطيع القول إنّ تحالفاً أردنياً موضوعياً نشأ بين البيروقراطية المدنية والعسكرية والحركة الشعبية والعشائر، نجح حتى الآن في منع «انزلاق الأردن في الرمال السورية المتحركة والملتهبة». وكان الثمن المدفوع، لقاء تلك الممانعة، باهظاً. لكن عبد الباري عطوان، في «القدس العربي»، تجاهل قدرة الحركة الوطنية الأردنية التي ظهرت، جلية، خلال أشهر الأزمة السورية، في فرض سياسة النأي بالنفس، فعلاً لا قولاً. وبسبب ذلك التجاهل، فإنه مستعدّ للقول إنّ القوة المؤلفة من 150 عسكرياً أميركياً «قد تكون نواة، أو مقدمة لأعداد أكبر من الجنود الأميركيين سيتدفقون على الأردن لاحقاً، تمهيداً أو استعداداً للتدخل عسكرياً في الأزمة السورية، تحت ذرائع مختلفة ومن بينها السيطرة على الأسلحة الكيماوية السورية، والحيلولة دون وقوعها في أيدي جماعات إرهابية». وهكذا، فإن الأردن، بالنسبة إلى عطوان، أرض مفتوحة لـ«تدفق القوات» و«التدخّل»... من دون حتى الإشارة إلى وجود ممانعة داخلية.
يمتدح عطوان ــ في موضع الذمّ الخبيث ــ الكفاءة العسكرية الأردنية، ويشير إلى مشاركة وحدات عسكرية أردنية في ليبيا والبحرين، لكن من دون أن يلاحظ الفارق بين إمكانية السيطرة على وحدات عسكرية خاصة ودركية محدودة في مهمات خارجية، وبين إمكانية الزج بالمؤسسة العسكرية الأردنية في عمليات حربية ضد الجيش العربي السوري. بالنسبة إليّ، كنت آمل لو أنّ موازين القوى المحلية تسمح بالعكس، أي بمشاركة الكفاءات العسكرية والأمنية الأردنية في القتال ضد الجماعات الإرهابية التي تغزو سوريا من الحدود التركية واللبنانية، والتي يُظهر عطوان، بوصفه صديقاً قديماً بن لادن، تعاطفه الضمني معها والأسف على مصيرها في شباك المطاردة والاعتقال والقتل بعد إنجاز مهمتها ضد النظام السوري.
يقول عطوان: «ندرك جيداً أنّ مساعدات مالية كبيرة تتدفق على الأردن حالياً من أميركا وحلفائها في دول الخليج لسد العجوزات في ميزانيته، وكمكافأة لاستضافة القوات الحالية واللاحقة». لكن هذه ليست بحاجة إلى «إدراك»، بل إلى معرفة الحقيقة؛ فلم تحصل عمّان، حتى الآن، على مساعدات مالية سعودية أو قَطرية أو خليجية (ما عدا الكويت التي أوفت بالتزامها)، واضطرت إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي بشروط صعبة، والسبب في ذلك أنّ الصراع الداخلي حول سوريا، لم يُحسم بعد، ولا تزال القوى الاجتماعية الوطنية تحول دون تورّط البلاد في هذا الاتجاه. لا نعرف إلامَ سيؤول ذلك الصراع في المستقبل، لكنّنا نلحّ على وجوده وفعاليته في عرقلة الخطط الأميركية الموضوعة.
احتجت الحركة الوطنية وتحتجّ بشدة على وجود قوات أميركية أو أجنبية في الأردن. لكن وجود تلك القوات، بالنظر إلى صغر حجمها وعدم تأثيرها الملحوظ على استمرار السياسة الرسمية المحايدة إزاء الشأن السوري، لم يتحوّل، بعد، إلى معركة. إنما لا شيء يمنع من ذلك. في رأيي أنّ قوى الممانعة الأردنية قد تمكنت من تحقيق توازن يمنع أي تدخل أردني أو عبر الأردن في سوريا، ما دام نظام الرئيس بشار الأسد صامداً بالفعل. فإذا خسر النظام السوري، الحرب، سيخسرها الأردنيون الممانعون معه، ولن يستطيعوا، عندها، التأثير الجدي في الموقف. هذه المعادلة تحديداً هي التي أذنت بإمرار «مناورات الأسد المتأهب» ووجود العناصر العسكرية الأميركية في البلاد؛ ذلك أنّ التفاهم بين القصر وواشنطن قائم على التسليم بوجود معادلة داخلية تمنع مشاركة الأردن في عمليات في سوريا في ظل الأسد.
نعود الآن إلى السؤال: لماذا عمد بانيتا إلى تكذيب النظام الأردني وإحراجه إزاء سوريا وإزاء الحركة الوطنية الأردنية، وإعلان وجود جنوده في شمال الأردن في إطار تنسيق جهود عسكرية ومدنية تتعلق بالشأن السوري، وخصوصاً لجهة تأمين الأسلحة غير التقليدية؟
أولاً، للاستهلاك الداخلي في الحملة الانتخابية الرئاسية. بانيتا يريد القول إنّ إدارة باراك أوباما مستعدة للاحتمالات السورية، وثانياً، لمعاقبة عمّان التي كسرت الإيقاع بالتباحث مع موسكو حول سوريا. هاتان، أيضاً، تجاهلهما عطوان، ذلك أن تغطية الأردن لا تحتاج إلى عناء أو متابعة أو تفكير؛ يمكنك، بشأن الأردن، أن تؤلّف القصة التي تحلو لك. وهذا ما يفعله عادة، بصورة كاريكاتيرية، مراسل «القدس العربي» في عمان. لكنني كنتُ انتظر شيئاً آخر من الزميل بسام القنطار.
للأسف الشديد، عرقل أمن المطار، دخول القنطار إلى عمّان، مدّة أربع ساعات. وهو تصرّف مدان بلا شك. لكن ليس صحيحاً البتة ما كتبه القنطار من أنّه «لم يعد الدخول إلى عمّان سهلاً»، وليس صحيحاً قوله إنّ «التدقيق الأمني والانتظار في المطار سيكونان حالة شبه عامة». لكن ملاحظته بخصوص عرقلة «السوريين الهاربين من الأوضاع في بلادهم»، صحيحة. هناك تشديد يتصل بهؤلاء. إلا أنّه ليس قراراً أمنياً معزولاً، بل هو تعبير عن استجابة للضغوط الداخلية بوقف الهجرة السورية نحو الأردن أو خفضها.
قضى القنطار وقتاً سيئاً في المطار. وهذا مخجل، بالنسبة إليّ كأردني، فعلاً. لكن قوله «التجربة في المطار توحي بخشية المملكة الهاشميّة من التغيير، وهي تصدّ له كل المنافذ»، مرسلٌ على عواهنه وملتبسٌ ومضحك. فليست تجربة شخصية كتلك صالحة للاستنتاج منها سوى وجود سماجة أمنية؛ ثم إنّ النظام يخشى التغيير فعلاً، لكن عوامل التغيير الفاعلة، هنا، هي العوامل الداخلية، وليست تلك الآتية من المنافذ. الصورة النمطية التي يكررها القنطار في جملتين عابرتين، توحيان كأنّنا إزاء مملكة ساكنة مغلقة على نفسها تخشى الثورة في حقائب المسافرين!
يسرد علينا القنطار قصة ساعاته الأربع بالتفصيل، ويسرد، أثناءها، قصص سوريات وسوريين مُنعوا من الدخول إلى البلاد (هل المطلوب فتح باب الهجرة من سوريا؟) لكنه دخل وذهب إلى شارع المقاهي والمشارب في جبل عمان، شارع الرينبو، حيث سهر مع «رفاق شيوعيين أخبروني الكثير عن البلد الذي يغلي، وعن الشباب التوّاق الى التغيير. عن عمان التي لا تنام. أخبروني عن شعاراتهم المطلبية واستعادوا هتافاتهم في التظاهرات «الأسعار نار نار... والنشمي يلعب قمار» و«يا عبد الله يا ابن حسين... اسمع منا كلمتين... شوف مبارك صار وين».
ما قاله ندماء القنطار صحيح جزئياً فقط. فأولاً، ولشديد الأسف، ليس للشيوعيين حضور يُذكَر في الحراك الشعبي الأردني، وثانياً، إنّ تلك الشعارات التي تباهوا بها ليست شعاراتهم، بل هي شعارات شباب الحراك الكادحين والمهمشين في المحافظات. ومن هؤلاء ــ وليس من سواهم ــ هناك الآن 19 قيادياً معتقلاً، يتعرّض بعضهم للتعذيب والإهانة، بينما يتحدث شيوعيو الرينبو لزوارهم عن التغيير، من دون أن نعرف أي تغيير يقصدون. هل التغيير الليبرالي باتجاه الانضمام إلى الربيع العربي الإخواني (أو هدم الدولة) والتوطين السياسي والمحاصصة في ظل النيوليبرالية ومعاهدة وادي عربة أم التغيير في سكة التحرر الوطني الاجتماعي والتنمية والمقاومة؟ هذا هو سؤال المليون في الأردن وفي المنطقة. لكن القنطار، يهتم فقط بالتغيير، كائناً ما كان المصير، ولذلك، فإنّه يحيي «شباب الإخوان المسلمين» وهم يهتفون «حرية من الله... غصب عنك عبد الله». لكن، أتدري، يا عزيزي بسام، ما هو نوع الحرية التي يريدها شباب الإخوان؟ إنّهم يريدون حرية العدوان على سوريا، حرية الانفراد بالسلطة وإخضاع البلاد للهيمنة الخليجية ومنع الثورة الاجتماعية، حرية تكفير الآخر، حرية التحريض الطائفي والمذهبي على المسيحيين والشيعة والعلويين والدروز إلخ، حرية مطاردة العلمانيين واليساريين والقوميين، وحرية إقفال المقاهي والمشارب في شارع الرينبو.
شباب الإخوان وحلفاؤهم من اليساريين الليبراليين هم الوجه الآخر «للسحّيجة» (البلطجية ــ الشبّيحة) الذين صادفهم القنطار على دواوير عمّان؛ هذه هي الثنائية القاتلة التي تسعى، عبثاً، إلى منع قيام القوة الثالثة الوطنية الشعبية في البلاد. والمفارقة ــ بالنسبة إلى القنطار تحديداً ــ أنّ قرابته لسمير أخّرته 4 ساعات في المطار، لكنّه لو وقع بين أيدي الإخوان والسلفيين، وعلموا أنّه متعاطف مع حزب الله، فهل كان نجا؟