جرت محاولات محمومة بين يوم الثلاثاء 23 آب 2011 عندما سقط القذافي من باب العزيزية، ويوم قيام «المجلس الوطني السوري» يوم الأحد في 2 تشرين الأول 2011 في اسطنبول، من أجل إنشاء إطار واسع للمعارضة السورية، كانت مؤشرات كثيرة تدل (من خلال الأطراف الدولية والإقليمية الساعية إليه) على أنّه يراد منه أن يقوم بدور «المجلس الانتقالي الليبي» الذي شكل ستارة محلية للناتو بين شهري آذار وتشرين الأول 2011حتى مقتل القذافي في سرت.كانت هناك شرارة من واشنطن أطلقتها هيلاري كلينتون في أواخر تموز عندما سألت أشخاصاً معارضين، اجتمعت بهم آنذاك، السؤال الآتي: «ما هو عنوان المعارضة السورية؟». في محادثات الدوحة، التي جرت في الأسبوع الأول من أيلول بين «هيئة التنسيق» و«إعلان دمشق» و«الإخوان المسلمون» لتشكيل «ائتلاف عريض» للمعارضة السورية، قال شخص عربي شارك في المحادثات عندما طرح أحد أعضاء «الهيئة» مطلب «رفض التدخل العسكري الخارجي»: «هذا سيخربط سيناريوهات». عملياً، أدى إصرار «الهيئة» على هذا المطلب، ومطلب رفض العنف، إلى اتجاه «إعلان دمشق» والإخوان إلى تشكيل المجلس في اسطنبول.
في المؤتمر الصحافي في اسطنبول لإعلان قيام المجلس، أوحى الدكتور برهان غليون بحجم التوقعات التي انبنى قيام المجلس عليها، حين قال بأنّ «الأصعب كان تشكيل هذا المجلس، في حين أنّ الاعتراف به هو الخطوة الأسهل. الجميع ينتظرون ولادة إطار موحد للمعارضة لتأييده والاعتراف به بعدما فقد النظام السوري ثقة العالم». واعتبر المجلس بأنّه«هيئة مستقلة ذات سيادة تجسد استقلال المعارضة السورية وسيادة الشعب السوري الذي تمثله في سعيه لتحقيق حريته المنشودة» في محاولة لإلباس المجلس وضعية هيئات سياسية أخذت شكل الحكومات، مثل حكومة فرنسا الحرة أثناء الحرب العالمية الثانية، لتعتبر نفسها ممثلة للسيادة والأرض والشعب.
في السياسة لا تعبر كلمات من هذا النوع عن حقوق، بل عن حجم الآفاق التي يتصورها ويظنها ويعتقدها قائلها، وهو المنفيّ المطارد خارج بلده. وهذا لا يأتي من وقائع محلية على الأرض كانت لا تشي بذلك، وإنما يأتي من قراءات عند قائل هذا الكلام لحجم وقوة الدعم الدولي الإقليمي الذي استند إليه المجلس في لحظة ولادته.
خلال شهرين من عمر المجلس، تبددت هذه التوقعات، ويبدو أنّ الفيتو الذي مورس في 4 تشرين الأول من قبل روسيا والصين في نيويورك قد جعل إمكانية تكرار السيناريو الليبي تساوي الصفر في سوريا، وهو ما تأكد لما قال مراقب الإخوان رياض الشقفة من اسطنبول «إن السوريين مستعدون للقبول بتدخل تركي في بلادهم»، وبعثت موسكو على أثره بأسبوع أسطول البحر الأسود إلى طرطوس في أواخر تشرين
الثاني.
كان اتجاه المجلس إلى محادثات استغرقت أسابيع مع الهيئة وانتهت بتوقيع ورقة اتفاق 30 كانون الأول بالقاهرة تعبيراً عن نزوله من أعلى الشجرة، بكل ما عنته رمزياً تلك المحادثات من تخليه عن اعتبار نفسه كـ«إطار موحِّد للمعارضة»، و«ممثلاً» للشعب والسيادة.
هذا إذا لم نتحدث عن أن تلك الورقة كانت تتضمن سياسات تجاه التدخل العسكري الخارجي والعنف، من الواضح أنّ وجهة نظر المجلس لم تكن هي الراجحة
فيها.
كان رفض المكتب التنفيذي للمجلس في 4 كانون الثاني لتلك الورقة التي وقّعها رئيسه الدكتور برهان غليون بناءً على تفويض منه في المحادثات وأثناء التوقيع، تعبيراً عن تخبط وصراعات كانت تنهش المجلس. صراعات اجتمعت لكي تزيد من بلبلة المجلس الذي انبنى على توقعات من الخارج الدولي ـــ الإقليمي لم تتحقق. وواضح أنّ هناك حائطاً دولياً إقليمياً صاداً ومانعاً لها في موسكو وبكين
وطهران.
في الواقع، كانت شعبية المجلس في الداخل مرتفعة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عمره، ولم يكن أحد آنذاك يبزّه في ذلك: انبنت تلك الشعبية عند شارع متحرك معارض على توقعات بأنّ المجلس سيكون طريقاً إلى تكرار السيناريو الليبي، وذلك بعد الوصول إلى قناعة بأنّ القوة الذاتية للحراك لا تستطيع تحقيق شعار إسقاط النظام الذي طرح منذ أواخر حزيران.
وقد أوحى المجلس في شعارات أيام الجمع التي كان يضعها أنصاره بأنّ ذلك ممكن، مع أنّ كل المؤشرات البالغة الوضوح كانت تقول العكس منذ ذلك الفيتو الروسي ـــ الصيني بنيويورك في 4 تشرين الأول 2011. يدل ذلك على نزعة شعبوية عند المجلس لم تكن تنبني على مقولة «الشعب يريد»، وإنما على شراء شعبية عبر المتاجرة بعواطف وآلام ورغبات المشاركين في الحراك، الذين يمكن القول بأنّهم ليسوا كل الشعب السوري ولا غالبيته، وإنما كان السوريون منذ يوم 18 آذار 2011 ولا يزالون منقسمين إلى ثلاثة أثلاث: ثلث معارض، ثلث متردد وثلث مؤيد. وهو ما أنشأ توازناً محلياً، إضافة إلى التوازن الإقليمي ـــ الدولي، يؤدي إلى الاستعصاء السوري القائم، في معادلة لا يستطيع فيها أحد كسر الطرف الآخر.
في صيف 2012، انكشف مرج المجلس عند الشارع المؤيد له، وقد بدأ مؤيدوه بالانفضاض عنه منذ تلك الأوقات. وفي الحقيقة، فإنّ شعبيته السابقة تذهب إلى مسارين متناقضين: إلى الهيئة بلاءاتها الثلاث، وإلى الجيش الحر بعد اقتناع عند الكثيرين من أنصار المجلس السابقين باستحالة التدخل العسكري الخارجي وأنّ الطريق البديل هو العنف المسلح المحلي المعارض. والمجلس الآن يتبدد ويتفسخ بفعل هذين الاتجاهين المتعاكسين، ولولا الدعم الدولي ـــ الإقليمي المتبقي له، وهو الذي لم ينل اعترافاً رسمياً حتى من ثالوث رعاته في أنقرة وباريس والدوحة، لكان قد انتقل إلى مرحلة الموت كجسم سياسي.
أمام هذا، لا يقوم المجلس، بعد عام من عمره، بالمراجعة وإنما يهرب إلى الأمام من خلال العوم مع موجة «العنف المعارض» التي من الواضح أنّه لا يستطيع قيادتها وإنما ينقاد وراءها، بالرغم من أنّ المؤشرات تدل على أنّ فيلم «العنف المعارض» احترق مثله مثل فيلم «التدخل العسكري الخارجي»، وأنّ القوى الدولية والإقليمية المتصارعة على سوريا تسعى، ولو بعد تلاقيها على سياسة الجرح المفتوح، إلى اتفاق ما للأزمة السورية، ربما كان بيان جنيف في 30 حزيران الماضي أقربها كإطار للتسوية السورية، وعلى الأرجح ستكون هذه التسوية من فوق وبمعزل عن هذين الفيلمين المحترقين.
من يراقب أداء «المجلس الوطني السوري» خلال مجرى عام كامل، يلاحظ أنّ حصيلة أعماله تساوي صفراً كبيراً على الشمال، بالقياس إلى الأجندات التي وضعها لنفسه. ويبدو أنّ اتجاه «الإخوان المسلمون» إلى تأسيس تجمّع يجمع القوى الإسلامية السورية تحت اسم «التجمع السوري للإصلاح»، الذي أعلن عن قيامه بالقاهرة في أواخر أيلول 2012، ناتج من استشعارهم بأنّ المجلس هو مركب على وشك الغرق يجب الاستعداد للقفز
منه.
* كاتب سوري