يجزم كثيرون بأن المناخات المتلبّدة أبداً في سماء لبنان ستؤدي حتماً الى فتنة كبيرة، في مرحلة من المراحل. ويجزم بعض هؤلاء، استناداً الى ذلك، بأنّ الانتخابات النيابية لن تجرى في موعدها المقرر في أوائل الصيف المقبل. بعض هؤلاء يكرر «شبه معلومات» مفادها بأنّ ثمة تصميماً أكيداً لدى كل طرف من طرفَي النزاع على «قلب الطاولة» إذا لم تأتِ نتائج الانتخابات لمصلحته، ما يعني أنّ الانتخابات نفسها قد تكون محطة التفجير المقبل، أي الفتنة المشار إليها.من هذا المنطلق، يعتقد بعض هؤلاء أنّ الصراع على مشروع قانون الانتخابات إنما هو لعب في الوقت الضائع، أو هو، في جانب آخر منه، تأكيد لحجم الانقسام، المرشح بدوره للدخول في مسار خطير يبلغ حدود العنف والاحتراب.
ويتخذ مثل هذا التقدير من تصاعد الموت والدمار في سوريا، ومن انسداد أفق الحلول السياسية لأزمتها، حجّة دائمة ودامغة لتأكيد المخاوف بشأن الوضع اللبناني.
طبعاً، ينطوي مثل هذا التحليل على الكثير من العناصر الصحيحة. فالمتضررون من استمرار الأزمة السورية، أو أصحاب المصلحة في إدامتها، قد يلجأون الى توسيع رقعة العنف: والأقربون أولى بالمعروف! بكلام آخر، فإنّ النار السورية قد تمتد الى غير ساحة مجاورة، ولنا في التوترات التركية ـــ السورية، مثلاً، ما يكفينا ضرورة التفتيش عن دليل آخر، نظراً إلى ما بلغته تلك التوترات من مستويات خطيرة وشاملة.
لا يستطيع أحد أن ينفي الاحتمال المذكور. لكن هذا الاحتمال ليس بالضرورة حتمياً. ثم إن خطة استنزاف سوريا وعبرها ومعها إيران، المرشحة بدورها لحفلة ما، ربما في محطتها الانتخابية الرئاسية أو التشريعية، هذه الخطة، مستمرة، وهي تتطلب التركيز على الوضع السوري دون سواه: إمعاناً في إضعاف سوريا وفي تعطيل دورها الإقليمي، على المديَين المتوسط والبعيد، وحتى لو لم يتغيّر النظام القائم فيها، ما يستعيد رغم اختلاف الظرف، معادلة الشاعر أحمد فؤاد نجم حين قال، بعد معاهدة كامب ديفيد في 1978: «يا خوفي من يوم النصر، ترجع سينا وتروح مصر»!
ثم إنّ حصول عنف كبير في لبنان هو بالضرورة ثمرة فتنة تتوسل الرداء المذهبي خصوصاً، ليس السبب الوحيد للحيلولة دون القدرة على تنفيذ استحقاق بحجم الانتخابات النيابية. فمن دون هذا العنف (ولو أنّ شيئاً منه قائم حالياً وفي غير منطقة)، قد يعجز الطاقم السياسي الموزع زئبقياً(!)، ما بين الموالاة والمعارضة، عن إنجاز الاستحقاق النيابي في أوائل الصيف المقبل. إنه الخلل العميق والتقليدي الذي يسم النظام السياسي اللبناني، حيث تترسخ، أكثر فأكثر، عملية الانقسام الداخلي من جهة، وعملية الارتهان للخارج، من جهة ثانية.
نعم، تشير أسباب تزداد كل يوم إلى أنّ «المظلة العربية» لن تتوفر قريباً. منذ «الطائف» في 1989، على الأقل، كانت هذه «المظلة»، ذات الأبعاد الدولية دائماً، حاضرة لتدارك العجز اللبناني ولتطريز المعادلات وضبط الانقسامات وتوليد التسويات. الصراع الحاد الذي تنخرط فيه المحاور العربية والإقليمية الراهنة، غير مرشح، في المدى القريب، سوى لتأجيج الانقسام بن طرفَي الثامن والرابع عشر من آذار. ونُذكِّر هنا بأنّ النظام اللبناني لا يملك الآليات اللازمة لاحتواء النزاعات الداخلية. وفيما تشكل الانتخابات في البلدان التي تأخذ بمبدأ الاقتراع الحر (نسبياً) وتداول السلطة، محطة لحسم الخلافات وتشكيل السلطة الجديدة، يؤدي الانقسام الدائم بين القوى الرئيسية اللبنانية الى إطاحة الانتخابات خصوصاً والمؤسسات عموماً، ما لم تكن النتائج مطبوخة سلفاً! هذا ما استشعره عن بعد المغتربون، ما جعلهم غير مكترثين حتى الآن، بإجراءات المشاركة في الانتخابات!
في امتداد هذا الواقع الشاذ، يمكن القول بـ«راحة» كاملة(!) إنّ لجنة قانون الانتخابات لن تتوصل الى اقتراح موحد. وستكون مهمة الرئيس نبيه بري شديدة الصعوبة، هذه المرة، بعدما سقطت «مفخرته» الشهيرة أي الـ«سين سين» في حمأة صراع ضارّ بين دمشق والرياض.
التوازنات بشأن صيغ القانون العتيد معقدة ومعطّلة. والبحث والتجاذب، من هنا أو هناك، لا يتوخى صحة التمثيل، ولا هو أساساً يأخذ في الاعتبار المصلحة الوطنية في إنجاز الاستحقاق وفي تدارك المخاطر وفي قطع الطريق على الفتنة... لا يعني ذلك تماثلاً في مواقف الأطراف من المسائل السياسية المطروحة. وهو لا يعني حتى أنّ الصيغ المتداولة بشأن طبيعة المشروع والدوائر على سوية واحدة من التخلف والسوء.
إن ازدياد الانقسام الداخلي وتفاقم الاستقطاب الخارجي هما وجها المشكلة الوطنية الكبرى التي تهدد الاستقرار والاستقلال اللبناني، في الوقت نفسه. من هنا، يجب أن ينطلق البحث. وعلى هذه المسألة، ينبغي تسليط كل الأضواء الكاشفة لهذا الخلل الذي يتسابق طرفا النزاع، ولو لأسباب مختلفة ومهمة في أحيان كثيرة، على مفاقمته ودفعه الى حدود مخاطره القصوى. ويستدعي ذلك استنفار ما أمكن من الجهود والمبادرات من أجل منع انزلاق الأحداث الى تدهور تتعذر السيطرة عليه. ويمكن أن تلعب رئاسة الجمهورية، في هذا المجال، دوراً إيجابياً لا يستغنى عنه ولا يمكن استبداله. ولعل مفهوم الحوار وطاولة الحوار هو ما يجب النظر فيه والانطلاق منه لتوفير الحد الضروري من مستلزمات التواصل، ومن ثم توليد ما أمكن من التفاهمات المانعة للتصعيد والمفرملة للاندفاعات الناجمة عن فئويات داخلية، أو عن رغبات خارجية أو عن كليهما. إنّ موقع الرئاسة يجب أن يتصرف استناداً الى حاجات البلاد المصيرية، لا إلى موازين القوى ومتغيّراتها.
إنّها ظروف جديدة ومصيرية تلك التي نمر بها. ولذلك، يجب أن يكون الجهد الشعبي حاضراً أيضاً. نعني، تحديداً، دور القوى التي لا تنظر الى مصالح البلاد بعين فئوية أو بمنظار خارجي. هذه القوى مدعوّة الى ممارسة دور مبادر يستنفر الإحساس بالخطر ويقترح عناوين وبرامج للضغط على قوى الانقسام، ولبناء المشتركات الضرورية في ما بينها.
إنّها مهمة وطنية إنقاذية، إذاً، وهي بالضرورة خطوة على طريق تغيير النظام السياسي اللبناني!
* كاتب وسياسي لبناني