زيارة أحمد دواود أوغلو لليمن ليست مجرد زيارة أخوية. رجل المؤامرات التركية في صنعاء لتوجيه رسائل كثيرة للجميع... إلا لليمنيين، لأن اليمن ليس هدف الزيارة، بل وجهتها. فمن صنعاء، يعلن وزير الخارجية التركي أن النموذج اليمني لن ينفع لسوريا، بعدما رفضت دمشق هذا الحل. ومن صنعاء، يرسل رسالة يفهمها الإيراني جيداً، أي منافسه الإقليمي، الذي فشل في محاباة اليمن. فاليمن ينفر من إيران ويرحّب بتركيا، فقط لأن التركي سياسته أذكى وألطف. في العمق، لا فروق جوهرية بين الاثنين، لكن داوود أوغلو في اليمن وهذا أمر يحتاج إلى معرفة السبب الحقيقي. باصطحابه رجال أعمال أتراك ووعود بالاستثمار، في بلد فقير منهك، بعد رفض اليمن استثماراً إيرانياً، يجرّ اليمن الى ساحة الصراع التركي ـــ الإيراني، وهو في غنى عن الدخول في حلبة جديدة للنزاع الإقليمي، نزاع اقتصادي بين دولتين كبريين هما إيران وتركيا. ولا يمكنك «عزيزي القارئ» الجزم بأنهما دولتان عدوتان، لأن مصالحهما قد تحتم عليهما الالتقاء في نقطة ما، ويبقى عامل الالتقاء بينهما، أو قل عودة العلاقات القديمة، أقرب من عامل الالتقاء العربي _ التركي، أو العربي _ الإيراني، أو حتى العربي _ العربي.

سوريا الآن حلبة لصراع دولي، ومعنى هذا أن دمها فرّق بين القبائل. ويبدو أن تركيا تورطت فعلياً هناك، وخاصة مع وجود معارضة تركية للتدخل أو الدخول في حرب في سوريا. وهذا يعني أن إيران حتى الآن لا تزال مسيطرة على سوريا، فكيف ترد تركيا الصفعة الإيرانية، وهي تعلم أهمية اليمن وموقعه بالنسبة إلى منفذ النفط ومضيق هرمز.
لذا يتعمّد داوود أوغلو الظهور في صنعاء مع النصب التذكاري التركي. النصب الذي تعدّ له تركيا منذ ثلاث سنوات تقريباً، أي من عام 2009، وتعمد الأتراك السفر الى صنعاء القديمة، حيث استقر كثير من الأتراك القدامى. إنه تذكير غير مباشر لليمنيين بأن الأتراك مروا من هنا، أو أنهم لا يزالون هنا.
عموماً، داوود أوغلو هو ثعلب السياسة التركية، وهو لا يقوم بأي عمل لأهدافه المعلنة، ويعرف تماماً أن تركيا بلد كبير وعريق، ولن يتنازل عن مكانته، لأن هذا يعني نهايته، فتركيا ليست شرقية ولا غربية، ولهذا أصبحت معزولة عربياً، ومرفوضة أوروبياً، بعد فشلها في دخول السوق الأوروبية.
من يومها، أضحت السوق العربية أو العمق العربي هو الحل البديل. إنها العودة إلى الحل القديم، فلم تكن تركيا الإمبراطورية العظيمة إلا حين كانت في العالم العربي.
من حق التركي الحلم بالتوسع، لكن المقابل الذي سيدفعه اليمن لهذا الحلم لن يكون عادياً؛ فاليمن دائماً عبر تاريخه دفع فاتورة الأحلام التركية، بمعنى أن اليمن لم ينل حظاً من التقدم التركي في فترة الحكم العثماني. كان حظه من الحضارة والإعمار متواضعاً وليس كما كان في مصر والشام.
لقد أهمل اليمن باعتباره من أطراف الإمبراطورية، وتم الاهتمام به عسكرياً لكونه حدودها الجنوبية. كان الجيش العثماني مهتماً فقط بتأمين باب المندب، لكن اليمن أخذ حظه من التخلف ذاته في فترة الحكم الإسلامي المنغلق، وبرغم أن تركيا صاحبة تجربة الحكم الإسلامي، إلا أنها تعود الآن بحلّة علمانية، لأنها جمهورية «أتاتورك» وليست إمبراطورية «عثمان باشا».
لا ينسى الأتراك تاريخهم، ولعلهم يرون أن هذه أصلاً أرضهم، وإلى وقت قريب كان هناك خوف عربي من هذه الفكرة؛ فقبل عقد من الزمن فقط كانت المناهج العربية تحرّض التلاميذ على الحكم العثماني وتسميه احتلالاً، وتنتقده وتجده سبب الظلام الذي عاشه العالم العربي، بل وتعزو له ضياع فلسطين.
لكن تركيا لن تضيع مجدها، الثعلب التركي يتفقّد بقايا أجداده الأتراك، كيف تنفصل تركيا عن الإمبراطورية العثمانية وإن كانت فعلاً قد انفصلت، لماذا عادت لتخلد اسمها في صنعاء، سؤال لم يسأله اليمن للضيف التركي.
الخليج تآمر على العثمانيين، فعاد إليهم الأتراك. كيف ينسى الأتراك كيف خرجوا من اليمن والشام؟ الغزل التركي لليمن لا يعني مطلقاً أن هناك رضىً خليجياً عنه؛ فاليمن هو عمق الخليج، وامتداد المحيط الخليجي، والمنفذ المائي الأهم للمنطقة.
وفي اليمن، تركيا لم تكن طرفاً في التسوية السياسية. تم إخراجها من الحسبة، في مقابل منح حصة أكبر للولايات المتحدة وأوروبا.
التاريخ القريب لتركيا يتحدث عن أهمية الجزيرة العربية للسيطرة على مصر والشام؛ فبعدهم عن الجزيرة العربية وبلاد الشام أضعفهم أمام أوروبا، والعكس صحيح، ولولا ضعف الدولة العثمانية في الجزيرة العربية وبلاد الشام، لما كان هناك إمارات خليجية.
هناك تقارب في المشهد، فمع انهيار الدولة العثمانية كان الخليج يولد، وليضمن وجوده تحالف مع الاستخبارات البريطانية، التي كانت ترسم المنطقة، وتنشئ دولة لليهود في فلسطين. وللنيل من الرجل المريض وقتها، تراخى العرب فبدا أنهم ضد الأتراك، في مقابل نشوء الممالك الجديدة في الجزيرة العربية. لكن يبدو أن الرجل المريض تعافى، ولم يمت، كما كان يظن الخليجيون، وربما عاد لينتقم.
الخليجيون مقتوا بشدة، خلال العقود الأخيرة، الحكم العثماني للعالم العربي ونعتوه بالاحتلال، واليوم يصافحونه ويفتخرون بتجربته في الحكم الإسلامي. مفارقة ليست صدفة، فالحرب خدعة... لكن ربما يتغير موقع الخادع والمخدوع هذه المرة.
بالتأكيد إيران ليست مسرورة وهي ترى اليمن يذهب إلى تركيا. لكنْ ثمة جار قريب لليمن، لن يكون أفضل حالاً من إيران، وإن لم يقلق الآن.
علاقة السعودية بتركيا هي علاقة سياسية نموذجية: «علاقة المصالح». والمصالح لن تحتّم على تركيا الاحتفاظ بقوة السعودية في الشام ومصر واليمن.
واليمن حتى الآن، بحسب المبادرة، هو سعودي _ أميركي _ بريطاني _ فرنسي، لذا من حق تركيا أن تبحث عن موطئ قدم في الشرق الأوسط الجديد الذي يتشكل الآن، وهي لا تضمن نهاية جيدة لسوريا كما تريد. فقد تذهب سوريا باتجاه تسوية تستثني الأتراك.
وجد الأتراك في اليمن، بالأموال التي سيدفعونها، سيضغطون سياسياً، وسيشكل لهم اليمن إحدى أوراق اللعبة التي يمكن استخدامها، ليمكنهم الضغط على السعودية المشرفة على اليمن، لتضعهم في البال وهي ترسم سوريا الجديدة، حتى لا تخرج تركيا من الخريطة.
تركيا، بتقاربها العربي، تريد إثبات إنها صاحبة تأثير في المحيط العربي والشرق الأوسط. تثبت هذا للولايات المتحدة التي تعتمد على قطر والسعودية. ها هي الشعوب العربية تحتفي بالقادة الأتراك، وتتأثر بالثقافة التركية وراضية عن سياسة رجب طيب أردوغان.
وعليه، إن أرادت أميركا وبريطانيا أي وجود في العالم العربي، فعليها أن لا تغضب تركيا ذات الابتسامة الساحرة.
الابتسامة التركية تعبر عن سياسة شديدة الدهاء والعداء. المسلسلات والمنح وإلغاء تأشيرات السفر، والعروض المغرية لم تكن مجرد سياسة لتنشيط السياحة، بل كانت سياحة لتنشيط السياسة، سياسة الدولة الكبيرة التي ترسخ ثقافتها في الحكم. الحكم ذو الخلطة التي ترضي جميع الأطراف، إسلامي _ علماني _ رأسمالي _ فيه من الفن والفكر والأدب ما يمكنه التأثير على الجميع. قبل عقد فقط، لم تكن تركيا حاضرة بهذه القوة. لقد نجحت في فكفكة حكمها العسكري. تحررت من بعض قيودها وأصبح للساسة كلمة فيها، بعدما كانت مؤسسة الجيش هي الحاكم. مع ذلك، فإن الجيش التركي ليس مجرد جيش للعروض العسكرية، إنه واحد من أقوى جيوش المنطقة، لكنه جيش غير مقلق للأميركيين ولا لإسرائيل ولا للخليج المرعوب من إيران النووية. ليس لأنه صاحب المناورات المشتركة مع إسرائيل، ولكن لأن الأطماع التوسعية التركية ليست أطماعاً عسكرية، هي أطماع سياسية _ ثقافية _ اقتصادية. من هنا، نجح الساسة الأتراك في خلخلة النظام العسكري في تركيا، أو تحييده، فليس الآن وقته. تركيا لا تخيف أحداً الآن إلا محور الممانعة «سوريا وحزب الله وإيران»، إذاً، أين هو موقع اليمن؟
اليمن ليس في هذا المحور أو ذاك، والرعاية الملكية _ السعودية، والديموقراطية _ الأميركية، هي سيطرة أكثر منها تحالفاً، لسبب بسيط أنه ليس بإمكان أحد أن يضمن بلداً لم يتشكل نظامه بعد، ولا يوجد فيه رأي سياسي واحد، وأصبح فيه محور طرفاً يدافع عنه في الداخل وهو أمر جديد على اليمن.
لذا، يحاول الكل تشكيل نظام يناسبه. لاحظ أن تركيا، بزيارة داوود أوغلو، قد تتعدى على الرعاة الخليجيين. هي لا تدخل اليمن من الباب الخلفي، لكنها تستطيع فعلاً أن تقلب المعادلة السعودية، وخاصة في وجود سخط شعبي من التدخل السعودي.
المملكة القريبة لن تقلق من أنقرة الآن، لكن تركيا تقلق من بقائها معزولة، كما تقلق من إيران، في حال قدرتها على السيطرة على مجريات الأمور في سوريا ولبنان. لكن خطر تركيا قد يكون أكبر على الخليج والسعودية خصوصاً؛ فقوة العثماني الجديد تعني ضعف الخليج، ووجوده في الشام واليمن يعني أن يتخلى الغرب عن حليفه الخليجي، وقد يتخلص منه إن استمر كعائق. فتكون نهاية الخليج مع بداية النفوذ التركي الجديد.
القلق التركي يستحق أن يكون أكبر، فوراء الابتسامة الساحرة... يكمن خازوق تركي أصيل.
* صحافية يمنية