يحمل التاسع والعشرون من تشرين الأول/أكتوبر الحالي الذكرى الأهم في تاريخ تركيا الحديث. في ذلك اليوم قبل نحو تسعين عاماً، أُعلن عن قيام جمهورية علمانية على أسس عصريّة حديثة. تولّى الرئاسة الأب المؤسس مصطفى كمال (أتاتورك)، الذي نجح في الحفاظ على تركيا موحدة ومستقلة رغم هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وتقسيمها على يد الحلفاء. في لحظة انتصاره الكاريزميّة تلك، قاد أتاتورك الانعطافة الحاسمة لتركيا نحو الغرب، بعدما كانت عنوان الشرق الأبرز على امتداد أربعة قرون خلت، هي عمر الإمبراطورية العثمانية وخلافتها الإسلاميّة. مضت تركيا في سياساتها غرباً. شاركت في الحرب الكورية إلى جانب الولايات المتحدة، وانضمت إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسمحت بإقامة قواعد عسكريّة استراتيجية له على أراضيها، فكانت خطّ الدفاع الأول في مواجهة المعسكر السوفياتي طيلة سنوات الحرب الباردة، وصولاً إلى المشاركة في الحلف، الذي قادته الولايات المتحدة لتحرير الكويت بعد غزو العراق له في 1990. ولعلّ سعي الحكومات التركيّة المتعاقبة إلى نيل عضويّة الاتحاد الأوروبي يمثّل ذروة ما تصبو إليه سياسة الأتراك الغربية. ذروةٌ لم تتمكّن بعد من بلوغها.
لم تكن «الهويّة الإسلاميّة» للمجتمع التركي وحدها السبب في تعثّر انضمام تركيا إلى الاتّحاد الأوروبي، «النادي المسيحي» بحسب وصف الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ــ ديستان، فثمّة في تركيا من القضايا العالقة ما يكفي لتبرير تحفّظات بعض الأوروبيين، ورفض بعضهم الآخر عضوية تركيا الأوروبية. من حقوق الإنسان إلى المسألة الكرديّة، مروراً بتطبيع العلاقة مع أرمينيا، بما يقتضيه ذلك من اعتراف لا تزال ترفضه تركيا بارتكاب الدولة العثمانية جرائم إبادة جماعية بحق الأرمن، ثمّ العلاقات مع قبرص واليونان واقتسام المياه الإقليميّة في بحر إيجة، وليس انتهاءً بالدور الذي يؤديه الجيش «حامي الجمهورية والعلمانية» في الحياة السياسيّة للبلاد، لكنّها سعت باستمرار إلى التعامل مع هذه القضايا بما يجسر الهوّة بينها وبين أوروبّا، لتنجح حكومة (العدالة والتنمية) في 2005 في بدء مفاوضات مباشرة مع المفوضيّة الأوروبّية بخصوص انضمامها إلى الاتّحاد.
على أنّ ما شهدته وتشهده سياسات تركيا وتوجّهاتها من تحوّلات منذ وصول «حزب العدالة والتنميّة» إلى السلطة ونجاحه في الاحتفاظ بها إلى الآن، وبالذات بعد الدور التركي البارز في «الربيع العربي» يجعل من الممكن الحديث عن مقاربات مختلفة لمشهد تركيا الأوروبّي وممكنات تطوره.
التقدّم الاقتصادي الكبير الذي استطاعت حكومة «العدالة والتنمية» تحقيقه خلال العقد المنصرم ــ باتت تركيا تحتل المرتبة الـ17 عالميّاً من حيث النموّ الاقتصادي ــ يمكن اعتباره الورقة الأقوى التي كسب من خلالها أردوغان تأييد الشارع التركي للتغييرات التي أحدثها في سياسة البلاد الداخليّة والخارجية على السواء. فقد استطاع كسر قواعد اللعبة بين الجنرالات «حماة العلمانيّة» والحكومة المدنيّة، كما أعاد رسم توجّهات تركيا وتحالفاتها الإقليميّة والدوليّة عبر الانفتاح على الجوار الإقليمي، وبناء شراكات عالميّة تكسر احتكار الغرب لإمكانات تركيا وخياراتها الاستراتيجيّة.
لم تكن المؤسسة العسكرية، الحارس الأمين للجمهورية الكمالية العلمانية، على وفاق مع أردوغان وحزبه القادمين من خلفية إسلاميّة، لذا سعى منذ توليه السلطة إلى الحدّ من صلاحياتها. تارة بذريعة حماية الديموقراطيّة والاستقرار، وأخرى بحجّة الانسجام مع المعايير المطلوبة لعضويّة الاتّحاد الأوروبي.
كسب أردوغان المعركة بعد الكشف عن محاولات انقلابيّة جرى على أثرها اعتقال عشرات الضبّاط. ردّ رئيس الأركان وعدد من قادة الجيش بتقديم استقالة جماعيّة احتجاجاً على اعتقال زملائهم، فما كان من أردوغان سوى قبول الاستقالات وتعيين الجنرال نجدت أوزال المقرّب منه رئيساً جديداً للأركان. بلغت الأمور أقصاها بسنّ تشريع يجيز محاكمة العسكريين أمام المحاكم المدنيّة، في سابقة هي الأولى منذ تأسيس الجمهوريّة.
التحوّل الأبرز خارجيّاً كان بالتوجّه جنوباً، في خطوة قرأ فيها البعض إدارة الظهر للأوروبيين واستعادة لسيرة «الباب العالي» عبر التغلغل في «الولايات العثمانيّة» السابقة، أو ما سمّي «العثمانية الجديدة». توجّهٌ سرعان ما لقي صداه في العالمين العربي والإسلامي. وانعكس مباشرة على المستويات السياسيّة والاقتصاديّة بعلاقات مميّزة، مهّدت الطريق أمام تنامي دور تركيا الإقليمي اللاحق، الذي كان الربيع العربي بوّابته الأوسع.
لم يعد خافياً احتضان حكومة «حزب العدالة والتنمية» ودعمها لحركات الإسلام السياسي العربيّة، وفي مقدّمتها «الإخوان المسلمون» بأسمائهم الصريحة أو المستعارة، سواء منها التي حملتها موجة الربيع العربي إلى الحكم، كما في مصر وتونس، أو تلك الساعية إلى بلوغه في بلدان أخرى. ليس هذا غريباً بالنظر إلى نسب هذا الحزب، فهو امتداد لحزب الفضيلة المحظور، الذي كان زعيمه نجم الدين أربكان يوصف بأنّه «أحد الأبناء الشرعيين لجماعة الإخوان المسلمين، وممثلهم في تركيا». وإذا كانت أساليبهما مختلفة إلا أنّ جوهر التوجّه الإسلامي واحد.
بالتالي، فإنّ حضور «الإخوان المسلمين»، الجذع الذي تفرّعت منه الحركات الإسلاميّة في العالم أجمع، على مستوى قادة من الصفّ الأول لمؤتمر الحزب الذي عُقد نهاية أيلول/ سبتمبر الفائت، لم يكن من باب المجاملات أو العلاقات العامّة، بل جاء تجسيداً لحقيقة مفادها: أحزاب الإسلام السياسي، التي يمثّل «العدالة والتنمية» أرقى تجربة لها في الحكم حتّى الآن، مهما بلغت من التعايش والتكيّف مع النظام العلماني والآليات الديموقراطية، فإنّها لن تتخلى عن منابع أيديولوجيتها الدينية وارتباطها العضوي بحمَلَتها، رغم ما تنطوي عليه تلك الأيديولوجيا من بذور العنف والاستبداد.
إنّ العرب الذين هلّلوا للأردوغانيّة، سواء من مؤيدي الأنظمة أيام عسلها مع الأتراك، أو من المعارضات التي تدور في فلكها الآن، لم يشغلوا أنفسهم بانتقاد سياسة اضطهاد المعارضين واعتقال الصحافيين والتضييق على حرية الإعلام التي تتّبعها حكومة العدالة والتنمية على نطاق واسع، ولا هم يهتمّون بمطالبتها بالاعتذار والتعويض عن سنوات الاحتلال والإفقار والنهب، التي مارسها العثمانيّون القدامى، أسلاف «العثمانيين الجدد» باسم الخلافة الإسلاميّة!
ووفقاً للمعايير الأردوغانية، فإنّ ما تقوم به حكومته من تسهيل عبور «الجهاديين» من عناصر «القاعدة» وأخواتها للقتال في سوريا لا يندرج في إطار «دعم الإرهاب»، التهمة التي تُستخدم لنزع الحصانة عن النوّاب الأكراد وزجّهم في السجون بسبب مواقفهم السياسيّة، فضلاً عن غيرهم من المثقّفين ونشطاء المجتمع المدني.
بالعودة إلى الموضوع الأوروبّي، كان انضمام تركيا إلى الأسرة الأوروبّية سيؤدّي في حال نجاحه إلى تعزيز قيم الديموقراطية ودولة القانون وحرية المواطن والأقليات، عدا المكاسب الاقتصادية المتمثّلة في تقديم الدعم والمساعدات المالية التي كان من المتوقّع أن تصل قيمتها السنوية إلى 20 مليار يورو، إلى جانب سوق العمل الأوروبيّة التي كانت تعد بفرص لطالما انتظرتها اليد العاملة التركيّة.
ويبدو أنّ طموح عشرات الملايين من الأتراك، وحلمهم بأن يكونوا جزءاً من أوروبّا، يذهبان أدراج الرياح، ذلك أنّ الآليات الديموقراطية التي تطوّرت عبرها العلمانية التركية، والتقدم الاقتصادي الكبير، التي مثّلت معاً مقدمات الدخول في الاتحاد الأوروبي، لن تلغي المعطيات الجديدة التي أوجدتها سياسات أردوغان وحكومته، فأوروبّا لا تريد حرباً على حدودها، ولا هي بحال من الأحوال سعيدة بوجود «الجهاديين» هناك أيضاً.
فهل قايض أردوغان حلم الأتراك الأوروبّي بزعامة «الإسلام السياسي»، وبدور إقليمي يريد له البعض أن يكون قطباً يواجه إيران الصّاعدة بقوّة في لعبة التنافس على النفوذ والمصالح، خلف عنوان «الصراع السنّي الشيعي»، أم أنّه يسعى عبر ذلك إلى تحقيق مكاسب سياسيّة واقتصاديّة أقل كلفة من تلك التي سيحتاج إلى دفعها على طريق أوروبّا؟
مع ذلك لم يغلق أردوغان الباب نهائيّاً في وجه الأوروبيين، يمكن استنتاج ذلك من تصريحات أدلى بها عند زيارته مصر، حين تحدّث عن الدولة العلمانيّة، وأنّ «على الشعب المصري ألا يكون قلقاً من العلمانية، لأنّ الدولة العلمانية ليست مقابلاً للّادينية». أجل قال أردوغان ذلك. إنّهم الإسلاميّون، ومن أبرع منهم في القفز على الحبال، وعلى الثورات والشعوب!
* كاتب سوري