حتى 2003، كانت عمان تستند إلى بغداد. صحيح أن العلاقات الثنائية التي كانت وطيدة للغاية حتى أواسط التسعينيات، شابها جفاء ظاهر، وواجهتها مطبّات، لكنها صمدت في العمق، وظل العراق الداعم الرئيسي للأردن، بينما ظل الأردن رئة العراق المحاصَر. المفارقة أن العراق المحتَلّ من قبل الولايات المتحدة ـــ المعتبرة الحليف الأساسي للمملكة ـــ قطعت الحبل الموصول بين البلدين. ولا يزال، للأسف، مقطوعاً، لأن العاصمتين المشرقيتين الأقرب إلى بعضهما بعضاً تاريخياً، عجزتا عن اكتشاف صيغة لتنظيم الخلافات واستعادة العلاقات التي كان الرئيس صدام حسين والملك حسين، قد اكتشفا ضرورتها الجيوسياسية للبلدين.
وحتى ربيع 2011، كانت سوريا، رغم الفتور الظاهر في العلاقات الثنائية، تشكّل سنداً استراتيجياً للأردن، سواء في مواجهة الضغوط الإسرائيلية أو في مواجهة الضغوط الخليجية أو الفلسطينية. قوّة سوريا الإقليمية في ذاتها، والسياسات السورية نفسها، كانتا تمنحان عمان القدرة على المناورة، بالتنسيق أحياناً، ومن دون تنسيق في معظم الأحيان. وعلى المستوى الاقتصادي، فإن أحداً لم يكن يستطيع أن يقدم إحصاءات تستوعب التداخل والتبادل بين البلدين. وسوريا، منذ 18 شهراً، في أزمة متفاقمة حطت، بثقلها وظلالها، على المشهد الأردني، وأربكته ووضعته على حافّة هوّة عميقة من المخاطر السياسية والأمنية، مترافقة مع الانكماش الاقتصادي وتفاقم أزمة المالية العامة. عُوقِبَ الأردن، سعودياً، على منحه الأولوية لمصالحه الوطنية في الشأن السوري، على الضد من المصالح الخليجية.
وكان الأردن عضواً في محور الاعتدال بقيادة مصر. وكان يوضّب سياساته الخارجية على هدي الإيقاع المصري، وينسق مع القاهرة، ويحتمي بها أحياناً، ويختلف معها أحياناً أخرى، لكنه ظل يدور في فلكها من دون أن يقطع، في العمق، مع السوريين. ونشأت بين الدولتين، في إطار علاقاتهما السياسية، شبكة من المصالح المتبادلة، أكثرها أهمية، بالنسبة للأردن، الحصول على مصدر طاقة رخيص، نسبياً، لإنتاج الكهرباء، عبر الخط الذي يخترق سيناء، ويزوّد إسرائيل أيضاً، بالغاز المصري.
مصر الإخوانية لا تزال ملتزمة باتفاق توريد الغاز إلى إسرائيل، لكنها أطاحت، من جانب واحد، اتفاقها المماثل مع الأردن، ما حمّل الخزينة الأردنية، شبه المفلسة أصلاً، عبء التحوّل، في إنتاج الطاقة الكهربائية، من الغاز إلى الوقود النفطي. وهو ما سجّل ويسجل فروقات بمئات ملايين الدولارات، ويهدد بوقف الدعم الحكومي المعتاد للكهرباء. وبذلك، ستتضاعف كلفة الطاقة الكهربائية على الاقتصاد الأردني الضعيف النموّ، وسيواجه المواطنون أعباء معيشية جديدة أسوأ، وربما غير مسبوقة، نتيجة ارتفاع استثنائي في أسعار السلع والخدمات. وبالنتيجة، فإن استقرار الأردن سيكون مهدداً بانتفاضة شعبية تخرج عن إطار الحراك السلمي وتسمح للإخوان المسلمين بالسيطرة على آليات الفوضى.
أهذا ما يريده إخوان مصر؟ وهل يتم التخفيض المتتالي في كميات الغاز المرسلة إلى الأردن، بالتنسيق مع نظرائهم في عمان؟ لقد عرض إخوان الأردن، بالفعل، التوسّط لدى القاهرة، لكن من الواضح أنهم يريدون ثمناً سياسياً محلياً لقاء وساطة تظهر حجم نفوذهم الإقليمي.
يتفهّم الجانب الأردني الخطط المصرية القائمة على أولوية الاستهلاك الداخلي للغاز، لكنه يحتجّ على عدم الالتزام بالاتفاق الموقّع حتى انقضاء أجله، وعلى تخفيض الكميات والتلاعب في توريدها. وهي تبدو إجراءات ذات مضمون سياسي صريح، ولا تأخذ بالاعتبار الالتزامات أو حتى فترة السماح اللازمة لاتخاذ الترتيبات المناسبة، وخصوصاً أن القاهرة تعامل تل أبيب بروح إيجابية، وبمنتهى الحرص على تنفيذ توريد كميات الغاز المتفق عليها.
إسرائيل، بطبيعة الحال، محمية بمعاهدة كامب ديفيد، وبالرعاية الدؤوب للحليف الأميركي، بينما يقف الأردن وحيداً.
يقيم في الأردن مئات الآلاف من العمال المصريين. وسيتأثر هؤلاء، كسواهم من المواطنين، بإزالة الدعم عن السلع والخدمات وارتفاع أسعارها. وهو وضع سيضطر الكثيرين منهم، تلقائياً، للعودة إلى مصر. لكن، ليس مستبعداً أن تتخذ الحكومة الأردنية إجراءات إدارية ومالية للحد من العمالة المصرية، وخصوصاً أنه يمكن تعويضها، اليوم، بعمالة سورية. كذلك، يمكن وقف التسهيلات الممنوحة للواردات المصرية إلى البلاد، وخفض السياحة الأردنية ـــ الكثيفة ـــ إلى مصر، والتغاضي عن التنسيق المعهود بين البلدين في مجالات دبلوماسية وسياسية وأمنية.
تنظر مصر الإخوانية إلى الأردن نظرة معادية. هذا ما يستنتجه المعنيون الأردنيون بالعلاقات الثنائية معها. ويبدو أن عمان فقدت، في النهاية، صبرها. ففي نهاية تشرين الأول الماضي، بدأت اليوميتان المحسوبتان على الإعلام الرسمي، «الرأي» و«الدستور»، حملة صريحة ضد القاهرة التي تراوغ في تزويد البلاد بالغاز. وستكون هذه افتتاحية تعني أن الهجوم على مصر الإخوانية سيكون حراً من الآن وصاعداً على المستويات السياسية والإعلامية المقربة من الحكم، بينما لم يتوقف الإعلام المستقل والسياسيون من الاتجاهات القومية واليسارية والوطنية، منذ تولّي محمد مرسي الرئاسة المصرية عن نقده ومهاجمته، وخصوصاً جراء مواقفه في الشأنين الفلسطيني والسوري. لكن مهاجمة المملكة السعودية ظلت ممنوعة على العموم. وفي العادة، يحذف الكتاب ورؤساء التحرير اسم السعودية في موضع الذم، ويستعاض عنها بـ«الخليج». وفي المواقف، يبدي المسؤولون الأردنيون حرصهم الشديد على مديح السعودية، حتى في أسوأ لحظات الخصام.
لكن يومية «الدستور» شبه الرسمية فاجأتنا بتحليل موسع كتبه «المحرر السياسي»، محتشد بالتهديدات الضمنية الموجهة للسعوديين الذين أوقفوا مساعداتهم المالية المعتادة للأردن، في مسعى للضغط على قراره نحو التدخّل في سوريا. المهم، في التحليل «الجريء»، أنه يطرح، لأول مرة، معادلة تبادل المنافع بين البلدين. فالمساعدات السعودية لعمان لا تقع في باب الهبات، وإنما في باب تمويل الخدمات المختلفة، وخصوصاً الأمنية، التي يقدمها الأردن للسعودية.
تمتاز الحدود الأردنية ـــ السعودية بأنها صحراوية الطابع، غير محددة الملامح، وطويلة، ومتداخلة مع جناح سوري وآخر عراقي. ولو كانت حماية هذه الحدود من تهريب المخدرات والسلاح والمسلحين والبدو والعمالة الوافدة والهجرة غير الشرعية الخ، في عهدة الأمن السعودي، لتحمّلت الرياض عشرات المليارات من التكاليف والخسائر. لكن الجانب الأردني يتخذ، ولا يزال، إجراءات أمنية فعالة ويعقد ترتيبات سياسية محلية، ما يجعل الحدود السعودية آمنة ومستقرة ومضبوطة.
لن يتضرر الأردن، اقتصادياً، من تسيّب حدوده مع السعودية. بالعكس، سوف يفتح متنفساً لعشائر البادية لإنشاء مناطق اقتصادية حدودية مزدهرة تخفض الضغوط الداخلية. يشير «المحرر السياسي» إلى كلفة أمن الحدود والتنسيق ضد الإرهاب المتجه صوب السعودية، ولكنه لا يذكر، بوضوح، الكلفة الاقتصادية والاجتماعية للقوى العسكرية الأردنية التي يعتمد عليها السعوديون في المهمات الصعبة، بالنظر إلى تدني كفاءة العسكر والأمن في السعودية.
يستطيع الأردن والعراق أن يُغلقا التواصل البري السعودي معهما ومع سوريا ولبنان وتركيا الخ، ويستطيع الأردنيون ممارسة ضغوط متنوّعة في موسم الحج. ويدرس حوالى عشرين ألف طالب سعودي في الجامعات الأردنية ذات المستوى الجيد نسبياً والقليلة الكلفة حتماً. وبالخلاصة، فإن السعودية تفيد من جوارها الأردني على عدة مستويات، أهمها المستوى الأمني بمعناه الشامل. بالمقابل، يعمل العديد من الأردنيين في السعودية أو يديرون أعمالاً خاصة بهم فيها. وتعد السعودية، بذلك، مصدراً رئيسياً للحوالات الواردة إلى العديد من الأسر، ويحرّك جزء منها السوق المحلية.
القطيعة بين البلدين ضارة بهما معاً، ولكن جاء الوقت لكي يقول الأردني: لا نطلب هبات، ولا يمكن القبول بمعادلة المساعدات مقابل السياسات عندما يتعلق الأمر بالأمن الوطني للدولة الأردنية ومصالحها الاستراتيجية. ذلك أنه يوجد، كما يلاحظ سياسي أردني بارز، فارق نوعي بين إرسال وحدات عسكرية أو دركية للمساعدة في السعودية أو البحرين، وبين التدخّل العسكري أو الأمني في سوريا. في الحالة الثانية، سيكون الأردن أمام استحقاق يتعلق بأمنه الخاص واستقراره وإجماعه الوطني، بل ربما يتعلق بوجوده. ولم تفهم الرياض أو تتفهّم ذلك الفارق، وأحجمت، رغم كل المساعي، عن توفير الحد الأدنى من الأموال لإسعاف الخزينة الأردنية الفارغة.
وجاءت اللحظة التي وجدت عمان فيها أن حيادها المرتبك في الشأن السوري هو موقف مجاني، بل أصبح يهدد البلاد بالتغذية الإرهابية الراجعة من سوريا، فانتقل القرار الأردني نحو الحسم، سياسياً، بتبنّي القراءة الروسية للأزمة السورية، والتواصل مع موسكو بهذا الشأن؛ وأمنياً، بفرض طوق أمني حديدي يمنع مرور الأسلحة والمسلحين والداعمين الخ، عبر الحدود الأردنية ـــ السورية، ذهاباً وإياباً.
الأردن وحيدٌ إذاً؛ علاقاته فاترة جداً مع العراق، ومتوترة مع مصر، وعدائية مع قَطر، وعلى شفا الانشقاق مع السعودية، بينما قرر ـــ بسبب مصالحه الوطنية ـــ أن يقترب من خندق سوريا الجريحة. وهو، بذلك، يقطع مع تركيا، من دون أن يربح إيران! فما الذي يعوّقه عن التوصل إلى قرار استبدال التموضع؟
أولاً، التقليد المترسّخ المضادّ لإيران في السياسة الخارجية. يشلّ هذا التقليد، الخيال السياسي والجرأة اللازمة، ويثير المخاوف من المواجهة مع الخليج وإسرائيل،
ثانياً، المخاوف من الفيتو الغربي على مشروع المفاعل النووي العتيد الذي يُنظَر إليه كبديل استراتيجي عن أزمة الطاقة المزمنة في البلاد، يتلافى أثر الفاتورة النفطية البالغ القسوة على الاقتصاد الأردني.
ثالثاً، المخاوف من تردي العلاقة ـــ المضطربة أصلاً ـــ مع الولايات المتحدة الأميركية التي تعدّها عمان حليفها الرئيسي، من دون أن تحظى بالدعم المأمول من هذا الحليف.
لا تنظر واشنطن إلى الأردن في ذاته، وإنما تراه من ثلاث زوايا: إسرائيلية وفلسطينية وأمنية. إنها تسعى للتوفيق، في الآن نفسه، بين (1) المصالح الإسرائيلية في الاستيطان وخفض مؤثرات العبء السكاني عن الاحتلال الإسرائيلي، وهذا ممكن، فقط، في السياق الأردني، (2) ومصالح الفلسطينيين ـــ الأردنيين في تأمين إعادة تركيب البلد على أساس ثنائي الوطنية، (3) وتحقيق هذين الهدفين في إطار أمني مضبوط تكفله الدولة الأردنية.
لكن واشنطن، بإغفالها التناقضات الحادة في هذه التوليفة من السياسات، تتخذ مواقف مضطربة من الشأن الأردني. إن سعيها لتحقيق المصالح الإسرائيلية في تجنيس ما يقرب المليون من أبناء الضفة الغربية بالجنسية الأردنية، من شأنه تفجير البلد والانهيار الأمني، كذلك، فإن ضغوطها المتواصلة لإصلاحات سياسية تمنح الفلسطينيين ـــ الأردنيين، حصصاً أكبر في الدولة في سياق «ديموقراطية بقيادة الإخوان المسلمين»، من شأنها تغيير بنية الدولة الأردنية بما يمسّ قدرتها على ضبط الأمن في الداخل وعلى الحدود.
وعلى هذه الخلفية من التناقضات، تعجز واشنطن عن بلورة نهج صارم في ما يتصل بمشروعها في الأردن؛ تسعى في التجنيس وتتراجع، وتدعم «الإخوان» وتدفعهم إلى معركة فلسطنة الأردن، ثم تتخلى عنهم. وبينما تغضّ النظر عن الضغوط الخليجية على البلد، وربما تشجعها، فإنها تزوّد الجيش الأردني بأسلحة حديثة، وتواصل دعمه، لكنها تتفهّم، في الوقت نفسه، الوضع السياسي والأمني الحساس لعمان، ثم تحرجها بتصريحات توحي وكأن القوات الأميركية والأردنية تستعدّ لغزو سوريا. وذلك، حتى من دون تأمين الدعم المالي اللازم لإدارة وإدامة مخيمات اللاجئين السوريين!
ويتيح الاضطراب الأميركي نحو الأردن، للدولة وقواها الاجتماعية والسياسية، فسحة من الاستقلالية المحمولة، أيضاً، ببيروقراطية ثقيلة ذات تقاليد وارتباطات داخلية معقدة ونزعات وطنية. وهو ما ينعكس في حصار تعيشه السفارة الأميركية بعمان من قبل الأوساط الاجتماعية والسياسية في المحافظات.
بالخلاصة، لا يتمتع الأردن بموقع الحليف لدى الأميركيين، أو يمكننا القول ـــ على الأقلّ ـــ بأن البلد لا يستطيع الاعتماد، استراتيجياً، على الحليف الأميركي. وتدرك بيروقراطية الدولة هذه الحقيقة، وتتعامل، غالباً، مع الأحداث والمستجدات بمقتضاها، بينما يتوهم الحلفاء الجدد لواشنطن من الإخوان المسلمين، بأنهم يستندون إلى اتفاق استراتيجي مع قوة عظمى مصممة على دعم المشروع الإخواني لإعادة تركيب الدولة وتمكينهم من الدوار الرابع (مقر رئاسة الوزراء في عمان).
من جهة الغرب، ليس للأردن، أيضاً، حليف أو صديق. في الأسبوع الماضي، كشف فاروق القدومي عن مداولات إسرائيلية ـــ فلسطينية، في غياب الجانب الأردني، حول صيغة كونفدرالية أو فدرالية بين الضفة الغربية والأردن. والمفارقة أن القدومي ناقش الاقتراح بصورة إيجابية من دون أن يلتفت إلى أن في المعادلة طرفاً ثالثاً، فلم يسأل ما إذا كان الأردنيون سيوافقون أو لا!
تقوم المداولات المعنية على إقرار «واقعي» من قبل «الأطراف» بما يأتي:
ـــ تراجع الاهتمام الإقليمي والدولي بعملية السلام الإسرائيلية ـــ الفلسطينية،
ـــ موت اتفاقيات أوسلو 1993، التي فقدت الإجماع وقوة الدفع وراءها على الجانبين.
ـــ سقوط مشروع الدولة الفلسطينية، سواء بسبب الرفض الإسرائيلي أو بسبب الانفصال بين الضفة وغزة التي تتجه نحو التطور إلى كيان مستقل مرتبط بمصر، ويحظى باعتراف خليجي صريح.
ـــ وهكذا، فإن الحل الواقعي الذي يبقى هو العودة إلى صيغة سياسية معدلة لما قبل حزيران 1967؛ غزة «:مصرية» وضفة «أردنية».
من الواضح أن هناك نوعاً من التوافق على «الحقائق» المستجدة بين قيادات السلطة والمنظمة وبين إجماع إسرائيلي ممكن تحت قيادة تحالف اليمين. وهو توافق يقود إلى كونفدرالية ـــ وفي الحقيقة: فدرالية ـــ بشراكة «السلطة»، فيما يمثل قفزة عن مشروع التوافق الأميركي ـــ الإخواني الحمساوي على صيغة كونفدرالية إسلامية (أردنية ـــ فلسطينية) تنسجم مع روح «الربيع العربي».
«حماس» و«السلطة» تتنازعان على الضفة الغربية، أي، في الحقيقة، على 56 بالمئة منها، مقطعة الأوصال ومحشورة بين الجدار الاستيطاني غرباً، والجدار الأمني في الغور شرقاً.
يقتضي المشروع الحمساوي (1) انسحاباً إسرائيلياً أحادياً من المناطق التي تتخلى عنها إسرائيل من دون اتفاق أو معاهدة سلام، بل في سياق «هدنة» واقعية طويلة المدى، (2) وتولّي حكومة «حمساوية» السلطات في هذه المناطق، (3) وتولّي حكومة إخوانية السلطات في الأردن. وذلك، في إطار رعاية أميركية ودعم قَطري خليجي. لكن إسرائيل ربما تفضّل الآن مشروع «السلطة» الذي (1) يقر الانفصال السياسي عن غزة، (2) ويشرع في مفاوضات تنتهي باتفاقية انسحاب من مناطق الضفة التي يزمع الإسرائيليون التخلي عنها، وتنضم للأردن (3) و هو الذي ـــ وليس «السلطة» ـــ مَن يكفل الأمن فيها.
في المشروعين، يحقق الإسرائيليون أهدافهم الرئيسية، وهي: (1) ضمان الاستيلاء على ما يقرب من نصف الضفة الغربية وضمها لإسرائيل، (2) وضمان استيعاب السكان والمشروع السياسي الفلسطيني في الكونفدرالية أو الفدرالية على حساب الأردن، (3) وضمان الأمن الإسرائيلي.
لم يبد القدّومي اعتراضاً على مشروع الكونفدرالية أو الفدرالية، إذ «لا فرق» عنده! لكنه استدرك بالقول إن هذا الحل يستتبع تنفيذ حق العودة. وحق العودة لا يعني، في الأدب السياسي للعملية السلمية، أكثر من إطار رمزي لعودة محدودة تمثل اعترافاً أدبياً من إسرائيل بمسؤوليتها إزاء آلام اللاجئين الفلسطينيين. غير أن رئيس «السلطة» تنازل، في غضون ساعات من تصريحات القدومي، عن حق العودة، فعلياً أو رمزياً، مكتفياً بحق الزيارة!
كلا طرفَي الصراع في السياسة الفلسطينية في حالة استسلام وتسابق وتنافس على عقد الصفقة التي باتت تلوح ملامحها في الأفق؛ غير أن لكلّ طرف لغته الخاصة في التعاطي مع المعطيات نفسها. ويغرق الطرفان، مرة أخرى، في الأوهام، فيتجاهلان التجربة الطويلة المريرة مع العدوّ الإسرائيلي، سواء في المفاوضات مع رام الله أو في الحصار والحرب مع غزة. إن ما تريده تل أبيب، في النهاية، هو تدمير أي كيانية فلسطينية، في فلسطين أو في خارجها.
ولعل الطرفين لم ينتبها إلى الإيضاحات الإسرائيلية الصريحة حول مشروع الوطن البديل؛ تل أبيب تريد أن يتحوّل الأردن إلى وطن بديل للفلسطينيين، لكنها لا تريده دولة بديلة. والمعروض ليس أكثر من اندماج النخب الفلسطينية في صيغة سياسية «أردنية» هي التي يدور حولها، الآن، محور الصراع الرئيسي في أردن أفلت من قدرة نخبة النظام على عقد الصفقات بشأن مستقبله. عملية اتخاذ القرار الاستراتيجي الأردني تعقدت، في السنوات الأخيرة، وتحوّلت من عملية نخبوية محدودة العناصر، تتم في الكواليس، إلى عملية سياسية واسعة تشارك فيها قوى اجتماعية ومؤسسات وحركات شعبية وصنّاع الرأي العام في الصحافة والجمعيات والأحزاب. وهو مشهد لم تألفه القيادات الفلسطينية بعد التعامل مع معطياته. وهكذا، فإن أي مفاوضات فلسطينية ـــ إسرائيلية مباشرة كما هي الحال بالنسبة لـ«السلطة»، أو عبر الوسيط القَطري، كما هي الحال بالنسبة لـ«حماس»، وتتعلّق بحل مرتبط بالأردن، تمثّل جهداً بلا معنى. إن للشعب الأردني، أيضاً، الحق في تقرير مصيره. ولعله من المؤسف أن يضطر الأردنيون لتذكير القدومي وعباس وخالد مشعل الخ بهذا المبدأ البسيط الذي يشكّل القاعدة الشرعية الأساسية للنضال الفلسطيني كله. تُجمع التعبيرات السياسية والاجتماعية والثقافية الأردنية، منذ وقت طويل، على الرفض البات لتكرار تجربة ضم الضفة الغربية للأردن. وهي تجربة كانت باهظة الكلفة بالنسبة للشعبين الشقيقين. وفي الوقت الذي يقر فيه الخط العام للحركة الوطنية الأردنية بكامل حقوق المواطن الأردني من أصل فلسطيني، فإن حق اللاجئين والنازحين بالعودة إلى ديارهم هو جزء لا يتجزأ من البرنامج النضالي للوطنيين الأردنيين، كما، بطبيعة الحال، للوطنيين الفلسطينيين.
بالخلاصة، فإن الهدف الاستراتيجي لإسرائيل وراء كل مقترحاتها للحلول الجزئية التي تتلهّف عليها النخب السلطوية والإخوانية، هو نقل القضية والناس والصراع من غرب نهر الأردن إلى شرقه. ولعل الرد الوحيد الواقعي على هذا التحدي هو الردّ الغائب حتى الآن، أعني المقاومة.



كيف انتهى الارتباك الأردني بشأن سوريا؟

خلفيات القرار الأردني بالحسم تجاه التعامل مع الرؤية الروسية لحل الأزمة السورية ـــ بما في ذلك مسار دعم التسوية الداخلية ومكافحة الجماعات المسلحة والإرهابية ـــ لا تقف عند الرد على اشتداد الضغوط المصرية والسعودية والقَطرية على البلد ـــ وتحولها من الاقتصاد والمال إلى السياسة ـــ وإنما تكمن، أساساً، بالآتي:
أولاً، ميل موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية لصالح الدولة السورية، وتردي «المعارضة»، شعبياً وسياسياً، وانكشافها عن مجموعات مسلحة معزولة، أصبحت «جبهة النصرة» التابعة لـ«القاعدة»، المجموعة الرئيسية فيها، في مقابل صمود وتماسك الجيش العربي السوري وتحوّله إلى القوة العسكرية ـــ السياسية الرئيسية في البلاد، وترسّخ القناعة لدى النظام الأردني بأن نظيره السوري قد تعدى مرحلة الخطر.
ثانياً، تفكك الحلف المعادي للدولة السورية في طروحات وممارسات متباينة بين الأوروبيين الأقرب إلى التفاهم مع الروس، والأميركيين الحذرين من توطّن القاعدة في سوريا، والحلف الخليجي الأكثر تطرفاً ودموية (السعودية ـــ وتتبعها جماعتا الحريري وجعجع في لبنان ـــ وقطر الداعمة للإخوان المسلمين) ـــ وتركيا المرتبكة الغارقة في مواجهة التفكك السياسي الداخلي والتحدي الكردي.
ثالثاً، بروز مخاطر ما سمّيته، في مقال سابق، «التغذية الإرهابية الراجعة من سوريا» من خلال قرار «القاعدة» بتوسيع نشاطاتها إلى الأردن. وهو ما شهدنا مظاهره في النصف الثاني من شهر تشرين الأول الماضي.
غير أن حَسْم الموقف الأردني من الملف السوري لا يعبر عن انتقال مفاجئ، وإنما يمثل خروجاً من الارتباك كان ذروة لمسار سياسي صراعي معقّد، تابعناه، وهو يتكوّن، في قلب الدولة الأردنية العميقة، في رؤية مشتركة تشكلت، شيئاً فشيئاً، في ما بين البيروقراطية الثقيلة والجيش والأمن والحركة الوطنية والملك. يعني ذلك أن الأردن نجح في امتحان توليف السياسات على مستوى الدولة في شأن جيوسياسي. فهل تكون هذه مقدمة لتوليف نهج وطني على المستوى الجيوستراتيجي بالانتقال إلى سياسات خارجية متوازنة تأخذ بالاعتبار المصلحة الوطنية الأردنية العليا في استعادة العلاقات الثنائية الحميمة مع العراق وتوطيد العلاقات مع دمشق وموسكو وبكين وترتيبها مع إيران وحزب الله؟
لقد أثبت الأردن أنه دولة لا مجرد نظام وجغرافيا، دولة تسلك، في المفاصل، وفقاً لمصالحها الوطنية الاستراتيجية، وليس «كيانا وظيفياً» أو «كياناً عازلاً» كما تقول الأدبيات الاستشراقية الصهيونية المتبناة من قبل بعض المثقفين العرب.
شهراً بعد شهر من تصاعد الأزمة السورية، مورسَتْ ضغوط خارجية جمّة على عمان، لكنها صمدتْ، وفككت شبكة الضغوط؛ سايرتها أحياناً وارتبكت أحياناً، لكنها ظلت تسير في الاتجاه الصحيح: الانتظار والحذر والشك والقلق المسؤول إزاء كل خطوة فيها تورّط، والنقاش المفتوح إلى أن انتهت فترة الغموض، وانقشعت الخطوط المتداخلة في المشهد الإقليمي والدولي، عن السير وراء مصالح الدولة الأردنية في اتجاهها الصحيح مهما كان الثمن. وهو باهظ جداً.
ما الذي يخبئه الغد؟ لا نستطيع أن نجزم. لكن الدولة الأردنية عبرت المرحلة الأولى من امتحان الأزمة السورية بأمان. وسيكون عليها بذل الكثير من الجهود إزاء المخاطر اللاحقة المحدقة على عدة جبهات.
ينبغي الانتباه، هنا، إلى أن تفكيك الضغوط الخارجية للتدخل في سوريا، ترافق مع النجاح في تفكيك نظيرتها وحليفتها المحلية المتمثلة في حركة الإخوان المسلمين. وهو ما أظهره الدعم الجماهيري الواضح لإطلاق عملية سياسية انتخابية ضد المقاطعة الإخوانية. لكنه يظل نجاحاً مهدداً، أولاً، بمساعي القوى القديمة الرجعية والرأسمالية لاحتلال البرلمان وإعادة إنتاج هيئة لا تحظى باعتراف شعبي، وثانياً، بفرض حلول غير اجتماعية لأزمة المالية العامة، ما سيطيح الإجماع الحاصل على الاستقرار.



عن الوقوع في فخ التغريدة

نخوض في عمان صراعاً ـــ بالمعنى الفعلي للكلمة ـــ للدفاع عن حزب الله، ونبذل جهوداً منظّمة لرأب الصدع الحاصل في صورته لدى الرأي العام الأردني. وكان آخر تلك الجهود رسالة تهنئة للأمين العام للحزب، حسن نصر الله، بمناسبة نجاح عملية أيوب، جرى جمع مئات التواقيع عليها، وأحدثت، لدى نشرها، أصداء إيجابية. وفجأة، يتعرّض ما أنجزناه ـــ مع رفاق يساريين وقوميين ـــ لضربة. من أين؟ من «تلفزيون المنار» الذي تبنى تقريراً أعدّه الزملاء في «الأخبار» على أساس تغريدات أطلقها «مجتهد» على التويتر، وشكّل، بسبب افتقاره إلى الصدقية، مناسبة للتعريض بالحزب.
التقرير ليس خاطئاً فحسب، وإنما يدعو إلى السخرية فعلاً؛ ذلك أنه ليس هناك دركي أردني واحد في الكويت، فما بالك بـ 16 ألفاً يشكّلون 80 بالمئة من عديد الدرك الأردني! (فمَن، إذاً، سيقوم بالواجبات الدركية في البلاد؟).
صحيح أن الخزينة الأردنية بحاجة إلى ستة مليارات دولار بصورة عاجلة، لكن الدعم الخليجي مقطوع عن عمان بسبب مواقفها الإيجابية من الدولة السورية والسلبية من حماس ومشروعها الفلسطيني ـــ الأردني. وهو ما اضطر الحكومة الأردنية للاقتراض من صندوق النقد الدولي بشروط قاسية، والشروع في مناقشات لاتخاذ إجراءات اقتصادية موجعة للغاية، وخصوصاً لجهة رفع الدعم عن المشتقات النفطية والكهرباء.
وصحيح، أيضاً، أن النظام الأردني له أسبقيات في تقديم الخدمات الأمنية في المنطقة، ولكن كيف ينسّق اليوم مع الرياض ـــ بشأن دولة ثالثة ـــ في ظل توتر العلاقة الثنائية؟ بل يطاول هذا السؤال حتى الوجود الأردني التقليدي في البحرين نفسها.