يتضح شيئاً فشيئاً، أنّ تقارباً حثيثاً يحدث في أيامنا هذه بين مضمون ومفردات وآليات الخطاب الذي تعتمده المنظومات الدبلوماسية التابعة لأغلب الدول الغربية التي توصف عادة بـ«الديموقراطية العريقة» ونظيراتها في الدول ذات الحكومات الاستبدادية والدdكتاتورية. فإذا كان النوع الأول قد تميّز بشيء، يزيد ونقص حسب المناخ السياسي، من الصراحة والنقدية والتوثيق في طرح القضايا والمعلومات والنأي عن محاولات تضليل الرأي العام وخصوصاً الداخلي، فقد أمسى النوع الثاني، والسائد في الدول الدdكتاتورية الشمولية مزيجاً من التضليل والكذب والتحريف بهدف تزويق المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي تحت شعار «كل شيء على ما يرام سيدي الجنرال!» لتسويقه، من ثمَّ، للمراقب والمشاهد في الداخل والخارج بما يخدم النظام ويديم بقاءه. يبدو أنّ الفروق بين هذين النوعين من الدبلوماسية تتضاءل وتنحسر حتى ليكاد الخطاب الأول يصبح امتداداً للثاني، ولنا في الحادثة التالية خير مثال: في اجتماعه بمراسلي عدد من الصحف العراقية اليومية قبل ايام، حاول السفير الأميركي الجديد في بغداد روبرت بيكروفت أنْ يستعمل سلاحاً كان قد أهمله أسلافه من السفراء وحكام الاحتلال المدنيين، بدءاً ببول بريمر الذي لُقِبَ «بمدمِّر العراق»، ومروراً بمهندس «فرق الموت» في الهندوراس والعراق، جون نيغروبونتي، وليس انتهاءً بسلفه المباشر جيمس جيفري. هذا السلاح هو استعمال وسائل الاتصال الجماهيرية الواسعة التأثير والانتشار كالصحافة اليومية بهدف التواصل والتوصيل.
لقد فشل سفير دولة الاحتلال، ومنذ بداية لقائه، في تقديم نفسه بطريقة صحيحة وملائمة، وفي مخاطبة مجتمع متضرر بشدة من ممارسات دولته التي دمرت هذه البلاد خلال عملية احتلال دموية بشعة وبحجج ومزاعم اتضح لاحقاً أنّها كاذبة وفاسدة جملة وتفصيلاً. فمنذ البداية، لم يكن حديث السفير مواسياً أو اعتذارياً، بل ولم يكن في الحد الأدنى مراعيا أو محترِماً لجراحات وآلام هذا الشعب، إنما قدم نفسه، وبالتالي دولته، كالمتفضل على العراقيين بإنجازات كبرى متحققة وأخرى على الطريق، فيما يعيش هذا الشعب أسوأ فترة في تاريخه منذ سقوط السلطنة العثمانية، وربما منذ ما قبلها بكثير. إذ إنّ التشوهات المرضية تنتشر بين المواليد الجدد بنسب مخيفة بسبب التلوث الإشعاعي الذي خلفه استعمال الأسلحة الأميركية المحرمة دولياً وبخاصة قذائف اليورانيوم المنضَّب والفسفور الأبيض، وحيث البنى التحتية والخدمات البسيطة تذكِّر المراقب بمثيلتها في العصور السحيقة، وحيث فقدان الأمن والرجّات الأمنية المتلاحقة بفعل التفجيرات والعمليات المسلحة الإجرامية، وحيث التأزم الاجتماعي والفساد المالي والإداري الشامل والذي يكاد أن يتحول الى عملية نهب واسعة النطاق ومنظمة للمال العام، وحيث الاستقطاب الطائفي والعرقي على أشده. استقطاب ينذر بالتحول في أية لحظة الى اقتتال دموي أهلى واسع النطاق. حيث كل هذا وسواه يغطي المشهد العراقي، يأتي السفير بيكروفت ليخاطب العراقيين بهذه اللغة المتعجرفة ولكن المرائية في الوقت عينه، والتي لم تخلُ حتى من احتقار الدبلوماسية الأميركية التقليدية للشعوب الأخرى ومنها الشعب العراقي. كنموذج على هذا الاحتقار لنقرأ هذا التعريف للعراق كما ورد في كلامه «أرى مستقبلاً اقتصادياً واعداً جداً للعراق، لأنّ البلد يمتلك النفط والأرض». فالعراق إذاً، بحسب عقلية بيكروفت، ليس إلا أرضاً تحتها نفط، أما ما بقي من عمليات بناء «العراق الجديد» فسيتكفل به السوبرمان الأميركي!
في حديثه نفى السفير وجود قوات أميركية في العراق، وقال إنّ الكلام عن وجود هذه القوات هو «مجرد شائعات»، وأكد أنْ «ليس لبلاده خطط لاستقدام قوات جديدة». وإذا كان من الممكن أنْ نصدق أن الولايات المتحدة لن تستقدم قوات جديدة الى العراق، لئلا تُذَل وتباد كما حدث للقوات التي سبقتها، فإننا لا يمكن إلا أن نعتبر نفي السفير لهذا الوجود المتحقق للقوات الأميركية الكبيرة محض تخريف لأنه لا يصمد أمام دليلين. الأول، هو أنَّ الاتفاقية الأمنية التي يسميها الحكم «اتفاقية انسحاب القوات الأجنبية» نصَّت بوضوح على وجود هذه القوات، وصدرت تصريحات عن الطرفين الموقعين ومن أطراف أخرى تؤكد على أنها لا تقل على خمسة عشر ألف عسكري. الدليل الثاني، هو أنّ السفارة الأميركية في بغداد، المعروفة بكونها أكبر سفارة في العالم، تعتبر حصناً ومعقلاً محروساً بشدة، يمنع الدخول إليه أو الخروج منه إلا بموافقة وتفتيش أميركيين. وقد حاول عدد من النواب العراقيين مناقشة هذا الموضوع حين اختفت عدة دبابات من صفقة دبابات من طراز إبرامز كانت السلطات العراقية قد تسلمتها من نظيرتها الأميركية ولكن دون جدوى. وما تزال تلك الدبابات مختفية حتى الآن بحسب بعض المصادر والبعض يقول إنها ربما تكون أضيفت الى تسليح القوات الضاربة داخل السفارة المحصنة.
ما تبقى من كلام بيكروفت يقطر بهجة وسعادة وتفاؤلاً، على طريقة سفراء الأنظمة الشمولية تماماً، فليس هناك مشاكل بين العراق وأميركا بل هناك «رغبة وفرصة للتعاون والتفاعل في كل المستويات الحكومية، بل حتى مع الشارع العراقي»، وأنّ بلاده «تتعامل مع العراق بمستوى ديموقراطي ودبلوماسي، وعلى الدول الاخرى ألّا تتدخل في الشأن العراقي بغير الوسائل الدبلوماسية وبروح المساعدة»، وأنّه «سعيد بعلاقة الولايات المتحدة مع العراق اليوم».
ولم ينسَ السفير الأميركي المبتهج أصلاً ــ كي لا نقول المبتهج وراثياً ــ أنْ يعبر عن سعادته «بإجراءات تفتيش الطائرات المدنية الإيرانية في العراق معرباً عن أمله باستمرار هذه الاجراءات وعدم التخلي عنها». هذه اللغة «المتفائلة» والمطاطية تذكرنا شئنا أم أبينا بلغة بسفراء ومسؤولي النظام الديكتاتوري السابق حين يلتقون بوسائل الإعلام المحلية والأجنبية ويتفضلون بإبلاغها وهم على وشك التثاؤب لفرط الهدوء والنعاس: كل شيء على ما يرام، وليس ثمة مشكلة من أي نوع، والتقدم متواصل على جميع الصُعُد... فالوطن بخير والمواطن في رخاء وسعادة...
الخ.
تلميح صغير باح به السفير بيكروفت بشأن خروج العراق من البند السابع كشف شيئاً له دلالاته الخاصة، فقد قال السفير إنّ حكومته عملت ومن خلف الستار ــ دون أن يوضح لماذا من تحت الستار وليس من فوقه ــ من أجل تسوية وتقريب العلاقات بين الجارتين العراق والكويت، وسعينا لتطوير علاقتهما وأكد أنّ مكتب دولته في الامم المتحدة يعمل بجد من أجل إخراج العراق من البند السابع وعودته للبند السادس، ولدينا اجتماعات دورية كل ستة أشهر من أجل حل هذه المسألة.
ولكن لماذا بقي العراق تحت طائلة هذا البند طوال عشرة أعوام تقريباً؟ الواقع، هو أنَّ أي جواب لا يصمد أم قوة السؤال المعبر عن الشك في السلوك الأميركي إزاء العراق وبقائه تحت طائلة ووصاية البند السابع. لقد انتهت الحرب منذ عشرة أعوام تقريباً، ورحل الرئيس الأميركي الذي شنها، وانسحب جلُّ القوات المحتلة ولكن العراق لم يخرج حتى الآن من طائلة هذا البند الذي شنت حرب الاحتلال بذريعته. وفي كلِّ مرة يطرح فيها التساؤل عن السرِّ في بقاء العراق تحت وصاية هذا البند يشار إلى الدور الكويتي المعرقل لذلك، وإذا ما علمنا أنّ الحكومتين الكويتية والعراقية تقاربتا كثيراً حتى أصبحت العلاقات بينهما أفضل من أية علاقات تربط بين العراق وأية دولة أخرى في الإقليم، سيتحتم علينا البحث عن سبب آخر.
إنّ ما يقوله السفير الأميركي حول الجهود التي تبذلها حكومته ــ وراء الستار أو أمامه ــ لإخراج العراق من وضع الوصاية لا يمكن تصديقه واستيعابه، بل هو يشير وبوضوح إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية تستخدم قضية إخراج العراق من طائلة هذا البند لابتزاز هذا البلد وإبقائه تحت هيمنتها واستمرار ارتهان حكومته العاجزة والفاشلة على شتى الصُعُد، وسواء تم هذا الأمر بمساعدة كويتية أو بعدمها فالأمر سيان من حيث الجوهر. لم يفوّت السفير بيكروفت الفرصة دون أن يتفاخر أمام الصحافيين العراقيين بما قدمته دولته من صفقات سلاح للجيش العراقي فقال إنّ هناك «صفقات لدبابات ومدرعات وطائرات مروحية وكذلك طائرات أف 16، وتلك الصفقة تشمل ايضا تدريب العراقيين على صيانة تلك المعدات، ونحن نعمل بجد من أجل تسليم طائرات «أف 16» في أقرب وقت ممكن». الغريب أنَّ سوء الحظ بدا وكأنه يلاحق السفير، فبعد مرور أقل من 24 ساعة على لقائه الصحافي، وتفاخره بإنجازات حكومته وما قدمته للعراق، أعلنت قيادة القوات الجوية العراقية أن ضباطها اكتشفوا أجهزة تجسس إسرائيلية ومن تصنيع شركة «رادا» الإسرائيلية في داخل تلك الطائرات، وأنّ الشركة الأميركية المصنعة تجاهلت استفساراتها حول هذا الموضوع! إذاً، فحتى السلاح الذي يشتريه العراق بملايينه النفطية من أميركا لا يخلو من الدسائس والغدر الاستخباراتي!
وختاماً، فإذا كان لابد لنا من أنْ ننصف السفير بيكروفت فسنقول عنه إنّه، وإنْ كان قد اعتبر العراق أرضاً ونفطاً لا غير، ولكنه ــ والحق يقال ــ لم يعتبر الشعب العراقي برمته صفراً على الشمال، وإنما امتدح بعض الأشخاص العراقيين مشدداً على أنّ «هناك أشخاصاً أذكياء جداً، وأكفاء يستحقون منحهم الفرصة». والأكيد أنْ أذكياء بيكروفت هؤلاء سيمنحون فرصة أكيدة، وأن ذكاءهم سيزداد «شراسة»، حين تشملهم الاستخبارات المركزية الأميركية «السي آي أيه» برحمتها وخبراتها وأجهزتها الإسرائيلية!
* كاتب عراقي