ثمة قضايا تشير إلى أسباب الخوف من اليسار الثوري في سوريا. بهذه العبارات يبدأ الكاتب والصديق عمار ديوب مقاله المنشور في جريدة «الأخبار» (العدد ١٨٤٠ الاثنين ٢٢ تشرين الأول) والذي حمل عنوان «في الخوف من اليسار». في تحديده للجهات التي تخاف من اليسار الثوري، يقول الكاتب «أنّ أكثرية الخائفين منه هم من بقايا اليسار ذاته. التاريخ الذي ينتقم لنفسه دائماً، يعاقبهم على هشاشة الرؤية والسياسات اليسارية التي امتلكوها تاريخياً وحالياً. فقد ثاروا في زمن لا ثورة فيه، وتلبرلوا حين ثار الشعب». لكن إذا كان هؤلاء اليساريون السابقون قد انتقلوا إلى مواقع الليبرالية، وأصبحوا جزءاً منها، فلماذا نقول عنهم حصراً أنهم أكثر الخائفين من اليسار الثوري؟ المنطق يقول إنّ ما ينطبق على هؤلاء ينطبق على الليبراليين عموماً والعكس صحيح. من هنا، ربما كان على الكاتب أن يصوغ عبارته على الشكل كالتالي: إن أكثرية الخائفين من اليسار الثوري هم الليبراليون، وضمناً، المتلبرلون الجدد من اليساريين السابقين؟ ألم يكن من الأجدى للكاتب، الاستعانة بمصطلحاته الماركسية، كالتناقض والصراع، ما بين الليبراليين واليسار الثوري، بدلاً من استخدام مصطلح الخوف؟ لسبب أو لآخر، لم يشأ الكاتب تسمية تلك الجهات، مع أنّ ذلك يساعد القارئ أكثر على فهم النص. مع ذلك، فإن المطلع على الوضع السوري، لن يجد أية صعوبة في الاستدلال عليها. إنها القوى اليسارية التي عارضت النظام خلال العقود الماضية (حزب العمل، المكتب السياسي أو حزب الشعب لاحقاً،...إلخ). هنا، نسأل: أليس غريباً، ان يتهم هؤلاء بالهشاشة لأنّهم، رفضوا الرضوخ للواقع، الذي كان يمر في مرحلة جذر ثوري، وناضلوا من اجل تغييره، وقدموا ما قدموه من تضحيات؟ هل كان عليهم، أن يلتزموا في بيوتهم، ثلاثين عاماً، بانتظار اللحظة الثورية؟بالعودة للقضايا الخمس التي وردت في المقال والتي تشير، كما يرى الأستاذ عمار، إلى أسباب خوف هذه القوى من اليسار الثوري في سورية. وبالنظر إلى أنّ الكاتب قد أشار في بداية مقاله إلى تلبرل من أسماهم «بقايا اليسار»، يتضح، أنّه كان بالإمكان دمج تلك القضايا في قضية واحدة، ومناقشتها تحت عنوان: موقف القوى الليبرالية من الثورة السورية. فأولى تلك القضايا، هي كما يقول الكاتب «رفضهم الجازم لأي تعريف للثورة خارج ثيمة «ثورة الحرية والكرامة»». ربما لا نختلف مع الكاتب كثيراً حول الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي جاءت الثورة في سياقها. وبأن مطلب العيش الكريم والعدالة الاجتماعية هما من أسس الثورات. لكن من ينهى عن عمل، عليه ألا يأت بمثله. فلا يجوز التقليل من أهمية مطلب الحرية والكرامة، الذي تبنته جماهير الثورة. لأن هذا يعني، بشكل أو بآخر، رفض تعريف الثورة خارج ثيمة «الاقتصاد». نعم، لقد أدت السياسات الاقتصادية الليبرالية إلى تعزيز الانقسام الطبقي الحاد في المجتمع. وتدني مستوى المعيشة، وازدياد معدلات الفقر والبطالة. فإذا ما أضفنا لذلك، الاستبداد المزمن وغياب الحريات، وامتهان الكرامات، أمكننا القول، إن للثورة أبعادها وجذورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبالتالي، كان من الأجدى أن يطرح الثائرون، كرزمة واحدة، جميع المطالب المتعلقة بهذه الأبعاد. لكن الواقع يقول إنّهم لم يفعلوا ذلك. وإنّ مطلب الحرية والكرامة قد طغى على ما عداه من المطالب. هذه حقيقة يجب الاعتراف بها، وعدم إنكارها، أولاً، ومن ثم، الإجابة عن سؤال: لماذا حصل ذلك؟ يقول البعض، إنّ عنف السلطة، جعل من التخلص منها، والظفر بالحرية، وبأي وسيلة، هدفاً رئيسياً في هذه المرحلة. وبالتالي وجب ترحيل الأهداف الأخرى، إلى ما بعد تحقيق ذلك الهدف. ويرى آخرون، ومنهم كاتبنا، أنّ تغييب الأبعاد الاقتصادية الاجتماعية للثورة، قد تم بتأثير بعض القوى الليبرالية، ضمناً التيارات الإسلامية واليسارية المتلبرلة. إذا كان هذا صحيحاً، فهو يعني أنّ لهذه القوى حضورها الجماهيري الفاعل في الثورة. وهو الذي جعلها تنجح في تعميم خطابها الليبرالي الذي يغيب تلك الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية الموجودة في الواقع. من هنا، يمكن القول، إن انعكاس الواقع في الوعي ليس عملية ميكانيكية. فالوصول إلى حالة التطابق ما بين الوعي والواقع، هو صيرورة معقدة تتطلب توفر مجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية. ومن دون الدخول في التفاصيل، فإنّ عدم تحقق هذا التطابق، يعني أنّ هناك نقصاً في بعض هذه العوامل، أو أنها، لم تنضج بعد بما فيه الكفاية. مع ذلك، لا بد من تكرار القول، بأنّ الخطاب الوطني الديموقراطي، الذي يتضمن مطالب الشعب المحقة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والمساواة والعيش الكريم، والذي يبشر بسوريا الديموقراطية والمدنية، هو الخطاب الذي يستقطب معظم السوريين. وإن عدم طرحه، ربما يكون أحد أسباب تأخر انتصار الثورة. ومن هنا تأتي ضرورة نقد كل من يشوش على خطاب كهذا. أما ثانية القضايا، فهي كما يقول الكاتب رفض مصطلح الثورة الشعبية المرتبطة بالطبقات الشعبية المتضررة من السياسات الليبرالية، وفصم كل علاقة بين الليبرلية كسبب اقتصادي للثورة، وذلك بقصد وحيد هو تبني الليبرالية بعد سقوط النظام كسياسة اقتصادية. يبدو لنا واضحاً أن هذه القضية ترتبط بالتي سبقتها، وتفسرها. فرفض مصطلح الطبقات الشعبية، وإغفال دور السياسات الليبرالية في تفجر الثورة، هو الوجه الآخر للإصرار على ترديد نغمة «ثورة الحرية والكرامة». لكن ما يلفت الانتباه، ويدعو للاستغراب هو قول الكاتب «على يساريي سوريا، التخلص من ترفعهم عن الخوض بمشكلات الفقراء وعدم الاكتفاء ببعض الكليشيهات الليبرالية». كيف تدعو اليسار الذي قلت إنّه متلبرل، للانشغال بقضايا الفقراء والانحياز لهم، والابتعاد عن الليبرالية؟ أي تناقض هذا يا صديقي؟
بالانتقال للقضية الثالثة والتي تتناول العلاقة بين الأصول الطبقية لليساريين الخائفين، وبين تحولهم لليبرالية. يقول الكاتب «فقد كانوا يساريين هواة وصاروا ليبراليين هواة. ولكن دافعهم الفعلي هو كما أشرت موقعهم الطبقي، وإن كانوا في موقعهم السياسي الجديد، متضررين من الليبرالية ذاتها التي يسعون إليها». ربما كان على الكاتب، أن يبين، كيف، ولماذا، سيتضرر هؤلاء اليساريون (رجال الأعمال الجدد) من الليبرالية؟ وإذا كان تحليل الكاتب صحيحاً، فإن مصلحة هؤلاء المتضررين، تقتضي منهم، الانتقال إلى مواقع اليسار المعادية لليبرالية. فهل يراهن الكاتب على عودة الابن الضال إلى أهله؟ أما القضية الرابعة فهي كما يقول الكاتب «البراغماتية الساذجة، وهي تبنّي أفكار وسياسات تقاربهم من الليبراليين والاسلاميين من أجل انتصار الثورة وإسقاط النظام كما يدعون». يلاحظ هنا مدى ارتباط هذه الفكرة بسابقاتها. لذلك كان بإمكان الكاتب أن يدمج هذه القضية، مع القضية الثالثة. طبعاً التناقض هنا هو هو. فالكاتب، يفسر موقف اليساريين الليبراليين بالبراغماتية الساذجة. أليس من الماركسية القول، بأن مصلحة هؤلاء تدفعهم، وهم بكامل وعيهم، للانحياز، إلى من يشبههم من الليبراليين؟ بالانتقال إلى القضية الأخيرة، يقول الكاتب «خامستها، وهي الأسوأ، استبعاد مفردات التحليل الماركسي لفهم الواقع من خلال مفاهيم الطبقات والصراع والواقع الاقتصادي واستبدالها بعدة شغل طائفية، تنطلق من مفاهيم الأكثرية الدينية والأقليات الدينية». هنا، يمكن القول أيضاً، كان بالإمكان دمج هذه القضية مع القضايا الواردة أعلاه. وبالتالي، لن نضيف جديداً إلى ما قلناه سابقاً بهذا الخصوص. فاستبعاد هؤلاء اليساريين المتلبرلين، لمفردات التحليل الماركسي، هو تعبير عن انسجامهم مع أنفسهم، ومع تحولاتهم ومواقعهم الجديدة. نختم بالقول، ربما يكون حضور الأيديولوجية في التحليل قدراً، ليس من السهولة، على أي كاتب أو محلل الفكاك منه، إلا أنّ سطوتها، أو زيادة جرعتها عن حد معين، قد تطيح منهجية التحليل ومنطقيته.
* كاتب فلسطيني