كان الفلاحون في فرنسا في القرن التاسع عشر يتندّرون على فلاح ركبت في رأسه لعبة الشطارة، فذهب يبيع زبده في السوق لكنه طمع بأن يكسب المال دون أن يتخلّى عن الزبد، وذهب مَثَل «الزبدُ ومالُ الزبدِ»، في فرنسا، مذهباً للدلالة على أنّ الفهيم لا يطمع بأن يربح شيئاً دون أن يتخلى عن شيء يخسره في المقابل.عزمي بشارة لم «يهضم» طوال سنتين قطيعة «حزب الله» معه، طمعاً بأن ينال المجد من طرفي المقاومة وقطر في آن واحد. «فعسر الهضم» هذا، دليل على بذرة طيّبة بقيت من بقايا عزمي بشارة «المناضل» قبل أن تنخرها سوسة عزمي بشارة «المفكّر». فهو لم يسلك طريق صغار المهتدين إلى «مناهضة الاستبداد» النيوليبرالية، الذين ينشطون في إزالة الحواجز أمام نشر الحرية الأميركية، إنما سلك طريق المقدمات نفسها في «مناهضة الاستبداد»، متوهماً أن تؤدي المقدمات نفسها إلى نتائج مغايرة. فتناقضه الداخلي الذي تسعّره بذرة من بقايا عزمي المناضل، يدفعه بالضرورة شيئاً فشيئاً إلى قتل البذرة بكل ما أوتي من عزم «فكري» على قول «أنا ابن جلا وطلّاع الثنايا»، وتراه مضطراً في آخر المطاف إلى اختراع مبرر للتصالح مع نفسه في انسجام المقدمات والنتائج.
الادعاء بأنّ المقاومة خوّنته (حوار س وص، «الأخبار»، 6 ــ 11 ــ 2012) هو أولى درجات سلّم الهبوط للوصول إلى ما سبقه إليه صغار المهتدين بالحرية الأميركية، بل أبعد منهم. فهؤلاء يقولون إنّ المقاومة تخوّنهم بتلاقي مصالحهم مع المصالح الأميركية، لذا يدّعون أنّها تخوينية طائفية وإيرانية لا تهتم بتلاقي المصالح الوطنية، لكن عزمي لا يستطيع أن يقول صراحة بتلاقي المصالح مع أميركا وهو على ما يقول «مقاوم ولم يتخلّ عن مقاومة العدوان، ولا يزال مناهضاً للسياسة الأميركية في المنطقة»، فيضطر إلى أن يمسك الجرّة من أذنها. يقول إنّ المقاومة قطعت الصلة معه، فهي إذن تخوّنه. وبما أنّها تخوّن المناضلين وتتقرّب من «جماعتها» فهي إذن خائنة لفلسطين، بل «يكتشف أنها كانت دائماً تخون فلسطين». إنما قالت المقاومة في عزمي ما يقوله بقية خلق الله بأنّه انتقل من ضفة إلى ضفة أخرى، وانتهى الأمر عند هذا الحد. وبين من يقول بهذا القول ثوار في البلدان العربية لا يتفقون مع حزب الله في مقاربة المأساة السورية، بل بينهم كثير في الضفة التي انتقل إليها عزمي، وهل يخفى القمر؟ فالمقاومة تتقبل النقد الصارخ على مضض، لكنّها لا تقطع الصلة مع الذين يختلفون معها في الضفة الواحدة أو بين الضفتين. وهذا أمر بيّن، عبثاً يحاول عزمي المكابرة فوقه تحليقاً في الهواء على قول «متى أضع العمامة تعرفونني». فالقاصي والداني يعرفان، أو يستنتجان، أنّ قطر لا ترعى «مفكراً» طمعاً في «علمه» الفريد. وقد كان عزمي نفسه يكدّ ويشقى من أجل نشر بحث، كبقية الباحثين المناضلين الذين يفكّرون على غير هوى القصور (راجع خيري منصور، انتلجنسيا للإيجار، القدس العربي، 2ــ 11ــ 2012). وما زال كثير من الباحثين المرموقين يعانون الأمرّين في كسب قوت كريم عقاباً لخيارهم الحر في الضفة المناوئة للحرية الأميركية. لكن عزمي في اصراره على أنّ المقاومة تخوّنه، وعلى أنّه فوق المعسكرات، يحاول أن يبرع أكثر من الفلاح الفرنسي الشاطر، فقد اكتشف أنّه يستطيع بيع الزبد ويكسب ثمنه أكثر من مرّة، بل إلى ما لا نهاية طالما ظل يحتفظ بالزبد. يقول: «ص (حزب الله) يواصل الهجوم لمعرفته بأخلاقيات س (عزمي) الذي يسير في طريقه ولن يستدير لرد الهجوم، ولن يقبل أن يهبط بنفسه إلى درجة مهاجمة أحد شخصياً، ولمعرفته (حزب الله) أنّه (عزمي) لن يهاجم المقاومة لأنّه (عزمي) صاحب مواقف ضد اسرائيل. ولأنّه (عزمي) يقدّر من يقاومها، ولا يساوم بين من يقاوم اسرائيل ومن يصنع السلام معها على حساب فلسطين». لا بأس في هذا القول إذا كان الحزب مشغولاً بأمور عزمي بشارة «الشخصية» وغير الشخصية، وإذا كان عزمي لا يساوي فعلاً بين هذا وذاك «في صنع السلام مع اسرائيل على حساب فلسطين». إنما لا، يقول عزمي ما يقول في نفسه وفي المقاومة، محطة انطلاق ليحطّ حيث سبقه صقور المهتدين بالحرية الأميركية وغلاتهم دون لف ودوران.
يقول عزمي بعد تمهيد طويل لبق البحصة «هذا يعني أنّ فلسطين ليست مهمة «لهؤلاء» (حزب الله وجماعته) وأنّ النظام الحاكم والمصالح الفئوية هي الأساس. يعتقد (س) (عزمي) أنّ هذا موقف خياني لفلسطين وللوطنيين الفلسطينيين لمصلحة نظام فاشي، ليس فيه جانب متنوّر واحد». انطلق عزمي من أنّه «لن يستدير لرد الهجوم ولن يقبل أن يهبط بنفسه....إلخ»، فإذا به يخوّن المقاومة في قوله جهاراً «هذا موقف خياني لفلسطين وللوطنيين الفلسطينيين». ولو أراد أن يستدير لرد الهجوم وأن يهبط بنفسه، ماذا كان سيفعل يا ترى؟ تحريك الأساطيل والطائرات مثلاً؟ ربما تداعب الصورة مخياله. كيف لا وقد استفاق من كبوته الجريحة فيقول: «فجأة يرى س (عزمي) الأشياء على نحو مختلف. وتتضح له أمور كانت مشوّشة. فقد كان يعيش في حالة انكار. هؤلاء (حزب الله وجماعته) يخونون فلسطين مثلما يخونون مبادئ العدل والانصاف، لا لأنّهم كانوا معها، بل لأنّهم كانوا دائماً مع غايات أخرى». ولا يحدّث بحديث «الخيانة الأصلية» موتور عصابي معروف، إنما يحدّث به «مفكّر عربي»! ولا عجب في ذلك فالمقدمات نفسها تؤدي إلى النتائج عينها. ومقدمات الحرية الأميركية في «مناهضة الاستبداد»، تؤدي في نهاية المطاف لا إلى تخوين المقاومة والمطالبة بنزع سلاحها وحسب، بل تؤدي إلى الاستنتاج الحصيف «أنّ المقاومة لم تكن يوماً مع فلسطين ومبادئ العدل والانصاف، إنما كانت دائماً مع غايات أخرى». فإذا زالت «الغشاوة عن عينيك كما زالت عن عيني عزمي بشارة، وإذا تمعّنت جيداً في «حوار س وص»، تهتدي إلى أنّ «المقاومة الحقيقية» هي عزمي بشارة بشخصه، أما تحرير الأرض وهزيمة اسرائيل، وخلق توازن الردع والرعب... فلا شأن لهذا كلّه بفلسطين من قريب أو بعيد، بل هو لخيانة فلسطين من أجل «غايات أخرى».
يقول عزمي في مقدمة «حوار س وص»، «إنّه باحث يبني تحليله على الحقائق والمعلومات ويحاول أن يتمسّك بالموضوعية العلمية». وقد اكتشف خيانة حزب الله «الأصلية» بالتجربة «العلميّة» والبرهان القاطع فيقول «ثم اكتشف س (عزمي) أن فلسطين غير مهمة لـص (حزب الله) لأنّه (حزب الله) يغيّر موقفه ممن يناضل من أجل فلسطين بموجب موقف هذا المناضل من النظام السوري أو من «جماعتنا»». فإذا غيّر حزب الله موقفه من عزمي بموجب موقف عزمي من النظام السوري، يكون استنتاج الباحث «الذي يبني تحليله على الحقائق والمعلومات» أنّ حزب الله يخون فلسطين، أو أنه كان بالأصل يخون فلسطين. وعلى أساس هذه «المعادلة العلمية» الغريبة العجيبة يمكن القول إنّ الخروف نباتي وسعيد يأكل لحم الخروف النباتي، إذن سعيد نباتي. وعلى أساس هذه المعادلة «العلميّة» نفسها، يقول عزمي إنّ الشعب السوري يثور ضد النظام، والمجلس الوطني يؤيد الثورة، إذن وقوف عزمي مع المجلس الوطني هو وقوف مع الشعب السوري، لا مع قطر. وفي حقيقة الأمر ما يقوله في استبداد النظام السوري على قياس «معادلاته العلمية»، يأخذ الشعب السوري مطية لنقل سوريا بحاضرها ومستقبلها من الاستبداد الأصغر إلى الاستبداد الأكبر، على هوى ومصالح دول «أصدقاء سوريا». هذه هي الإشكالية التي واجهت حزب الله كما واجهت هيئة التنسيق الوطنية والعديد من المعارضات والمثقفين والمناضلين السوريين والعرب، في رفض الخيار بين الاستبداد والاستعمار. وفي هذا السياق حاول حزب الله في بداية الأزمة حقن الدماء وإيقاف الخراب، بأن يوفّق بين تعنّت النظام وإصرار قطر وتركيا على تسليم أركان السلطة للإخوان المسلمين. وقد لمس الحزب لمس اليد أنّ النظام لم يكن وحده مسؤولاً عن اعتماد خيار الحرب، وأنّ هدف المجلس الوطني المدعوم من دول «أصدقاء سوريا» هو الوصول على ظهر الثورة إلى السلطة لتغيير موقع سوريا الجيو ــ سياسي. ولم تتأخر توقعات حزب الله على ما ورد في «ميثاق العهد» الذي يغدق وعود الحريات نحو إعادة تموضع سوريا في محور الحرية الأميركية.
الشعب السوري هو ضحية هذا الصراع على السلطة وعلى موقع سوريا الجيو ــ سياسي، وهو صراع داخلي ــ اقليمي ــ دولي في حرب عبثية حطبُها من أرواح فقراء الأرياف وأحزمة البؤس. ولا ترى المقاومة حلاً لوقف حمام الدم وحفظ ما تبقى من سوريا غير حل سياسي في الحوار بين السلطة والمعارضات، تمهيداً لمرحلة انتقالية آمنة تبدأ بوقف القتل. وقد يكون ما تراه المقاومة قابلاً للنقد والجدَل بالوقائع والمعطيات على ما تقول هيئة التنسيق الوطنية وبعض قوى المعارضات الأخرى، لكنّه نقد وجدل بين «جماعة» في الضفة الواحدة أو بين الضفتين، إذ يحتفظ كل طرف باستقلاله التام وخياره الحر. وبرغم اختلاف العديد من القوى مع مقاربة المقاومة، لم تبلغ النرجسية الصبيانية بأي طرف، لا يشارك المقاومة تقويمها، حدَّ ادعاء الطيران «فوق المعسكرات»، ولم يدّعِ أنّ المقاومة خوّنته أو اتهمها بالخيانة «الأصلية» والمكتسَبَة، لكن قصة عزمي قصة أخرى منذ أن دغدغ أحلامه رأسمال «المفكّر العربي» الرمزي. فهو يتبنّى بعناية فائقة فكر «مناهضة الاستبداد» على شيوخها قدامى الليبراليين، وعلى شبابها النيوليبراليين المهتدين بالحرية الأميركية وثورة المستوطنين البيض الدستورية في أميركا (راجع مقولته في الثورة والقابلية للثورة). وهي مدرسة «معادلات علمية»، على غرار ما سبق مثاله، تأخذ من تضحيات الشعب الذي يعاني الظلم والاستبداد، مطيّة لتشديد التبعية إلى مصالح واستراتيجيات الدول «الديموقراطية» الغربية. وفي ظلّ اتساع الفجوة بين الضفتين المتواجهتين، كان لا بدّ أن «يكتشف» عزمي ما اكتشفه في المقاومة من «خيانة أصلية» لإزالة تناقضه الداخلي وإرساء المصالحة مع نفسه في انسجام مقدمات الاهتداء بالحرية الأميركية مع نتائجها.
بعد اكتشافه «الخطيئة الأصلية»، علينا انتظار «تحليلات علمية مبنية على الوقائع الموضوعية» للمطالبة بنزع سلاح المقاومة، أو محاكمتها بتهمة الخيانة (لمَ لا!)، طمعاً بتزويد الضفة الأخرى بدم ديموقراطي جديد. الطامة الكبرى إذا لم ينجح عزمي بأن يبزّ صغار المهتدين الذين سبقوه في الاكتشاف. عندها يكون قد خسر الزبد ومال الزبد، على ما يقول المثَل الشعبي «ذقنُ الطمّاع في حِجْر المُفْلِس».
* باحث لبناني