يجري الحديث منذ مدة عن ضرورة عقد مؤتمر وطني لبناني تشارك فيه كافة الجماعات السياسية، على غرار مؤتمر الطائف، بهدف التباحث في صيغة مماثلة لوثيقة الوفاق الوطني لعام 1989 وقبلها الميثاق الوطني لعام 1943، فتكون أكثر مراعاة للمستجدات التي طرأت على المشهد اللبناني والإقليمي. قد يتأخر ذلك، إذا جرى الاتفاق على عقد مؤتمر كهذا، لحين نضوج الحل السياسي أو غيره في سوريا، لكن المشكلة تبقى في عدم إمكان الخروج من هذه الحلقة المفرغة في لبنان على خلفية بلوغ الخلاف مرحلة اللاعودة واستحالة الرجوع إلى الوراء، فيما يبدو أنّ الصيغة القائمة قاصرة عن إنتاج التسوية أو إيجاد الحل.لقد صدرت وثيقة الوفاق الوطني في 1989، وعُدّل الدستور اللبناني في 1990، بناءً على اتفاقية الطائف، لوضع حد للحرب الأهلية في لبنان. فجاءت هذه الوثيقة التاريخية لتضع المعادلة الوطنية الجديدة موضع التنفيذ على أرضية التسوية الثلاثية بين الولايات المتحدة وسوريا والمملكة العربية، وبمباركة الأطراف الدولية والإقليمية الضالعة في الحرب والمعنية بالملف اللبناني. فنصت الصيغة المرتكزة إلى تلاقي تلك الإرادات الدولية، وكذلك الأطراف المحلية، على إعادة بناء السلطة في لبنان من خلال إعادة توزيع الصلاحيات الدستورية في ممارسة الحكم وتبني قاعدة التوزيع الطائفي للرئاسات والمقاعد النيابية والوزارية والوظائف العامة من الفئة الأولى. هكذا تعكس تلك الصيغة الميثاقية تبدّل موازين القوة داخلياً وخارجياً، الأمر الذي اقتضى إحداث تلك التغييرات في صلب النظام اللبناني.
تهدف تلك الموازنة بين مختلف الطوائف والمذاهب عبر التعاقد الميثاقي إلى المحافظة على السلم الأهلي، وعلى ذلك النموذج المحدد من التوازن الوطني، الذي أفرزته الحرب على أرض الواقع، لكن الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، منذ ذلك التاريخ، الذي ولد معه ما اصطلح على تسميته الجمهورية اللبنانية الثانية، لم تبادر مطلقاً إلى تنفيذ الإصلاحات السياسية والدستورية التي وردت في وثيقة الطائف، إذ لحظت هذه الأخيرة وجوب العمل على إلغاء الطائفية السياسية كهدف وطني وفق خطة مرحلية من خلال تشكيل الهيئة الوطنية العليا للإعداد لإلغاء الطائفية، ومتابعة تتفيذ هذه الخطة. بيد أنّ الممارسة الميدانية للأحزاب والتيارات السياسية في السلطة دفعت باتجاه ترسيخ القاعدة الطائفية، وجعلها المدماك المركزي لممارسة الحكم والإدارة، بدل التزام ما ورد في الوثيقة الوطنية والدستور.
نصل بعدها إلى الأزمة المتفاقمة منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005، على أثر التمديد للرئيس إميل لحود في 2004، وما تبعهما من أحداث دراماتيكية. فقد شهدت الساحة اللبنانية صراعاً حاداً بين الأطراف المتنازعة، وعجزت الآليات الدستورية للنظام القائم بعد الطائف عن استيعاب الموقف واحتواء الأزمة بإيجاد المخارج التي تحقق استمرارية عجلة الحكم، وتؤمن تداول السلطة
سلمياً.
لم تخل هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، التي لا تزال احتمالات الانفجار فيها قائمة، بل ومتنامية، من اللحظات المرة والحرجة، كما من مظاهر التصادم والاقتتال التي تجعلنا نستحضر مشهد الحرب في الذاكرة الجماعية اللبنانية. فكان التصعيد والتهديد من قبل الجميع بدل الانخراط في ائتلاف حكومي جامع يضم كافة الأفرقاء لمواجهة الأخطار المحدقة بالبلاد، كما تجري العادة في ظل الأنظمة الديموقراطية أمام الأزمات الوطنية الكبرى. وتعالت الأصوات المنددة بفكرة الديموقراطية التوافقية في مناسبات عدّة، واحتدمت المعركة بين القوى المتقابلة لحظة الاستحقاقات المصيرية، ومنها الانتخابات النيابية في 2009 وقبلها حرب تموز في 2006، وكذلك التفجيرات المتنقلة التي تحاول العبث بالاستقرار والأمن والاغتيالات السياسية التي تستهدف العديد من الرموز الوطنية. لم تفلح العملية السياسية في الحد من الجنوح نحو التطرف والعنف، على نحو يهدد التجربة اللبنانية من أصلها، بتمكين لبنان من بلوغ الديموقراطية المستدامة. لذا بات لزاماً إدارة حوار وطني، على نحو هادئ ومسؤول، حول مدى صلاحية بقاء صيغة العقد الاجتماعي في لبنان كما هي ومدى إمكانية تطويرها
فعلاً.
ليس المقصود بطبيعة الحال الاستمرار في عقد الجلسات الفولكلورية لطاولة الحوار الوطني في القصر الجمهوري في بعبدا، التي لا يتعدى الهدف المنشود منها عتبة التهدئة الإعلامية لناحية التخفيف من الاحتقان في الشارع على أهميته، لكن المطلوب الإقرار من دون تعنت أو تردد بضرورة السعي إلى إعادة النظر في بنية النظام اللبناني نفسه، بالنظر إلى استفحال الأزمة اللبنانية التي لم تعد مجرد أزمة حكومة أو أزمة حكم، بل إنّها أزمة نظام بكل معنى الكلمة. في هذا المجال، لا بد من التنويه بالدعوة الصريحة التي أطلقها السيد حسن نصر الله إلى اتخاذ قرار جريء من قبل الجميع بالتفاهم على عقد مؤتمر وطني تأسيسي بقصد البحث فعلاً في سبل تطوير الصيغة الميثاقية للنظام السياسي والدستوري اللبناني، وكذلك التوافق على القضايا المصيرية والاستراتيجية في المرحلة المقبلة بين مختلف الأطراف. لم يعد مقبولاً على الإطلاق استمرار الوضع على ما هو عليه، دون وجود أفق للحل السياسي العقلاني من داخل المؤسسات الرسمية والشرعية، فالبلد لم يعد يحتمل مزيداً من المراوغة والمراوحة، في ظل استفحال المعضلات التي يعانيها
كافة.
من الواضح أنّ جميع القوى السياسية اللبنانية تتحمل مسؤولية ما وصلت إليه الأمور، فهي لم تكن عاجزة عن تطبيق بنود الإصلاح السياسي والدستوري، وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، طوال الحقبة الماضية، لكنّها في الحقيقة تعمدت التلكؤ في إدخال تلك الإصلاحات إلى حيّز التنفيذ. فبدل أن تكون تجربة ما بعد الحرب وما بعد الطائف مقدمة للإصلاح الشامل، بوصفها مرحلة انتقالية يفترض أن تفضي إلى بدء التغيير الجذري لبناء الدولة الحديثة على قاعدة المساواة في المواطنة بين اللبنانيين، عملت الطبقة السياسية على ترسيخ الفرز الطائفي والمذهبي على حساب إمكانية التحديث السياسي والفكري. فهي لن تقبل إلغاء الطائفية التي تحقق لها
مصالحها.
من هنا، يمكن القول إنّ عقد مؤتمر وطني يعيد بناء التوازن من جديد هو مسألة لا مفر منها، لكن المهم أن يُبتدَع نموذج متطور مفاده جعل النظام اللبناني مبنياً على احترام الخصوصيات الأساسية للطوائف والمذاهب، لا على تكريس الأنقسام الفئوي. قد يكون من غير الممكن على المدى المنظور الخروج من دائرة القيد الطائفي، فلم لا يعاد بناء مؤسسات الحكم بالطريقة التي تكفل إمكانية التحاور بين الجميع في كنف الدولة وعدم انقطاع التواصل في إطار المرجعية المؤسسية الوطنية؟
* باحث سياسي