المتابع للشأن العام في دول الربيع العربي التي انجزت ثوراتها (خصوصاً مصر وتونس)، يدرك تماماً أننا امام تأسيس غير مسبوق للعمل السياسي الحديث في الوطن العربي، وأمام تشكل جديد للهويات الدولتية والمجتمعية والمواطنية والسياسية. وربما تكون عودة الجماهير إلى السياسة هي الحدث الأبرز والأكثر جدوى وفاعلية حتى من حدث «إسقاط النظام» بحد ذاته في هذه الدول.وبالفعل فقد كانت لحظة الانتقال من السكون إلى الحركة بالنسبة للشعوب العربية مليئة بمشاعر الترقب والانفعال والحذر كونها لحظة خارج الزمن العربي الراكد، وبسبب مشاعر عدم اليقين والشك في إمكانية استمرارها وتطورها من لحظة عابرة إلى مرحلة مديدة، تنهي المرحلة السابقة حيث تعيش الجماهير حالة من اللامبالاة بالسياسة والسياسيين، نابعة من عدم إدراك ذاتها الجماعية، وتسود حالة من الفردية الضعيفة والعاجزة، تجعلها تهجر السياسة كنشاط عملي، وبالتالي تقبل بسياسات السلطة التي تفضي إلى انسحاقها وحرمانها الاقتصادي والسياسي.
عملت الأنظمة العربية على تذرير وتفتيت الذات الجماعية لمواطنيها، عبر تصفية الأحزاب والحياة السياسية وإدارة السياسة من فوق، ومنع كل أشكال الاحتجاج والمشاركة بالشأن العام، الأمر الذي أدى إلى خلق روح العزوف عن السياسة لدى الشعب، فانحصرت الممارسة السياسية أو حتى الحديث بالسياسة في أقلية محدودة من المثقفين والأحزاب واختفت كل أنواع المعارضة. وهكذا فإنّ تاريخ المواطن العربي ما قبل الثورات هو تاريخ الفرد البائس التائه في دوامة العمل اليومي المضني من أجل تحصيل رزقه وتجديد حياته وإعالة أسرته، تاريخ الخضوع لسطوة السلطة والتسليم بجبروتها وقوتها وأبديتها المطلقة. إنّه تاريخ اللامبالاة واليأس والصمت.
وقد أرّقت هذه المرحلة المديدة من غياب السياسة لدى الجماهير معظم النخب والمثقفين العرب، وربط بعضهم غياب الديموقراطية في الوطن العربي بحالة الغياب السياسي التي تعيشها كتلة الجماهير، وبالتالي ضآلة الجسم السياسي العربي وضعف. ومن هؤلاء المفكر الفذ ياسين الحافظ الذي اعتبر أنّ عملية «تسييس الشعب» تشكل محرك سيرورة بناء المشروع العربي الحديث، وأنّ انبعاث هذا المشروع يتطلب أولاً وفقاً للحافظ: «تسييس الأكثرية الساحقة ورزقها بسيكولوجيا نضالية وتصفية روح العزوف السائدة في صفوفها». وإذا كان على قوى التغيير في الوطن العربي أن تضطلع بمهام إنضاج الشروط السياسية اللازمة لنقل المجتمعات العربية من بنية اجتماعية تقليدية إلى أخرى حديثة، فليس لهذه المهمة أن تنجز من دون «تسييس الشعب» وإدخاله في زمن السياسة. وعلى هذا فقد وضع الحافظ ورفاقه على رأس مهام القوى السياسية العربية عملية تسييس الشعب ونقل الوعي إليه بالدعوى والتحريض والتثقيف.
والحال أنّ الثورات العربية قد اندلعت بمطلق العفوية ومن دون أي دور يذكر للأحزاب والنخب، وعدا كون هذه الأخيرة قد فشلت في إعادة الجماهير إلى السياسة، فقد عادت هي إلى السياسة من بوابة الجماهير، ولم يبد أنّ لعمليات «نقل الوعي» والتحريض والتثقيف التي هي مهمة الأحزاب في إطار دفعها للجماهير إلى ميدان السياسة، أثراً يذكر في قرار الشاب التونسي محمد البوعزيزي بائع الخضار المتجوّل أن يشعل نفسه احتجاجاً على مصادرة عربته. لقد كان مدفوعاً بمشاعر الاستبعاد الاجتماعي وعدم المساواة التي تعيشها كتل كبيرة من الشعوب العربية وهي في أساس اندفاعها للسياسة.
ما من شك في أهمية دور الأحزاب السياسية والنخب في ظروف معينة، حيث يساهم الأفراد والمتخصّصون والأحزاب في صناعة المستقبل، لكن تغيّراً مباغتاً يحل بالمجتمعات، وتأتي الانعطافة الحاسمة عندما يصبح النظام المسيطر غير محتمل من وجهة نظر الجماهير، لتقتحم حيز السياسة محطِّمة كل القيود والحواجز في طريقها. هي كانت خارج هذا الحيّز لأنّها غارقة بشؤونها الخاصة اليوميّة الملموسة والمضنية التي لا تترك لها وقتاً للاهتمام بالشؤون العامة، لكن الشؤون الخاصة تضخمت حتى باتت شأناً عاماً، وأصبحت أكبر من القدرة على الاحتمال وباتت مستحيلة الحل في دائرة الشأن الخاص، وهكذا تتحرر الفاعلية الاجتماعية للجماهير، وتتحقق عودتها للسياسة.
وهكذا تنشىأ الشرعية الثورية للجماهير على أنقاض «لا شرعية» النظم التسلطية الساقطة، مدفوعة بالأمل في تحقيق الطموحات الشعبية الكبرى، وتحاول القوى السياسية التي وصلت عبر الثورة إلى قمة السلطة (كما في مصر وتونس) التنصل من تلك الطموحات الشعبية الغير القادرة على تحقيقها، والتي كانت قد أيقظتها أثناء الثورة بدفع من انتهازيتها السياسية ووعودها الاصلاحية. لكنها اليوم تعتقد بأن الثورة استنفدت مهامها، وتصبح معنية أكثر من أي شيء آخر بأن تثبت سلطتها، وتبرهن للغرب الامبريالي على أنها جديرة بالثقة، وذلك رغم ما يظهر عليها من «تضاد» مع روح الديموقراطية في ذلك الغرب، تحاول أن تقول أن «التضاد» هو شكلي، أما المضمون فواحد.
لكن إطفاء نار الشرعية الثورية عبر الشرعية البرلمانية، يبقى متعذراً في الزمان التالي للثورة، فالثورة الشعبية ترسي مبادئ وقيماً ثورية وأهدافاً وطنية عامة، وطموحات مجتمعية جذرية الطابع، ليس لها أن تتراجع بمجرد بروز الدولة الانتخابية الجديدة، ويبقى التنافر بين ثورة الجماهير وسياسة الطبقات الحاكمة الجديدة هو مصدر تجدد الشرعية الثورية ومصدر استمرارية الثورة.
إنّها لحظات نادرة في التاريخ العربي، وبالفعل فإنّ جموع الجماهير البسيطة البعيدة عن كل سياسة هي التي أبقت الوعد بالديموقراطية والسياسة على قيد الحياة، في معركة تتجاوز هدف إسقاط النظام إلى استعادة الذات وإرساء بنية سياسية اجتماعية جديدة، حيث ممارسة السياسة تكون من تحت إلى فوق، من أجل تحرير معذبي الأرض هؤلاء من نحو نصف قرن من الخوف والبؤس والانكسار؛ فغيابهم عن السياسة هو موت لها، وتغييب للجميع.
* كاتب عربي