لم ينتهِ بعد السياق الذي أنتج الفوضى العارمة في المنطقة، ولكنه ككلّ نزعة تدميرية خرج عن إطاره وبات يهدّد مصالح الدول التي أنتجته. هذا الخروج فرض على المنظومة الامبريالية التي تحكم العالم إعادة تعيين أهدافها من توظيف الفوضى، فبعد أن سمحت للمجموعات المسلحة على أنواعها بتحطيم الدول واقتسام الغنائم الناجمة عن تحلّلها عادت الآن للمطالبة بدور أكبر للدولة التي ساهمت في تحطيمها. والدولة هذه ليست هي نفسها التي تحلّلت، بل هي بقايا الأجهزة التي تغيّرت ولاءاتها كما في الحالتين الليبية والعراقية وأصبحت تدار بعقلية الحفاظ على الامتيازات الجديدة.
الثروة غنيمة

في «دولة» كليبيا مثلاً تتمركز هذه الامتيازات في الشرق حيث حقول النفط التي تديرها حكومة طبرق، ولذلك يدعمها «المجتمع الدولي» ويدير مفاوضات مع حكومة طرابلس «التي لا تتبع له» للوصول إلى تسوية تسمح باستتباب الأمن ومنع الميليشيات من الاستيلاء الكامل على العائدات النفطية. الحال التي وصلت إليها ليبيا لم تعد تخدم مصالح الغرب، ولذلك فهو يبحث عن تسوية بأيّ ثمن لكي تبقى «الدولة الجديدة» التي أنشأها قادرة على خدمته وتأمين مصالحه، سواء تلك النفطية منها أو الأمنية المتعلّقة بإدارة أزمة الهجرة «غير الشرعية». القذافي كان يؤمّن له هذه المصالح ولكنه كان يحكم انطلاقاً من فكرة «الدولة المركزية» التي تدير نزاعاتها مع القوى الدولية «بإرادة المجتمع» (أو على الأقلّ هكذا كان يزعم الرجل)، فتأخذ من هذه القوّة وتعطي تلك، وفي النهاية تحتفظ بفائض من هذا النهب، وتوزّعه على المجتمع لكي تكسب ولاءه. لم يبقَ من هذه العملية الآن سوى الفائض الذي كانت تنتجه ولا تزال أجهزة الدولة بالاعتماد على الريع النفطي، ولكنه بخلاف حقبة القذافي لم يعد يذهب إلى المجتمع عبر قنوات الفساد الصغير، وأصبح يصبّ بالكامل في جيوب الفئة التي ابتاعها الغرب بعد إسقاط الدولة وإحلال الفوضى والحالة الانقسامية بديلاً منها. في الماضي لم يكن هذا الاحتكار قائماً وكانت الأموال تصل إلى الجميع بسبب وجود سلطة تعرف كيف تنهب وكيف توزّع ما تبقى من نهبها على الناس. صحيح أنها سلطة قمعية وقائمة على الدمج القسري لعناصر المجتمع بكلّ تنويعاته القبلية والجهوية، ولكنها رغم ذلك تحظى بثقته وتقوم بما يفترض أنه واجبها تجاهه. أما الآن وفي غياب هذه القدرة على توحيد المجتمع قسرياً أو طوعياً والظفر بولائه، فإنّ الشرعية التي تحظى بها السلطة من المجتمع قد ذهبت إلى غير رجعة، تاركةً مكانها «لشرعيات» مافياوية متعددة أملاها التدخّل الامبريالي، وهي بكلّ تأكيد لا تعمل لمصلحة المجتمع، ولا تحرص كما كانت تفعل السلطة السابقة على إيصال الفتات إليه. بهذا المعنى لا يعود المجتمع هو المرجعية ومصدر الشرعية، وتصبح الميليشيات التي تحكمه هي البديل، فإليها تذهب كلّ الثروات التي تستحوذ عليها السلطتان القائمتان من بيع النفط وتسهيل عمليات تهريب البشر، وفي ضوء نشاطاتها يتم توزيع الأموال وتحديد من هو «صاحب الحقّ» بها. مفهوم الغنيمة هنا يحلّ محلّ «الحقوق» التي كان يتمتع بها السكّان في شرق البلاد وغربها، على الأقلّ من الناحية الاقتصادية (على اعتبار أن الحقوق السياسية كانت معدومة أيام القذافي).

مع الفشل في احتواء الفوضى فإنّ عملية النهب ستتطور ولن تتوقّف

لم يكن كلّ شيء مؤمناً وقتها ولكن الخدمات الأساسية كانت متوافرة، ولم يكن الناس يحتاجون إلى تسوّل السلطة للحصول على حاجاتهم، وهو بالضبط ما بات مستحيلاً الآن بسبب تفكيك جهاز الدولة الذي كان يقوم بتوزيع الأموال على الناس بعد تحصيلها. ما عادت العلاقة بين المجتمع والدولة تشبه ما كانت عليه سابقاً (حينما كانت محكومة بمنظومة اقتصادية رسمية يجري من خلالها تحصيل الحقوق وتوزيعها على شكل عوائد مالية) بل أصبحت خاضعة بالكامل لمنطق الحرب الذي تمليه الميليشيات، وتفرض من خلاله «شرعيتها» على المجتمع والسلطات التابعة للغرب و»الشرق» معاً.

«البديل» أسوأ من الأصيل

استحواذ الميليشيات على الثروة بالكامل وتحكّمها من خلال المال بالعملية السياسية عبر ابتياع هذا الحزب أو ذاك أربك الغرب ودفعه إلى إيجاد بديل من عملية الفوضى التي ظنّ في البداية أنها ستخدم مصالحه حتى النهاية. ومثلما فعل في العراق حين حلّ الجيش وأجهزة الدولة واستبدلهم بمجلس صُوري تتمثل فيه كلّ القوى المستفيدة من المحاصصة ها هو يدير في ليبيا عملية «مماثلة» ولكن بغطاء «شرعي» هذه المرة توفّره مظلة الأمم المتحدة ومبعوثها الخاصّ إلى ليبيا سابقاً برناردو ليون. أدار ليون عشرات الجلسات بين القوى التي تسيطر على «شطري ليبيا»، وفي النهاية «لم يصل إلى شيء» واضطر تحت ضغط الأطراف الرافضة للصيغة النهائية التي تم التوصل إليها في اجتماع الصخيرات في المغرب إلى الاستقالة، تاركاً منصبه لشخص آخر. فشلت العملية التفاوضية جزئياً، وبفشلها تجذّر واقع الانقسام القائم بين حكومتي طرابلس وطبرق، وتأكّد للجميع أنّ حكم الميليشيات الذي يقف خلف الحكومتين الصُوريتين هو الأساس الوحيد الذي يقوم عليه الواقع الليبي حالياً. لا شيء حقيقياً في ليبيا الآن غير تحكّم الميليشيات بالثروة وادراتها وفقاً لمنطق الفوضى الذي يجري من خلاله نهب ما تبقى بحوزة الشعب الليبي من أموال، بعدما نهبته عائلة القذافي في حقبة سابقة. هذه الدورة لن تتوقّف قريباً، ولن يستطيع الغرب إنهاءها بالسهولة التي أنهى بها مع أتباعه في قطر حكم الدولة المركزية التي كانت توحّد الغرب والشرق وتخضعهما لإدارة واحدة. إدارة فاسدة ومرتشية، ولكنها لم تكن تحتكر الفساد لنفسها بل كانت تسمح لعوائده بالوصول إلى الجميع، حتى لأولئك الذين ثاروا عليها لاحقاً في بنغازي بسبب منعهم من المشاركة السياسية في إدارة الحكم. هذه الإدارة لم تعجب الغرب و»اضطرته» للتدخّل ضدّ النظام الذي تنازل له عن كلّ شي لقاء حمايته، وحينما سقط كان البديل عنه هو الفوضى التي لم يعد بالإمكان تلافيها، فقد تأكّد للجميع أنها دائمة وأن البديل عنها سيكون ربما أسوأ منها.

«خسارة للغرب»

مع هذا الفشل في احتواء الفوضى فإنّ عملية النهب ستتطور ولن تتوقّف عند حدّ. وتطوّرها مرتبط بانعدام الاستقرار واستمرار الانقسام السياسي. هذا الأخير سيتحوّل مع الوقت إلى دينامية قائمة بذاتها، وسيكون له دور أساسي في تحصين شرعية الميليشيات واستقوائها على ما تبقى من أجهزة الدولة. أصلاً هذه الأجهزة تعمل بحماية الميليشيات ولا تستطيع الإتيان بخطوة واحدة من دون استشارتها، وحين تجرب التفلّت تتعرّض مباشرةً للترهيب كما حصل مع رؤساء حكومات صُورية سابقين (علي زيدان مثلاً الذي اختُطف من مقرّ إقامته في طرابلس على يد مسلحين تابعين لإحدى الميليشيات في العاصمة عام 2013). أما الجيش والذي تغيّر ولاؤه هو الآخر بعد سقوط نظام القذافي فليس بعيداً عن حالة الانقسام القائمة، وهذا لا يجعل منه عامل توحيد، وخصوصاً أنه يعلن باستمرار عبر قيادته التي تتبع مباشرة لخليفة حفتر وقواته أنه مع «الشرعية» التي تمثّلها حكومة عبد الله الثني في طبرق. هذه «الشرعية» تدعمها دول موالية للغرب مثل السعودية والإمارات ومصر في حين أنّ «الشرعية» الأخرى القائمة في طرابلس تحظى بدعم دول قريبة من تيار الإخوان المسلمين مثل قطر وتركيا. الطرفان يتبعان سياسياً للغرب ولكنهما في ليبيا يختلفان حول طبيعة الحكم وما إذا كان سيمثّل الإسلاميين أم العلمانيين. عندما أوجد الغرب هذه «اللعبة» بين الحكومتين المواليتين له لم يكن يعلم أنه سيفشل في إدارتها، ويبدو أنه ما عاد سعيداً باستمرارها على هذا النحو. لكن ما باليد حيلة فسلطته كما تَبيّن من إدارته لأزمة «داعش» في سوريا والعراق تقف عند حدود الفوضى التي تسببّ بها. وهو إذ يقف متفرّجاً في ليبيا يعرف أنه يخسر باستمرار الفوضى قدرته على الإمساك الكامل بثروة البلاد من النفط، وهذه المعرفة هي بالضبط ما تجعل منه امبريالية عاجزة وعمياء. تضرب في مكان ولكنها لا تعرف كيف تتعامل مع تبعات ضربتها، وغالباً ما تخسر المصالح التي تقف وراء الضربة. ليبيا بالنسبة إلى الغرب هي «خسارة كاملة» ولو حكمتها إلى حين ميليشيات أو حكومات موالية له، ومن يعتبرها مكسباً للامبريالية يتعيّن عليه إعادة النظر في مفهومه عن «الفوضى التي تخدمها».
* كاتب سوري